حذرت تركيا على لسان وزير الخارجية التركي احمد داود اوغلو من حرب طائفية باردة في المنطقة وقالت ان التوتر السني الشيعي المتنامي سيكون انتحارا للمنطقة بكاملها. وقال قبل زيارته لإيران "دعوني اقول بصراحة ان هناك نية لدى البعض لبدء حرب اقليمية باردة. واضاف ان اثار مثل هذه الحرب ستستمر عقودا. من جهته حذر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان نظيره العراقي نوري المالكي من أن أنقرة لن تبقى صامتة اذا اندلع صراع طائفي في العراق. وقال اردوغان ليس واردا ان تساند تركيا او تناهض جماعة او طائفة عرقية معينة سواء في سوريا أو العراق أو أي بلد اخر في المنطقة.
ويبدو ان الاستقطاب الطائفي في العراق يرتفع قرع طبوله في حالتين، الاولى مع اقتراب مواعيد الانتخابات المحلية والاتحادية، والثانية مع زيادة التوترات الاقليمية، حيث يرى كثير من العراقيين ان مكاسب ديمقراطيتهم الناشئة تحرقها السنة نيران الطائفية العنيفة، فما هي الطائفية؟ وما هو سبب استخدام السياسيين لها كثيرا؟
يعرف معجم أوكسفورد الشخص "الطائفي" بأنه الشخص الذي يتبع بشكل مُتعنّت طائفة معينة، أي إنه الذي يرفض الطوائف الأخرى ويغبنها حقوقها أو يكسب طائفته تلك الحقوق التي لغيرها تعالياً على بقية الطوائف أو تجاهلا لها وتعصبا ضدها، في حين لا يعني مجرد الانتماء إلى طائفة أو فرقة أو مذهب جعل الإنسان المنتمي طائفيا، كما لا يجعله طائفياً عمله لتحسين أوضاع طائفته أو المنطقة التي يعيش فيها دون إضرار بحق الآخرين.
وقد تم استغلال مفهوم الطائفية استغلالاً سلبياً من قبل أصحاب النوايا السيئة وبخاصة في العمل السياسي، فصار يستخدم بشكل سلبي بدلاً من توظيفه ايجابياً بتقوية المجتمع من خلال التنوع الديني والمذهبي.
ويرى بعض الباحثين إن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة لا إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكل سوقا موازية، أي سوداء للسياسة، أكثر مما تعكس إرادة تعميم قيم أو مبادئ أو مذاهب دينية لجماعة خاصة، كما إن الطائفية لا علاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف أو الديانات، إذ من الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الإثنية من دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء دولة طائفية أو سيطرة الطائفية على الحياة السياسية، وبالتالي لتقديم هذا الولاء على الولاء للدولة والقانون الذي تمثله.
إلا إن مفهوم الطائفية أصبح يستخدم بديلا لمفاهيم "الملة والعرق والدين" التي كانت سائدة قبل ذلك، واختلطت هذه المفاهيم جميعاً في بيئة متزامنة فكريا وسياسيا فأنتجت مفهوم "الطائفية" باعتباره تعبيرا عن حالة أزمة يعيشها المجتمع، حيث أصبحت الطائفية مذهباً وإيديولوجية وهوية حلت محل الهويات الأخرى والانتماءات الأعلى، بل وبدأت تتعالى عليها وقد تبدي الاستعداد للتقاطع معها وأخذ موقعها وهذا ما يهدد اليوم وحدة الشعوب كما هو الحال في لبنان والعراق وغيرها، كما إن دول عربية أخرى تتخذ من الطائفية ذريعة لقمع شعوبها التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية.
غير أن الطائفية في العراق ليست وليدة الساعة، بل تمتد جذورها إلى التاريخ لكنها لم تخرج إلى صورة العلن بالشكل الذي نراه اليوم، وذلك لسببين رئيسين:
الأول/ عدم وجود من يغذي مفهوم الطائفية من أبناء الطوائف التي تم إقصائها من المشاركة في الحكم وبخاصة بعد طرد الانكليز وإعلان قيام الدولة العراقية الحديثة عام 1920م حرصاً منهم على وحدة الصف وعدم استغلال النعرات الطائفية من قبل أعداء البلد.
الثاني/ تفرد طائفة واحدة في إدارة شؤون الدولة والحكم آنذاك، والتي عملت على إنكار حقوق الطوائف الأخرى وفرض مفاهيمها الطائفية والفكرية في مختلف مجالات الحياة وفي مقدمتها المناهج الدراسية.
أما في الوقت الحاضر فعوامل التأجيج الطائفي وبعد عام 2003م توفرت بفعل:
أولاً: التواجد العسكري الأجنبي على ارض العراق والمتمثل بالقوات العسكرية الأمريكية، وهذا العامل تراه العديد من القوى السياسية والدينية العراقية هو أس المشكلة الطائفية في العراق بعد سقوط نظام صدام وجعل العراق تحت مظلة الاحتلال، لأن سياسة الاحتلال تتطلب تأجيج الصراع الطائفي لغرض إضعاف شعوب البلدان المحتلة وبالتالي تسهل مهمة السيطرة عليها، وعلى هذا الأساس ترى تلك القوى إن شبح الطائفية في العراق سوف ينتهي بخروج الاحتلال.
ثانياً: التدخل الإقليمي في الشأن العراقي، جميع دول الإقليم العراقي دون استثناء لها مصالح وأطماع تريد تحقيقها بأي طريقة تسهل عليها مهمة الوصول إلى أهدافها، والإبقاء على العراق بلد ضعيف ومنهك سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واجتماعياً، فلم تجد تلك الدول أمامها أفضل من اللعب على الوتر الطائفي وإشاعة الفتنة الطائفية بين المكونات والعمل على تغذيتها بمساعدة حواضن داخلية لها مصالحها الخاصة.
ثالثاً: المؤسسات الطائفية التي فقدت السلطة والحكم، والمتمثلة في الجهات التي استغلت مقدرات الدولة لقربها إلى مصدر القرار في النظام السابق سواء كانت دينية، عشائرية، حزبية أو عسكرية، فولائها المطلق للسلطة الحاكمة جعلها تحظى بامتيازات لم تكن تحلم بها مما جعلها لا تطيق وجود تغير في الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، الأمر الذي جعلها لا تدخر جهداً في إرباك المشهد السياسي العراقي وفي مقدمة ذلك الجهد إثارة الشحن الطائفي.
رابعاً: الأحزاب السياسية المشتركة في العملية السياسية والتي لا تمتلك مشروعاً سياسياً يؤهلها للوصول إلى السلطة، فقد استسلم السياسيون والمنظرون لفكرة اعتبروها بديهية، مفادها أن المجتمع العراقي مجتمع متعدد الطوائف والمذاهب والإثنيات، أو حسب التعبير الشائع (فسيفسائي) وأن هذه التعددية هي المسئولة عن اختراق الدولة بالطائفية، متجاهلين فشلهم في الوصول إلى مشروع لبناء الدولة على أسس بعيدة عن الشحن الطائفي.
وبوجود هذه العوامل برزت في العراق إشكالية "الطائفية السياسية"؛ تلك الإشكالية التي ظلت تلازم الواقع السياسي العراقي بشكل علني، فكانت السبب المحوري للعديد من الأزمات السياسية والأمنية التي عصفت بحال الدولة العراقية منذ ذلك الحين، وأصبحت سمة من سمات العمل السياسي في إطار ما تم تأسيسه من عملية سياسية، وقد تم اعتمادها بشكل كبيرة للحصول على المكاسب الحزبية والسياسية، الأمر الذي جعل البعض يستخدم جميع حيله السياسية (الطائفية) ومنها ظهوره بمظهر المظلوم والمبعد عن حقوقه السياسية ليجد لنفسه مسوغ طلب النجدة والمعونة من قوى خارجية تُنقَل بنغمة طائفية الهدف منها الاستقواء على خصومه السياسيين والوصول إلى غرضه في السلطة والحكم.
فالنداء (الطائفي) ليس بالضرورة أن يصدر من أشخاص متدينين، فمعظم الأحيان تكون "الطائفية" السياسية مكرسة من ساسة ليس لديهم التزام ديني أو مذهبي، بل هو موقف انتهازي للحصول على "عصبية" كما يسميها البعض أو شعبية كما يطلق عليها في لغة اليوم، ليكون الانتهازي السياسي قادرا على الوصول إلى أهدافه.
وبالتالي فإذا كان القول الأرجح إن الطائفية هي من فعل المحتل، فما هو حجم استخدام السياسيين للشحن الطائفي في مرحلة ما بعد الاحتلال؟ وما مدى تقبل الأوساط الشعبية لهذا الشحن في المرحلة القادمة؟
الأمر لا يخلو من وجود محاولة للتخلص من هذه الإشكالية التي تكاد أن تكون مزمنة في الواقع السياسي العراقي، فالبعض يحاول طي صفحة الماضي والبدء بصفحة جديدة لبناء الدولة والبعض الآخر يحاول إيجاد عهود ومواثيق ومؤتمرات وطنية ترسخ لوحدة الصف وتعيد بناء روح المواطنة، وكل تلك المحاولات تبعث الأمل وتزرع التفاؤل في روح المواطن العراقي الذي سئم من فشل القيادات السياسية بوضع العملية السياسية على سكتها الصحيحة، إلا أن ما تفرزه تصريحات السياسيين من مؤشرات ومعطيات تكاد لا تبشر بخير في ظل ما يرشح من تصريحات سياسية تحاول شحن الشارع العراقي طائفياً، وهو ما يمكن أن نضعه في خانة الإفلاس السياسي.
فالطائفية، بالرغم من تحولها إلى إستراتيجية رئيسية عند بعض القوى الاجتماعية للدفاع عن مصالح وامتيازات ومكاسب استثنائية وتكريسها، ليست ظاهرة مستقلة، ولا يمكن دراستها بمعزل عن الأوضاع السياسية والاجتماعية.
وإذا كان ثمة وجود حل لتجنب إشكالية الشحن الطائفي والخروج بالبلد من أزماته الطائفية يجب أن تعمل القيادات السياسية العراقية على:
1- إيجاد نخبة وطنية، لها القدرة على الارتفاع فوق المصالح الجزئية والعصبيات الخاصة، ومنها النعرات الطائفية، حتى تصبح في مستوى المسؤولية الوطنية أو العمومية، أي أن تتحرر النخبة السياسية من تماهياتها الجزئية لتتمكن من تجسيد مثال الوطنية وأن تحرر معها الدولة ومؤسساتها من احتمال ارتهانها للعصبيات الخاصة، حتى تتحول بفضل سياساتها الوطنية إلى دولة أمة، أي دولة مواطنيها.
2- محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات، وهذا الأمر يتطلب شجاعة كبيرة يجب أن يتحلى بها المسئول العراقي في تصديه للمسؤولية، إذ يجب عليه أن ينظر الى مصلحة البلد واحترام القانون والقضاء بعين الحيادية ويبتعد عن تصريف أية مشكلة أمنية أو قضائية عبر خانة الطائفية.
3- منع الخلط بين طائفية المجتمع وطائفية الدولة من اكتشاف خصوصية الطائفية السياسية، والعمل على استئصالها داخل الدولة، وهو أمر ممكن وضروري، بصرف النظر عن وعي المجتمع المدني ودرجة تمثله لقانون الدولة السياسي.
4- القبول بالتعايش داخل الدولة مع ممارسات طائفية عديدة، لأن البعض يرى إن الطائفية داخل المجتمع هي انعكاس للطائفية داخل الدولة.
5- ارتفاع مستوى الوعي بأهمية المجتمع المدني المتعايش خارج اطار القبليات والعصبيات والطائفيات، فكلما زادت روح المجتمع المدني قلت العصبيات الاثنية والدينية، يقول المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) في كتابه الصياغة الجديدة: يلزم زيادة الوعي لتنقلع جذور الحرب والتي هي عبارة عن انحصار العلم والحكم والمال بيد أقلية البشر في قبال حرمان الأكثرية، والوعي كما يعطي الثلاثة بيد الكل كذلك يقرب الناس بعضهم إلى بعض، ويكوّن بينهم علاقات أكثر فلا يتمكن المتعصبون المنحرفون من استغلال البشر في مآربهم الشخصية، ولذا نرى أنه كلما زاد الوعي انكمشت القوميات، واندثرت الطائفيات المنحرفة، وقبرت العرقيات واللونيات والجغرافيات وما أشبه.
إن التوحيد بين منطق عمل المجتمع ومنطق عمل الدولة واعتبار الطائفية التي تمارسها النخب السياسية انعكاسا مباشرا وطبيعيا للتعددية الطائفية التي تسم المجتمعات، يقودان لا محالة إلى الاعتقاد بأن محاربة الطائفية تمر عبر إدانة جميع العصبيات والتضامنات الأهلية وحلها، لتكوين مجتمع خال من العصبيات الأهلية.
اضافةتعليق