يقسم الاختصاص القضائي في اغلب دول العالم ومنها العراق حسب نوع وموضوع الدعوى إلى ثلاثة أنواع , فهناك القضاء العادي الذي يعد صاحب الولاية العامة بنظر الدعاوى ويشمل محاكم (البداءة , الأحوال الشخصية , الجنح , الجنايات , العمل... الخ) , وهناك القضاء الدستوري الذي يختص ابتداء بالنظر في دستورية القوانين وتفسير نصوص الدستور , وهذه الجهة القضائية في العراق تمثلها المحكمة الاتحادية العليا , ثم القضاء الإداري الممثل في العراق بمجلس شورى الدولة بموجب القانون رقم 106 لسنة 1989 , ويتكون هذا المجلس من عدة هيئات يمارس من خلالها وظيفتيه الأساسيتين ألا وهما الوظيفة الاستشارية كونه مستشارا قانونيا للإدارة والوظيفة القضائية حيث يراقب مدى صحة أو مشروعية القرارات الإدارية فيعدل أو يلغي ماكان منها غير متفق وأحكام القانون ويصدق ماعداها , ويمارس هذه الوظيفة كل من :
• مجلس الانضباط العام : الذي ينظر في مدى مشروعية القرارات الإدارية ذات العلاقة بالموظف سواء في مجال حقوق الخدمة الوظيفية أو في ميدان العقوبات الانضباطية
• محكمة القضاء الإداري : وتنظر في صحة الأوامر والقرارات الإدارية التي تصدر من الموظفين والهيئات في دوائر الدولة وذلك بناء على طعن من ذي مصلحة ( المادة 7/ثانيا-د من قانون مجلس شورى الدولة ) .
وعلى ذلك يتضح أن محكمة القضاء الإداري ماهي إلا جهة قضائية تابعة للقضاء الإداري في العراق مناط اختصاصها وجود قرار إداري يعتقد صاحب المصلحة (المتضرر منه) انه غير متفق وحكم القانون , وذلك في غير القرارات الإدارية التي قد يحدد لها المشرع طريقا أخرا للطعن فيها .
ومن المبادئ المسلم بها في أصول التقاضي أن على صاحب المصلحة أن يتقدم بدعوى (طعن) إلى القضاء المختص ليحصل على ما يطلبه في عريضة دعواه إن كان محقا كليا أو جزئيا فيما يدعيه , ذلك أن الدعوى ماهي إلا طلب شخص حقه من آخر أمام القضاء ( حسب نص المادة 2 من قانون المرافعات المدنية العراقي رقم 83 لسنة 1969 المعدل) .
غير إن المشرع العراقي قد اغفل المبادئ والنصوص القانونية السالفة البيان في مسودة قانون الأحزاب السياسية حينما نظم دور محكمة القضاء الإداري على خلاف طبيعة اختصاصاتها بوصفها جهة قضائية وإنما بوصفها جهة إدارية , وآية ذلك :
1- لقد ورد في المواد (11/أولا , 12 , 13, 14, 16 ) من مسودة القانون المذكور إن طلب تأسيس الحزب يقدم من مؤسسيه إلى رئيس محكمة القضاء الإداري لتدقق فيه المحكمة من حيث توافر شروط التأسيس المحددة قانونا , وبعدها تصدر قرارها بقبول أو رفض الطلب المذكور , وقرار المحكمة هذا يكون قابلا للطعن فيه أمام المحكمة الاتحادية العليا . وماذلك إلا هدم لاختصاص محكمة القضاء الإداري من أساسه , فالمشرع في النصوص المتقدمة يجعل من المحكمة المذكورة جهة إدارية وليست جهة قضائية , والصحيح إن طلب التأسيس هذا يجب أن يقدم إلى الإدارة ( كدائرة شؤون الأحزاب السياسية المرتبطة بوزارة العدل والمنصوص عليها في المادة 19 / أولا من مسودة القانون , أو وزير الداخلية ) وليس إلى محكمة القضاء الإداري , وعلى ضوء رفض الإدارة لطلب التأسيس يكون لصاحب المصلحة ( المؤسسين أو احدهم ) التوجه إلى محكمة القضاء الإداري للطعن بالقرار الإداري المتضمن رفض طلب التأسيس , وفي هذه الفرضية تكون الإدارة خصم في دعوى معروضة أمام القضاء الإداري وهو ما عليه العمل في سوح القضاء الإداري , فهنا تكون الإدارة مدعى عليها . فالمحكمة المذكورة لاتعد جهة إدارية , بل هي تقضي بإلغاء قرارات الإدارة غير القانونية والحكم عليها بالتعويض المناسب إذا أصابت هذه القرارات الأفراد بضرر ما .
2- تقضي المادة (18) من مسودة القانون المذكور بضرورة استحصال موافقة محكمة القضاء الإداري على تعديل النظام الداخلي للحزب وبالإجراءات ذاتها المشترطة لطلب تأسيس الحزب .
3- جاء في المادة (40) جواز حل الحزب بقرار من محكمة القضاء الإداري بناء على طلب مسبب يقدم من دائرة الأحزاب وذلك في الحالات المحددة في المسودة , كما أجازت المادة المشار إليها لدائرة الأحزاب تقديم طلب مسبب مستعجل إلى محكمة القضاء الإداري للحكم بإيقاف نشاط الحزب بشكل مؤقت إلى حين الفصل بطلب الحل .
ولعمري ماهذا إلا خلط بين حروف المعنى وحروف المبنى وبين اختصاصات الإدارة ومراقبة قانونية ممارسة هذه الاختصاصات من القضاء , وأكاد اجزم أن من وضع هذه النصوص لا يفقه من النظام القانوني العراقي شيئا , بل هو لا يفرق بين طبيعة اختصاصات الإدارة وكيفية إصدارها لقراراتها, وطبيعة اختصاصات القضاء الإداري وكيفية إصداره لأحكامه . حيث أن الإدارة قد تصدر قراراتها تنفيذا لنص القانون كتعليمات تسهيل تنفيذ قانون الخدمة الجامعية لعام 2008 , أو بناء على طلب يقدمه إليها احد الأشخاص كطلب الحصول على الجنسية العراقية , أو من تلقاء نفسها لمواجهة حالة معينة كقرارات الضبط الإداري للمحافظة على الأمن العام . وهي في الأحوال جميعها تخضع لحكم القانون .
أما القضاء الإداري فلا يصدر أحكامه إلا بناء على دعوى يتقدم بها صاحب المصلحة وليس بناء على طلبات هذا من ناحية .
ومن ناحية ثانية نجد أن موقف المشرع العراقي في مسودة القانون المذكور غير دستوري فهو يخالف المادة (47) من الدستور التي بينت بان تتكون السلطات الاتحادية من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية تمارس اختصاصاتها ومهماتها على أساس مبدأ الفصل بين السلطات . وكذلك يخالف المادة (98) من الدستور التي نصت على أن (( يحظر على القاضي .....:أولا _ الجمع بين الوظيفة القضائية والوظيفتين التشريعية والتنفيذية ...)) .
وبذلك يكون موقف المشرع مدار البحث هادما لمبدأ الفصل بين السلطات ذلك انه يجعل القضاء الإداري يمارس الوظيفة الإدارية التي هي جزء من وظيفة السلطة التنفيذية وهو ما يختلف عن طبيعة اختصاصه ووظيفته القضائية . ومن خلال ماسبق يتضح لنا الآتي :
1- عدم دستورية التوجه التشريعي في مسودة قانون الأحزاب السياسية بجعل محكمة القضاء الإداري هي المختصة بنظر طلبات تأسيس الحزب وتعديل نظامه الداخلي والموافقة على حله بدون وجود دعوى قضائية .
2- التناقض القانوني الواضح بين نصوص قانون مجلس شورى الدولة المبينة لاختصاص محكمة القضاء الإداري ونصوص مسودة قانون الأحزاب السياسية المحددة لدور المحكمة المذكورة في كونها تنظر في المسائل المذكورة في أعلاه دون وجود قرار إداري سابق , وكما هو معروف في علم المنطق القانوني , المتناقضان لايجتمعان معا ولايرتفعان معا , بحيث إن تحقق احدهما يستلزم انتفاء – أو رفع - الآخر والنصوص مدار البحث الواردة في مسودة قانون الأحزاب السياسية هي الواجبة الرفع .
لذا ندعو السلطة التشريعية إلى تدارك هذه الثغرات الدستورية والقانونية قبل إقرار القانون , وندعو رئيس الجمهورية إلى عدم التصديق على هذا القانون في حال إقراره من البرلمان من خلال استعمال حقه في عدم التصديق على مشروع القانون الوارد في المادة (73/ ثالثا) من الدستور العراقي لعام 2005 .