على الأحزاب الشيعية أن تدرك جيداً، بأن تجربتها الحاضرة في العراق تمثل قمة التطور في العقل السياسي الشيعي، بغض النظر عن آليات هذا التطور وطبيعة الوصول إليه، وأن الفشل فيها، سيؤدي إلى نتائج عكسية وخيمة، ربما لا تقل خطورة عن تلك النتائج التاريخية التي اسهمت في تحجيم دور الشيعة في الابتعاد عن السلطة عبر التاريخ
ليس من العادة أن نخوض بمثل هذه العناوين، فالعراق ومصلحته فوق كل الاعتبارات والمعتقدات الشخصية، لكن بقدر ما نسعى ونتطلع إلى بناء الوطن، لابد لنا من التطرق إلى المواضيع الحساسة التي تشّكل مفصلا كبيرا من مفاصل نضوج العملية السياسية وبناء الدولة العراقية، لاسيما وأن الأحزاب السياسية الشيعية تقع على عاتقها المسؤولية الأكبر في بناء الدولة العراقية. بهذا القدر لا يمكننا الاصغاء أو الاستماع إلى الأصوات التي تحاول أن تضع تلك العناوين في خانة النظريات المؤدلجة أو الطائفية أو تلك الاصوات التي تريد أن تضع العراق ضمن خانة معينة وفقاً لمزاجها أو تطلعاتها الشخصية أو مصالحها المرحلية الضيقة (الحزبية والسياسية).
إن أغلب الأحزاب الشيعية أن لم تكن جميعها التي وجدت نفسها متصدية للعمل السياسي بعد عام 2003 تختلف فيما بينها من حيث التوجه السياسي والأيديولوجي ومن حيث الطبيعية التكوينية، لكنها تتقاسم بعض المشتركات وأكثرها أهمية وربما "أخطرها" في مسار العمل السياسي، ومن أبرز تلك المشتركات، لعل ما تشترك به تلك الأحزاب في موقفها من النظام السياسي العراقي السابق بشكل عام وصدام حسين بشكل خاص، وطبيعتها الإسلامية وتكوينها الديني، أما القاسم المشترك الثالث والخطير يتمثل في موقفها من الولايات المتحدة الأمريكية.
إن اغلب الاحزاب السياسية الشيعية وقياداتها التي وجدت قبل وبعد عام 2003 سواء تلك التي مسكت السلطة بشكل مباشر أو تلك الأحزاب التي تدور في فلك العملية السياسية العراقية، كان لها تاريخ متفاوت ومختلف بعضها عن البعض الآخر، فهناك من تشّكل في الداخل، لكنه تطّور في الخارج قبل سقوط صدام حسين بعقود، وهناك من تشّكل وتطّور في الخارج وهناك من وجد نفسه مضطراً للعمل السياسي بعد الإطاحة بصدام حسين، فضلاً عن ذلك، فبعضها تجمعه علاقة تاريخية (سياسية وعقائدية) مع إيران، وبعضها استطاع أن يحافظ على المسافة الإقليمية (السياسية والمذهبية) بين العراق وإيران. وعلى الرغم من أن بعض الأحزاب السياسية الشيعية عملت منذ عقود طويلة على اسقاط نظام صدام حسين، إلا أنها فشلت في اسقاطه لسبب أو لآخر، لكنها بقيت متمسكة بهذا الأمل، حتى سنحت لها الفرصة في التخلص من نظام صدام حسين، بعد أن اطاحت به الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2003. هذه المرحلة التاريخية مثلت مفارقة كبيرة في تاريخ الشيعة على المستويين (العقائدي والسياسي)، إذ صار الشيعة البوصلة الأساسية في عملية إدارة الحكم في العراق والقاعدة الاجتماعية الأقوى التي تتحكم بمسارات العملية الديمقراطية، وعلى الرغم من كل المحاولات الإقليمية والدولية لأفشال هذه التجربة، إلا أنها ما تزال قائمة حتى هذه اللحظة، ونضع خطين تحت كملة "هذه اللحظة"؛ لأنها قد تتلاشى بسرعة لأسباب معروفة لا سبيل لذكرها. فالأحزاب الشيعية أو الشيعة بشكل عام وجدوا أنفسهم إمام فرصة تاريخية في الحكم والتخلص من غبار التاريخ الذي حجّم الفكر السياسي الشيعي بشكل كبير، والذي جعله فكرا موازيا للسلطة أو فكر ديني "إصلاحي وارشادي" وفقهي في طابعه العام بعيداً عن السلطة ومكاسبها. من هنا اعتقد بأن الأحزاب السياسية الشيعية يجب أن تضع (التاريخ والحاضر والمستقبل) أمام اعينها في طريقة إدارة الحكم وادراكها للتطورات السياسية (الإقليمية والدولية) وعلاقتها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وأن تحاول جاهدة أن تتبنى نظرية سياسية مدنية ونظرة سياسية محايدة في إدارة الدولة والحكم، تواكب من خلالها التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية الحاصلة في العالم والمنطقة، بعيداً عن النظرة المؤدلجة أو النظرة الضيقة، وأن تأخذ الدرس من تجربة الحركات الإسلامية في دول شمال أفريقيا في تونس والجزائر، التي غيرت صفتها الإسلامية في أطار العمل السياسي فيما بعد، مما مكنها من الاحتفاظ على مكتسباتها السياسية في تلك البلدان. إن الإبقاء على نفس النهج السياسي دون تغيير، يعد واحد من الاسباب الرئيسة التي اسهمت بشكل كبير في ترسيخ حالة الفشل السياسي على مدار الـ 16 سنة الماضية، وستزيد من فرضية الرأي القائل "بأن الحرب الأمريكية على العراق كانت خطأ، وأن الإطاحة بصدام حسين كان سوء تقدير من قبل الولايات المتحدة وإدارة بوش على وجه الخصوص، التي جعلت من الشيعة عماد العملية السياسية في العراق".
انطلاقاً من تلك الفرضية، على الأحزاب الشيعية بشكل خاص والشيعة بشكل عام، أن يؤمنوا بحقيقتين: الأولى التجارب التاريخية، أي بمعنى أن كل اسهاماتهم عبر التاريخ لا يمكنها أن ترتقي إلى المستوى المطلوب بعيداً عن السلطة السياسية أو دون الإمساك بالسلطة بشكل مباشر وإدارة البلد إدارة جيدة، وأن كل المجازر والاضطهادات التي تعرضوا لها عبر التاريخ كانت بسبب الابتعاد عن السلطة وإدارة الدولة. أما الحقيقة الثانية يمكن أن نسميها الحقيقة الحاضرة أو الحقيقة البديهية، أي بمعنى آخر، على الأحزاب الشيعية أن تدرك جيداً، بأن تجربتها الحاضرة في العراق تمثل قمة التطور في العقل السياسي الشيعي، بغض النظر عن آليات هذا التطور وطبيعة الوصول إليه، وأن الفشل فيها، سيؤدي إلى نتائج عكسية وخيمة، ربما لا تقل خطورة عن تلك النتائج التاريخية التي اسهمت في تحجيم دور الشيعة في الابتعاد عن السلطة عبر التاريخ.
نتيجة لذلك، اعتقد بأن مستقبل الاحزاب السياسية الشيعية ومسار العمل السياسي الشيعي على رأس السلطة في العراق مرهون بنقطة أساسية، إلا وهي العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية وطريقة التعاطي معها في الوقت الراهن "على أقل تقدير". وهنا أود أن أشير بأننا لسنا بصدد التنظير للأحزاب السياسية الشيعية أو ننظر لدعوة التطبيع مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، وإنما هي عبارة عن قراءات سياسية واقعية، وربما نضطر إلى العدول عنها في حال تلاشت قوة الولايات المتحدة في النظام العالمي، لصالح القوى الجديدة الصاعدة في الميزان الدولي. ففرضيتنا في ذلك، تحمل شعار "نحن مع الأقوى مع الحفاظ على مصالحنا وتحالفاتنا الإقليمية في المنطقة بعيداً عن سياسة التدخلات وأثارة المشاكل الداخلية واحترام السيادة الداخلية". ولعل ما نشهده اليوم من عملية تغيير في مواقف الأحزاب السياسية السنية في العراق اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية، يبين لنا الطريقة البراغماتية التي تتعامل معها تلك الأحزاب، فموقفها مؤخراً تغيّر كثيراً من الولايات المتحدة بعد ظهور تنظيم "داعش" وسيطرته على المحافظات السنية، وعلى ما يبدو بأن طبيعة التغيير في العقل السياسي السني، نابعة من عمق مصالحه مع الولايات المتحدة الأمريكية، وطريقة تفكيره الواقعي على المستوى البعيد، لاسيما وأن السنة كانوا من أكثر الرافضين لوجود الأمريكان في العراق. وفقاً لذلك اعتقد بان الأحزاب السياسية الشيعية، إذا ما ارادت أن تؤّمن مستقبلها السياسي في العراق والمنطقة، عليها أن تتعامل مع عدة فرضيات بسياسة واقعية "براغماتية":
• فرضية الحليف الأقوى في العالم مع الاحتفاظ بالحلفاء الإقليميين بعيداً عن العلاقات المذهبية.
• فرضية ترسيخ العلاقة المتبادلة بين الأحزاب السياسية الشيعية والولايات المتحدة الأمريكية، بما يؤمن المصلحة الوطنية والابتعاد عن العداء المعلن لها "على أقل تقدير".
• فرضية الحفاظ على وحدة الخطاب السياسي الشيعي اتجاه القضايا الداخلية والإقليمية والدولية.
• فرضية التخلص من سياسة العداء التاريخية التي تحملها الأحزاب السياسية الشيعية اتجاه بعض دول وأنظمة المنطقة والعالم.
اضافةتعليق