الكثيرون وصفوا الازمة السياسية التي يشهدها العراق منذ العاشر من تشرين الاول/ أكتوبر من العام الماضي – وهو التاريخ الذي اجريت فيه الانتخابات التشريعية العراقية – بأنها أزمة سياسية مستعصية، وصلت من خلالها القوى السياسية إلى ما يسمى بالانسداد السياسي، لكن في الحقيقة أن الازمة السياسية الحالية ليست عصية على الحل، بل على العكس من ذلك، فالحلول كثيرة ومتوفرة على ارض الواقع، إلا أن المتغيرات الذي حدثت في هذه المرة اسهمت بشكل كبير في تعقيد الحلول المعروفة سابقاً في حل الازمات العراقية، وهذا بدوره أسهم في ولادة متغيرات وحلول جديدة ادت إلى تعقيد الازمة السياسية الحالية وجعلها متأرجحة بين التوطين والتعويم.
إن الجميع يدرك المعادلة السياسية التي حكمت عملية تشكيل الحكومات العراقية السابقة، ولاسيما في مسألة اختيار رئيس الوزراء، معادلة تقوم على التوافق الإقليمي والدولي بين (إيران والولايات المتحدة الأمريكية) ومن ثم اخذ موافقة القوى السياسية الداخلية المعنية واقصد هنا بالتحديد، التيار الصدري وزعيمه السيد مقتدى الصدر، والمرجعية الدينية بشكل او باخر. وإذا ما فككنا هذه المعادلة في ضوء الازمة السياسية الحالية، نعرف بأن بعض القوى السياسية العراقية قد ربطت قبولها من عدمه بالمعادلة العراقية الحالية، بالموافقة الإقليمية مثل (الاحزاب السنية والكردية والقوى الشيعية القريبة من طهران)؛ لذلك تبقى مسألة اقناع السيد الصدر الفيصل في تحديد شخص رئيس الوزراء المقترح خارجياً. في هذه المرة حرية الصدر اصبحت كبيرة واعطته مساحة كبيرة للمناورة السياسية؛ وذلك لسببين رئيسيين: اولهما، عدم اكتراث السيد الصدر بالدور الإيراني والضغط الذي يمارسه الإيرانيون على الصدر مع بداية تشكيل كل حكومة عراقية بالتهديد والوعيد "كما قال السيد الصدر في بعض لقاءاته السابقة"، ولاسيما بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني واعتزال مرجعية النجف الاشرف عن دورها السياسي الخفي بعد احتجاجات تشرين. ثانيهما، ضعف الدور الأمريكي المباشر في العراق الذي ترك المهمة لحلفاء اخرين وغيرهم مثل الدور العربي والتركي، الذي حاول موازنة الامور بين اقطاب القوى السياسية السنية ودعمها لمشروع الاغلبية الوطنية الذي يريده زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر. وهذا ما اعطى الاخير مساحة وقوة سياسية كبيرة، على الرغم من ان هذه القوة لم تحقق اي شيء بعد ولم تستطيع تمرير انتخاب رئيس الجمهورية حتى الآن؛ بسبب وضع الدستور العراقي وتفسير المحكمة العراقية؛ الأمر الذي دفع بالسيد الصدر ان يناور الإطار التنسيقي بوقت مبكر، مناورات ابتدأها الصدر بانسحابه من المشاركة بالانتخابات العراقية؛ ليملي اشتراطاته السياسية على الإطار التنسيقي وقواه السياسية "فيما بعد" من اجل العودة والمشاركة في الانتخابات التشريعية، مروراً بمناوراته السياسية في ترويج قضية (الصدري القُح) لمنصب رئاسة الوزراء المقبلة، ولم تنتهي مناوراته بالمدد التي اعطاها الصدر إلى القوى السياسية، ولاسيما إلى الإطار التنسيقي في تشكيل الحكومة، سواء كانت مهلة رمضان (الاربعين يوماً) أو مهلة المعارضة المؤقتة (الثلاثين يوماً) التي ما تزال سارية المفعول حتى الآن.
ربما يكون أكبر المتفائلين من (متخصصين ومهتمين وعامة الناس) لم يتوقعوا ان يصمد السيد الصدر كل هذه المدة ويتمكن من مقاومة الضغوط السياسية الاقليمية التي اعلن عنها في خطابه الاخير ، ولعل مقاومته هذه، يعدها البعض بانها السبب الرئيس في تعقيد أزمة تشكيل الحكومة، في حين يراها البعض الاخر بانها الحل والخطوة الاولى في عملية الاستقرار السياسي ومعالجة كل هفوات وفجوات النظام السياسي الحالي وتوطين الازمة السياسية بدلاً من تعويمها –كما حدث في كل مراحل تشكيل الحكومات العراقية السابقة – بعد عام 2003، وما تزال تصر بعض القوى السياسية عليها في عملية تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، مقاومة من شانها أن تساهم في توطين الازمات العراقية وحلها داخلياً من خلال ابعاد المؤثرات الإقليمية والدولية عن الشأن الداخلي العراق. نعم، المسألة تبدو صعبة في بدايتها نظراً للظروف الحالية، لكنها من الممكن ان تكون خطوة بالاتجاه الصحيح، خطوة ربما يجني العراق والعملية السياسية ثمارها مستقبلاً بعد دروة او دورتين انتخابيتين، لاسيما اذا ما سمح للسيد الصدر أن يمضي بمشروعه السياسي في تشكيل حكومة الاغلبية الوطنية وتحمله مسؤولية نجاحها أو فشلها، ومغادرة عرف الحكومات التوافقية؛ لهذا هناك من يعتقد بأن مناورات الصدر وخطابه الراديكالي الاخير وهجومه على الإطار التنسيقي، هي جزء من مشروع يقوده في حصر المسألة العراقية وتوطينها داخلياً وابعاد أو الحد من حجم التدخلات الخارجية في الشأن العراقي بكل صورها، ولاسيما تلك التدخلات التي اسهمت في تعويم الازمات العراقية منذ عام 2003 وحتى الآن، فهل ينجح السيد الصدر في مسعاه ويتمكن من المضي بمشروعه السياسي وتشكيل الحكومة العراقية المقبلة أم ستبقى الأزمة العراقية متأرجحة وعائمة بين الإرادة الإقليمية والدولية؟