ان التطورات العلمية الهائلة التي يشهدها العالم اليوم خاصة فيما يتعلق بالهندسة الجينية ، او البصمة الوراثية تجعلنا تقف مبهورين امام عظمة الله – سبحانه وتعالى – على خلق هذا العقل البشري العبقري ‘ فلقد كشفت هذه الدراسات خبايا الخلايا البشرية ورسمت خارطة الانسان الجينية ، وشخصت بعض الامراض الوراثية التي اتقلت كاهله وخلصته منها ، وهذه هي المرحلة التاريخية الجديدة وهي مرحلة ال DNA .
و ال ( DNA) هو مختصر الحامض النووي الديوكسي الريبوزي منزوع الاوكسجين ، وهذا الحامض عبارة سلم حلزوني يتكون جانباه من السكر والفوسفات وتتكون درجاته من القواعد النتروجينية ، والتي تترتب وتتكرر بشكل معين بحيث تعطي صفات معينة ، لما يسمى بالجينات الوراثية. وتتكرر هذه القواعد النتروجينية في الخلية البشرية الى 3.5 بليون مرة .
واول من اكتشف هذا اللغز هما العالمان ( فرانسس كريك وجيمس واتسن) عام 1953 فهذا الDNA عليها الجينات الوراثية ، و هي الشفرة التي تحمل أدق التفاصيل لحياة الانسان
وتعود تسمية ( البصمة الوراثية ) لهذه الجينات المتعددة الى العالم ( اليك جيفري) حيث ا.ثبت ان الحامض النووي يتكرر عدة مرات في تتابعات عشوائية ، وان احتمال تشابهه بين شخصين على وجه الارض يكاد يكون مستحيلا ، لذا في وسيلة من وسائل التعرف على الاشخاص .
ان لاختلاف ( DNA) وتميزه من فرد لاخر جعله دليلا قاطعا للاثبات ، كما ان تنوع مصادر الحصول عليه مكنت من الكشف على هوية الضحايا والمفقودين من خلال اخذ عينة من العظام ، او أي مخلف بشري ( الدم ، اللعاب ، الشعر ).
ولاهمية هذه المعلومات الجينية فقد لجأت بعض الدول الى توفير الحماية الامنية لها من خلال انشاء قاعدة بيانات للصفات الوراثية للاشخاص المشبوهين ، او الجثث المجهولة يمكن اللجوء اليها عند الحاجة .
ولعل اشهرالقضايا التي ارتبط اسمها بالحامض النووي هي قضية د." سام شبرد" الذي أُدِين بقتل زوجته ضربًا حتى الموت في عام 1955 أمام محكمي أوهايو بالولايات المتحدة، وفي فترة وجيزة تحولت القضية إلى قضية رأي عام،فقد عرضت المحاكمة عبر وسائل الاعلام ، ووسط هذا الضغط الإعلامي أُغلِقَ ملف كان يذكر احتمالية وجود شخص ثالث وُجِدَت آثار دمائه على سرير المجني عليها في أثناء مقاومته، قضي د."سام" في السجن عشر سنوات، ثم أُعِيدَت محاكمته عام 1965، وحصل على براءته التي لم يقتنع بها الكثيرون حتى كان أغسطس عام 1993، حينما طلب الابن الأوحد لـ"د. سام شبرد" فتح القضية من جديد وتطبيق اختبار البصمة الوراثية .
أمرت المحكمة في مارس 1998 بأخذ عينة من جثة "شبرد"، وأثبت الطب الشرعي أن الدماء التي وُجِدَت على سرير المجني عليها ليست دماء "سام شبرد"، بل دماء صديق العائلة، وأدانته البصمة الوراثية، وأُسدِلَ الستار على واحدة من أطول محاكمات التاريخ في يناير 2000 بعدما حددت البصمة الوراثية كلمتها.
ومنذ عام 1969 قام التشريع الانكليزي بالنص على امكانية فحص ال( DNA) لاثبات النسب بين الزوجين .
اما التشريع الفرنسي الصادر عام 1994فقد نص في المادة الخامسة منه على ان تحديد شخصية الفرد يكون من خلا ل تحليل البصمة الوراثية له ، لكنه اشترط ان يكون هذا الاختبار مصرح عليه من قبل القاضي المختص ، وبصدد دعوى لاثبات رابطة البنوة.
اما التشريعات العربية فاننا لانجد فيها قانون يعالج موضوع البصمة الوراثية وينص عليه كدليل يمكن اللجوء اليه لاثبات النسب باستثناء قانون الاحوال الشخصية التونسي رقم 75 لسنة 1998حيث نصت المادة الاولى منه على اعتبار البصمة الوراثية التحليل الجيني –كما اطلق عليها- هي دليل من ادلة الاثبات المعتمدة اذ جاء فيها: (( على الام الحاضنة لابنها القاصر ومجهول النسب ان تسند له اسما ولقبها العائلي ، او تطلب الاذن بذلك طبق احكام مجلة الحالة المدنية ، ويمكن للاب او للام او للنيابة العامة رفع الامر الى المحكمة الابتدائية المختصة لطلب اسناد لقب الاب للطفل الذي يثبت بالاقرار او بشهادة الشهود او بواسطة التحليل الجيني .
وعندما نتأمل موقف القانون العراقي نجد انه في قانون الاثبات رقم (107) لسنة 1979و في الاسباب الموجبة تحديدا اشار الى ضرورة الاستفادة من التطور والتقدم العلمي في استنباط القرائن لكنه لم يشر بصورة صريحة الى اللجوء الى البصمة الوراثية بوصفها وسيلة علمية جديدة يمكن الاستناد اليها لاثبات النسب.
اما قانون المرافعات المدنية العراقي رقم (83) لسنة 1969 فلم يتخذ موقفا جديدا غير انه جعل لشخص هو اب ذلك الطفل )). دعاوى النسب من اختصاص محاكم الاحوال الشخصية
في الوقت الذي نص فيه قانون الاحوال الشخصية رقم (188) لسنة1959 وهو موقف الشريعة الاسلامية ايضا، على ان النسب يثبت باحد الوسائل الثلاثة: الفراش ، والاقرار، والشهادة (البينة).
وموقف القانون العراقي واضح بسبب قدم تاريخ صدوره مقارنة بتاريخ اكتشاف البصمة الوراثية الذي كان كما مر بنا عام 1984 وليس هذا بالتاريخ الحديث ايضا مما يدل على ضرورة مراجعة شاملة لقانون الاثبات والمرافعات العراقي ليتماشى مع متطلبات العصر .
ولكن بالرجوع الى المادة (104) من قانون الإثبات العراقي نجد إنها أعطت الحق للقاضي العراقي بالاستفادة من الوسائل الحديثة في العلم لاستنباط القرينة القضائية.
والقرينة القضائية هي استنباط القاضي أمرا غير ثابت من أمر ثابت لديه في الدعوى المنظورة فهي دليل غير مباشر يقوم على الاستنباط.، اي استنتاج وقائع من وقائع أخرى فلا يقع الإثبات فيها على الواقعة ذاتها بوصفها مصدرا للحق بل يقع على واقعة اخرى قربية منها ومتصلة بها إذا ثبتت أمكن للقاضي أن يستخلص منها الواقعة المراد إثباتها.
ولا يمكن لنا وبحسب طبيعة القرينة القضائية ان نحصرها وذلك لاختلاف الوقائع ، وظروف النزاعات في الحياة العملية، فتكون للقاضي سلطة تقديرية تمكنه من استنباط ما يراه من كل ما ياتي به الخصوم من وسا ئل سواء كانت اوراق ، او اقوال ، او مواقف كالحضور او الغياب او الامتناع عن الاجابة . ولقد ازدادت اهمية الاخذ بالقرائن القضائية نتيجة تعقد المنازعات المرفوعة امام القضاء بسبب تطور الحياة وبسبب ما يفرزه هذا التطور من وسائل حديثة في الاثبات، بلغت من الدقة الحد الذي ينفي احتمال وجود الخطأ وبالتالي تكون من الاهمية بمكان اعتمادها والتعويل عليها في الاثبات ومن بين هذه الوسائل الحديثة هو تحليل ال (DNA)
وبالعودة الى نص المادة (104) من قانون الاثبات ، نرى انه اعطى مساحة للاستفادة من وسائل العلم المتطورة صحيح انه جاء مجرد توجيه وكان يجب ان يكون احد الأسس التي يقوم عليها القانون خاصة وان الحياة في تطور دائم. كما ا ن مسالة ترك تقدير هذه الوسائل لمحكمة الموضوع تقيد من قوة هذه الوسائل في الاثبات. فالقاعدة العامة في الاثبات بالقرائن القضائية إنها مقيدة فيما يجوز اثباته بالشهادة في الوقت الذي اثبت فيه العلم دقة هذه الوسائل في الإثبات ، .وسلطة القاضي في الاخذ بالبصمة الوراثية جوازية ، فله ان ياخذ بها او يتركها حسب قناعته وهذا ضعف من جانب المشرع ، لذا هذه دعوة منا الي المشرع العراقي الى استحداث قانون جديد يتعلق بالوسائل الحديثة للاثبات . والتي اهمها هي البصمة الوراثية .
اضافةتعليق