اعتلت خطبة الجمعة للمرجعية الدينية في النجف الأشرف على لسان الشيخ عبد المهدي الكربلائي المشهد السياسي والاجتماعي يوم الجمعة الموافق 27/ تموز، إذ تطرقت الخطبة إلى حركة الاحتجاجات التي تشهدها محافظات العراق الوسطى والجنوبية منذ ثلاثة أسابيع. وتأتي هذه الخطبة بالتزامن مع حديث الشارع العراقي عن دور المرجعية الدينية في تصحيح مسار العملية السياسية بعد الفشل المتكرر طيلة السنوات السابقة. هذه الخطبة جاءت على عكس سابقتها التي جوبهت بانتقادات واسعة من قبل الشارع العراقي والمتظاهرين؛ بسبب عدم تطرقها إلى حقوق المتظاهرين في الضغط على الحكومة والقوى السياسية العراقية في تلبية مطالبهم المشروعة. وبعد أن حمّلت المرجعية الدينية الحكومات العراقية المتعاقبة والقوى السياسية الحالية الفشل السياسي والاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ 15 عام، هددتهما بالوقوف مع المتظاهرين في تحقيق مطالبهم في حال تم تسويف مطالب المتظاهرين هذه المرة.
لقد شخصت خطبة الجمعة الماضية مكامن الضعف والخلل في بنية الدولة العراقية وطرق معالجتها، فالمرجعية الدينية أيدت التظاهر السلمي وانتقدت الاجراءات الأمنية ضد المتظاهرين والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة، وطالبت بإلغاء أو تعديل القوانين التي منحت امتيازات لشرائح معينة دون غيرها، وربما قصدت بذلك (السجناء السياسيين وامتيازات البرلمان وجماعة رفحاء والدرجات الخاصة)، كذلك شخصت مكامن الضعف في شخص رئيس الوزراء وطالبت باختيار رئيس وزراء شجاع (على حد تعبيرها)، قادر على محاسبة الفاسدين، وبذلك أشارة واضحة إلى السيد رئيس الوزراء الحالي في عدم قدرته على مكافحة الفساد وتقديم الفاسدين إلى القضاء. وطالبت أيضاً القوى السياسية بالتعجيل في تشكيل الحكومة العراقية القادمة، وأن يتم اختيار رئيس وزراء قادر على تنفيذ برنامجه الحكومي بعيداً عن المحاصصة السياسية، وبعكس ذلك فأن المرجعية لن تسكت، فضلاً عن ذلك، فقد طالبت المرجعية بتعديل قانون الانتخابات وعدم تسيس وتحزيب المفوضية العليا للانتخابات، وطالبت ديوان الرقابة المالية بتدقيق الحسابات الختامية للموازنات السابقة وإعلان النتائج بشفافية عالية، وفي حال تنصلت الحكومة العراقية القادمة عن تعهداتها، لن يبقى إمام الشعب إلا تطوير اساليب الاحتجاج الشعبي.
هذه الخطبة كانت واضحة وصريحة، واعطت مؤشرات دقيقة في تشخيص الواقع السياسي؛ لكونها اعطت تصّورا واضحا للحكومة العراقية في تحقيق ما يمكن تحقيقه من متطلبات مشروعة قابلة للتحقيق وفق سقوف زمنية قصيرة، والتعجيل في تشكيل الحكومة القادمة من أجل الشروع بتنفيذ البرنامج الحكومي المقبل وإصلاح البنية التحتية ومكافحة الفساد، فضلاً عن ذلك، فقد شخصت مكامن الخلل (التشريعي والتنفيذي) بشكل دقيق وقدمت حلولاً لها. وبقدر ما مثلته هذه الخطبة من ضغط سياسي على الحكومة والقوى السياسية، إلا أن الأخيرة بادرت إلى ركوب الموجة بشكل سريع وطالبت الحكومة بتنفيذ ما دعت إليه المرجعية الدينية. فبعض الاحزاب السياسية سارعت إلى نشر خطاب المرجعية وعدته بمثابة برنامج حكومي وخارطة طريق في رسم الخارطة السياسية العراقية في تشكيل الحكومة المقبلة، وهذا ربما يضعنا إمام سيناريو حزمة الإصلاحات التي اطلقها السيد رئيس الوزراء أبان حركة الاحتجاجات التي خرجت مطالبة بالإصلاح السياسي وتشكيل حكومة تكنوقراط ومعاقبة الفاسدين قبل عامين، وحينها اختلط (الحابل بالنابل) وركبت كل القوى السياسية العراقية موجة الإصلاحات من دون تقديم أي تنازلات لتحقيق عملية الإصلاح الحكومي؛ وبذلك لم نشهد أي عملية إصلاح حقيقي في واقع العملية السياسية. وهذا ما يثير مخاوف الجماهير العراقية من أن خطاب المرجعية الدينية سيمر مرور الكرام؛ لأن القوى السياسية العراقية اصحبت محترفة في التنصل وتسويف المطالب الشعبية، وقادرة على القفز فوق الضغط الشعبي وضغط المرجعية الدينية، لكن من الممكن أن تكون المرجعية حازمة هذه المرة عبر التهديد والوعيد في حال تم تسويف الأمور، وأن تضغط من خلال خطبها بين فترة وأخرى على القوى السياسية بأن تتحمل المسؤولية الكاملة إمام الشعب، وأن يتم تهديدها بإجراءات رادعة من خلال الضغط الشعبي. ولهذا قوبلت خطبة الجمعة الماضية من قبل الشارع العراقي بين متفائل بضغط المرجعية على القوى السياسية ووقوفها في صف المتظاهرين وبين متشائم من واقع العملية السياسية بوجود نفس القوى السياسية المتحكمة بقواعد المعادلة السياسية منذ 15 عاماً. وهذا يضعنا إمام تساؤلات عدة تتعلق بدور المرجعية الدينية في رسم الخارطة السياسية للحكومة العراقية المقبلة، وعن جدية القوى السياسية في الرضوخ للضغط الشعبي، وهل ستنجح المرجعية الدينية والمتظاهرين في تحقيق مطالبهم أم سيكون هناك سيناريوهات أخرى أكثر خطورة مما عليه اليوم؟