من المهم للجانب الكردي في المعادلة أن يتعلم من دروس حالات الانفصال التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، ولعل من أهم هذه الدروس أن الطريق إلى الانفصال ليس سهلا، وأن نتائجه لا تصب في الغالب لصالح المنفصلين
ربما يكون من السابق لأوانه توقع ما سوف يحدث للأزمة الكردية الجديدة الناتجة عن الاستفتاء الذي جرى الأسبوع الفائت، خاصة إذا ترتب عليه إعلان قيام الدولة الكردية بعد أن صوتت الغالبية العظمى من الأكراد لصالح الانفصال عن الدولة العراقية. سيناريوهات المستقبل تبدو غامضة في ظل الإصرار الكردي غير المبرر على إجراء الاستفتاء رغم المناشدات الدولية، والرفض الإقليمي والعالمي الواسع له ولنتائجه، وإصرار الدولة الأم «العراق» على فرض إرادة الوحدة على جميع مواطنيها من منطلق الحفاظ على وحدة التراب الوطني.
تبدو الحالة الكردية نموذجا ضمن نماذج وحالات الانفصال عن الدولة الوطنية وتكوين كيانات سياسية جديدة على أسس عرقية أو طائفية أو دينية، وهي حالات عرفتها البشرية على مر تاريخها ونتجت عنها تغيرات في الخرائط الجغرافية والسياسية، كما أنها حالات لن تنتهي طالما استمرت الحياة على هذا الكوكب. ويكفي للدلالة على ذلك أن نشير إلى أن حمى الانفصال التي لا تعرف حدودا امتدت في الأيام الأخيرة إلى القارة الأوربية العجوز، التي من المتوقع أن تكون قد شهدت الأحد استفتاءً مماثلا للاستفتاء الكردي، للتصويت على انفصال إقليم كتالونيا عن المملكة الإسبانية، التي تقف، مثل العراق، ضد هذا الاستفتاء ولا تعترف بشرعيته وتحاول منعه بكل السبل.
دعونا نتفق أولا على أن الانزعاج العراقي والإقليمي والدولي من انفصال الأكراد عن جسم الدولة العراقية، وتكوين كيان مستقل لهم داخل العراق، يبدو مبررا ومنطقيا، وبالتالي فإن كل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الاتحادية في بغداد لنزع الشرعية عن الاستفتاء الذي تم من جانب واحد ودون موافقتها تبدو هي الأخرى مبررة ومنطقية. في هذا السياق أيضا يمكن تفهم القلق الإقليمي خاصة من جانب إيران وتركيا من قيام دولة جديدة على حدودهما، وعزمهما، مع اختلاف دوافع كل منهما، الوقوف أمام ذلك بكل قوة، بالإضافة إلى القلق العالمي الذي عبرت عنه الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا وبعض المنظمات الدولية والإقليمية مثل الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية.
تم الاستفتاء إذن دون موافقة الطرف الأصيل (حكومة العراق) والأطراف الإقليمية والدولية، وانتهى أمره، لكن بقيت الخطوة الأهم، وهي تفعيل نتائج هذا الاستفتاء وإعلان الانفصال الفعلي وقيام الدولة. والواقع أن الفصل بين الاستفتاء وبين إعلان الدولة ربما كان مقصودا من جانب الأكراد لفتح المجال أمام المفاوضين من جميع الأطراف لتأخير أو ربما تجميد هذه النتائج، في ظل الرفض العراقي الصارم والعزلة المتوقعة للكيان الجديد، والتي بدأت بحظر الرحلات الجوية منه واليه، والتي قد تطول عمليات تصدير النفط.
إذا استخدمنا منهج السيناريو البديل لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في الحالة الكردية، فإن السيناريو المتوقع لما بعد الاستفتاء لا يخرج في تقديري عن احتمال واحد وهو أن ينتهي الأمر بالوقوف عند حد الاستفتاء ولا يتجاوزه إلى ما هو أبعد من ذلك. ويتوقف نجاح هذا السيناريو على حجم وفاعلية واستمرارية التهديدات العراقية والإقليمية والدولية، والتي قد تدفع قادة الأكراد إلى تجميد الوضع بشكل مؤقت، ووقف الحديث عن الانفصال، مع استخدام نتائج الاستفتاء كورقة ضغط على بغداد للحصول على مزايا وحقوق جديدة تدعم الحكم الذاتي القائم بالفعل للأكراد، وانتظار أية تغيرات جيوسياسية في المنطقة قد تعيد الاستفتاء إلى الواجهة وتنقل نتائجه إلى فعل الانفصال في وقت لاحق وفي سياق ظروف دولية وإقليمية مختلفة.
والواقع أن هذا السيناريو يبدو الأقرب إلى التحقق خاصة وأن ضريبة السيناريو البديل قد تكون مكلفة بشريا وماديا للأكراد في ظل الرفض الدولي والعربي الشامل تقريبا للانفصال والنظر إليه على أنه قد يعرقل جهود القضاء على تنظيم «داعش». إن اللجوء إلى هذا السيناريو خاصة من جانب الأكراد سيكون الحل الأمثل، خاصة إذا استوعبوا الدروس المستفادة من حالات الانفصال السابقة. فعلى مدى ربع القرن الأخير انفصلت تسع دول فقط عن الدول الأم التي يتجاوز عددها 200 دولة، ولم تكن كل تجارب الانفصال ناجحة، بل ان بعضها تحقق عبر حروب أهلية ومجازر بشرية، ولا زال بعضها لم يحظ بالاعتراف الدولي فيما لم يحقق البعض الآخر ما كان مرجوًا من الاستقلال عن الدولة الأم. وعلى سبيل المثال فإن دولة جنوب السودان أعلنت انفصالها عن السودان في التاسع من يوليو 2011 بعد حرب أهلية دامية استمرت أكثر من عقدين من الزمن وراح ضحيتها نحو مليوني مواطن. ورغم أن الاستفتاء جاء ضمن اتفاق دولي عبر الأمم المتحدة (اتفاق نيفاشا) ودعمته القوى العالمية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما تفتقده الحالة الكردية، وحاز على نسبة موافقة من سكان الدولة الوليدة بلغت 99 بالمائة، إلا أن الدولة الجديدة انضمت سريعا إلى مجموعة الدول الفاشلة، وما زالت تعاني من العنف العرقي والمجاعة. وقريب من هذا النموذج نموذج دولة كوسوفو التي أعلنت استقلالها عن صربيا في السابع عشر من فبراير 2008، ورغم الدعم الدولي لانفصالها ما زالت كوسوفو تعاني من عدم اعتراف نصف دول العالم تقريبا بها كدولة مستقلة، إذ لم تحظ سوى باعتراف 108 دول فقط وهناك 5 دول من الاتحاد الأوروبي لا تعترف بها، ولم تنضم حتى الآن للأمم المتحدة وتعاني من مشكلات اقتصادية كثيرة.
السيناريو البديل لتجميد نتائج الاستفتاء الكردي يتمثل في تمسك الأكراد بما يرونه حقا وطنيا لهم ويعلنوا الانفصال عن العراق من جانب واحد وقيام دولتهم في المحافظات العراقية التي يسيطرون عليها. في هذا الحالة فإن حربا ضروسا يمكن أن تشعل المنطقة كلها، تتجمع فيها الجيوش العراقية والإيرانية وربما التركية لإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل الاستفتاء. وتبدو الأمور العسكرية محسومة في هذه الحرب لصالح بغداد المدعومة إقليميا ودوليا، بالنظر إلى ضعف إمكانات قوات البيشمركة الكردية الأقرب إلى الميليشيات منها إلى الجيش، والتي لا تملك سلاحا جويا. أما البديل الثاني فيتمثل في استبدال الحصار الشامل بالحرب، وهو حصار قد يؤدى إلى مجاعة في الأقاليم الكردية، وهو ما بدأ بالفعل منذ الجمعة الماضية. هذا الحصار قد يطول وهو ما يضعف الدولة الجديدة وقد يدفع مواطنيها إلى التخلي عن حلم الانفصال عن بغداد.
في هذا التوقيت الحرج يبدو من المهم للجانب الكردي في المعادلة أن يتعلم من دروس حالات الانفصال التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، ولعل من أهم هذه الدروس أن الطريق إلى الانفصال ليس سهلا، وأن نتائجه لا تصب في الغالب لصالح المنفصلين. في المقابل فإن على الحكومة الاتحادية في العراق أن تتعلم أيضا من هذه الدروس وتدرك أن رغبة بعض أقاليم الدولة في الانفصال لها أسبابها التي يجب أن تعالج بسرعة، وأن نجاحها المتوقع، نتيجة ظروف دولية وإقليمية، في تجاوز هذه الأزمة لا يعفيها من مسؤوليتها في التعامل بشفافية وعدالة مع تطلعات أبناء هذه الأقاليم، حتى لا تُبقى نار الانفصال تحت الرماد.
اضافةتعليق