تداعيات ما بعد الانكسار الأمني في الموصل

مرحلة عصيبة هي التي يعيشها العراقيون اليوم ، بعد ان اخترق سهم الارهاب قلب منظومتهم الامنية الهشة التي طالما توارت تحت مظلة السلطة من لهيب الانتقادات ، واستمدت عزمها من زيف الادعاءات والاباطيل الاعلامية المسيسة ، ليتكرر مشهد الانكسار الامني الشامل الذي حصل في الامس القريب وحاول العراقيون تناسيه وازاحته من ذاكرتهم الجمعية ، بيد انه هذه المرة اشد قسوة وتهديدا لمستقبل العراق ارضا وحكومة وشعبا . ولربما كان هذا حكم التاريخ على امة تجيد تكرار اخطاءها ولا تأخذ العبر من تجاربها . وفي الواقع الدامي الذي نعيشه اليوم ، يقف العراق في الخطوط الامامية لمواجهة قوى الارهاب والظلام في معركة وجود تهدد وحدته وامنه ، وتفتح ابواب مستقبله على كل الاحتمالات . ان نقطة الانطلاق في طريق تتبع تداعيات هذا الزلزال الامني على المستقبل ، تتأسس على فرضية قوامها : ان عقارب الساعة لن تعود الى الوراء وان التغيير هو الذي سيفرض نفسه مستقبلا على مشهد الاحداث في العراق ، بعد ان اجهزت هذه الازمة على كل مقومات الاستمرار في هذا المشهد ، لاسيما بادراك ان معركة بمثل هذه الشراسة والثقل ، لابد وان تنطوي على تداعيات مهمة مباشرة وغير مباشرة على ارض الواقع ستترك جراحا على جبين الوحدة الوطنية وبناءاتها السياسية من الصعوبة بمكان تضميدها . وبفحص متأني للتداعيات الامنية المباشرة لهذه الكارثة الامنية ، يشخص امامنا الانكشاف الامني وهشاشة منظومته على كل المستويات الإستراتيجية والتعبوية كافة ، يؤكد ذلك التمدد السريع للقوى المسلحة من جانب ، واستعصاء الحسم العسكري او حتى استرجاع زمام المبادرة العسكرية في الكثير من المناطق التي سيطر عليها المسلحون ، الامر الذي يرجح احتمالية قيام القيادة العامة للقوات المسلحة ، بإجراء مراجعة شاملة لحساباتها وبنيتها الامنية لأسبابفي مقدمتها محاولة تدارك الانهيار الامني الشامل او القضاء على احتمالية تكرار مشهد الاخفاق الامني مستقبلا ، مع السعي عبر هذا المسعى الى تنفيس احتقان الشارع العراقي وتطمينه بتشخيص مواطن الخلل الفادح وتحميل بعض القيادات الامنية مسؤولية الانهيار ،لتكون هذه الاضاحي الامنية مصدا بوجه الانتقادات المسددة الى الحكومة من قبل القوى السياسية المحلية والدولية . وفي سياق المراجعة الشاملة المتوقعة ، يتضح عزم الحكومة العراقية المعلن على استحداث جيش شعبي عقائدي رديف بعد فتح باب التطوع الجماهيري لمواجهة العنف المتمدد في المحافظات الثلاث ، لاسيما بعد تراجع الثقة بإمكانية الاعتماد على جيش من المرتزقة يفتقر الى البناء العقائدي الرصين ؛ فالاعتبارات المعنوية قد مارست الدور الاكبر في هذه المعركة ، ومن خلال هذا الجيش الرديف ستعزز الحكومة مواقعها الشعبية عبر جحافل المتطوعين الباحثين عن دور مؤثر في الاحداث ، فيكون هذا الجيش البديل المدخل الى اعادة انتاج الشرعية والثقة المفقودة . وعلى المدى البعيد لن يستبعد احتمال بروز مشكلة جديدة للحكومة في السيطرة على السلاح والمسلحين ، سواء على مستوى ترويض اندفاعاتهم واستثمار حماستهم او حتى على مستوى ايجاد الدور المناسب لهم وما يترتب على ذلك من تعقيدات ( سياسية واجتماعية وحتى اقتصادية ). وبالمقابل ستغدو مهمة القيادة العامة في مجال اعادة بناء الثقة وتدارك الانكسار المعنوي لقواتها الامنية عسيرة بعد هذا الزلزال وما يعقبه من توابع تتمثل في تنامي القدرات المادية لقوى الارهاب واكتسابها زخما اضافيا بفعل مخرجات المغامرة الاخيرة ، خاصة مع احتمالية لجوءها لتغيير خططها القتالية مستقبلا على ارضية الانفتاح والاختراق المتكرر لبعض المناطق الساخنة . وعلى الرغم من هذه العتمة يمكن تلمس بادرة من الامل على مستوى تحسن العلاقة بين المنظومة الامنية وحاضنتها الشعبية لاسيما في المناطق الساخنة اما لتامين خط العودة او لتدارك اخطاء الماضي التي ستدفعها مستقبلا للمزيد من الحذر والقدرة على الصمود . وبعد الانتشار الكردي في المناطق المتنازع عليها بين المركز واقليم كردستان ، ليس ثمة ضمانة في امكانية استرجاع هذه الاراضي مستقبلا ، اذا ما تشبث بها الاكراد ، او على اقل تقدير حاولوا استغلالها كورقة ضغط ومساومة مع المركز بعد رفع سقف مطالبهم في جميع الملفات العالقة بينها وبين حكومة بغداد ، وبالتالي لايستبعد ان تكون هذه المناطق بمثابة الخطوة الاهم على طريق انفصال كردستان عن العراق في المستقبل . اما على صعيد حصر التداعيات السياسية لهذا الانكسار الامني ، لابد من التسليم ابتداءا ان اجواء الشك والريبة ، قد هذه الازمة اسهمت في اذكاءها بين الفرقاء السياسيين ، بعد ان وفرت لهم ذخيرة ضخمة من الاتهامات المتبادلة لتكون فاتحة عهد لجيل جديد من الازمات السياسية ، تتقدمها مشكلة تشكيل الحكومة ، اذ ستلقي هذه الازمة ظلالا كبيرة عليها بعد ان يحاول كل فريق توظيف محصلتها في تعزيز مواقعه على هرم السلطة .فمن جانبه سيعمل ائتلاف دولة القانون على تلميع صورة مرشحه لرئاسة الوزراء بوصفه القائد الاوحد للمعركة ضد الارهاب الذي يقود جحافل القوات النظامية وغير النظامية بمباركة من المرجعية واغلب القوى السياسية ، اما الائتلاف الوطني فلن ينس حظه بعد انجلاء سحابة المواجهة من استثمار الانكسار الامني في تحميل السيد المالكي وسياساته مسؤولية ما حصل مستفيدين من دعوة المرجعية السابقة والقوى الدولية الى التغيير ، تحت وطأة الحاجة الى التخفيف من الاحتقان الطائفي في المنطقة باعتماد سياسات اكثر اعتدالا وقدرة على رص الصفوف . وهذا يقود بدوره الى استقدام فرضية اعادة بناء البيت الشيعي ذي الابواب المفتوحة على باقي القوى والمكونات ، لتتشكل من رحم ذلك حكومة الوحدة الوطنية القائمة على شراكة المعتدلين . والمتوقع في هذا السياق ان التغيير لن يطال شكل الحكومة وبنيتها فحسب ، بل سيطال ايضا سياساتها التي ستكون اكثر انفتاحا على المكونات واكثر اقترابا من الشعب ومطالبه ، اي انها ستكون حكومة خدمات اكثر من كونها حكومة ازمات ، في محاولة لاسترجاع الثقة الشعبية وتسوية الفجوة بين الحكومة وشعبها ، بفرض الافادة من اخطاء الماضي وتجاربه ، لاسيما اذا اقترن ذلك مع متغير اكثر اهمية نهض من واقع دخول المرجعية بقوة على خط الانقاذ الوطني من خطر الانهيار الشامل عبر التحشيد الجماهيري ، الذي سيكون في المستقبل وسيلتها الحيوية لاكتساب مواقع اكثر تأثيرا في مسارات العمل السياسي وتوجيهه في سبيل التغيير الايجابي . بالمقابل ليس من السهولة بمكان تجاوز احتمالية التصاعد المستقبلي في حدة التوتر الطائفي بين المكونات الثلاثة بفعل عوامل الشحن الطائفي والحماسة الثورية والانقضاض على مسببات الفشل والاخفاق ، ويتفاعل ذلك تحت سقف هذه الاجواء المشحونة بنحو سلبي مع تنامي المطالب بتشكيل الاقاليم في العديد من محافظات العراق ، لاسيما بعد تحصيل التراجع الخطير في رصيد الثقة الشعبية بشرعية ومصداقة القوى السياسية على اختلاف طوائفها ، يصاحبه تراجع مقابل لمستوى هذه الثقة بقدرة الاجهزة الامنية على توفير مقومات الامن والاستقرار في البلاد . وكل ما تقدم سيضعنا امام مشهد مشحون بأجواء التغييرالذي سيقطع بعصفه اغلب اواصر العودة الى الماضي او تكرار احداثه ... والله المستعان على ما يصفون .
التعليقات