يجدد التعافي النسبي لمعدلات اسعار النفط الخام الجدل بشأن العديد من القضايا الاقتصادية والمالية في البلدان النفطية، خصوصا ونحن نعيش في موسم اعداد الموازنات العامة المفترض اقراراها قبيل العام القادم. فقد افصحت ديناميكيات اسواق الطاقة مؤخرا عن بوادر نجاح سياسة اوبك (وشركائها) في ابتلاع تخمة المعروض النفطي وتقليص مخزونات النفط العالمية بغية تحريك معدلات الاسعار صوب السعر التوازني المنشود. مع ذلك، ينبغي إدراك حكومات البلدان النفطية كافة بان التعويل على تعافي الاسعار بشكل مستمر يشكل ركيزة هشة تهدد الوضع المالي والاقتصادي فيها وتبدد جهود السنوات الثلاث الماضية في ضبط المالية العامة وتنويع القاعدة الانتاجية واعادة هيكلة الاقتصاد بعيدا عن الادمان المفرط على النفط في التنمية والتمويل. وفي هذا الصدد يمكن رصد ملامح التحديات الاقتصادية والمالية الراهنة التي تعيشها الاقتصادات النفطية بما يلي:
1- رغم التعافي النسبي الذي شهدته اسعار النفط مؤخرا وملامسة حاجز 60 دولار للبرميل (لأول مرة منذ الثالث من يوليو تموز 2015) الا ان المعدلات الجارية هي دون المعدلات التي تطبعت عليها الاقتصادات النفطية بكثير، وهي غير كافية لمجاراة ضخامة النفقات العامة (بشقيها الجارية والاستثمارية) في هذه البلدان. ووفقا للتقديرات فان العراق بحاجة لمعدلات (56.2) دولار للبرميل لسد العجز المالي (علما ان العراق يبيع نفوطه بفارق 10 دولار تقريبا عن مستويات اسعار خام برنت الشهير)، في حين تحتاج المملكة العربية السعودية الى 70 دولار للبرميل والبحرين الى 95 دولار للبرميل اما ليبيا فهي بحاجة الى قرابة 78 دولار للبرميل لسد العجز المالي الحكومي لديها. وقد قفز عجز الموازنة العامة في البلدان المصدرة للنفط إلى قرابة 10.6% من إجمالي الناتج المحلي في 2016، صعوداً من 1.1% من إجمالي الناتج المحلي في 2014.
2- ادى الانخراط البلدان المنتجة للنفط (من داخل وخارج اوبك) في اتفاق خفض الانتاج النفطي العالمي الى هبوط آخر في حجم الايرادات النفطية زاد من تراجع معدلات النمو الاقتصادي فيها، خصوصا لدى كبرى البلدان المنتجة للنفط. ففي دول مجلس التعاون الخليجي مثلا يتوقع ان يصل النمو الاقتصادي الكلي الى أدنى مستوياته مسجلا 0.5 تقريبا، إذا ما تم تمديد اتفاق خفض الانتاج النفطي العالمي الذي تقوده اوبك، وبقاء الاسعار دون تغير كبير.
3- ألزمت المعدلات المتناقصة للموارد النفطية وتفاقم عجوزات المالية العامة الى تبني العديد من البلدان المنتجة للنفط سياسات الضبط المالي التي تتراوح ما بين اجراء المزيد من التخفيضات في النفقات الجارية، وتخفيض فاتورة اجور القطاع العام نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي وزيادة الايرادات غير النفطية. مع ذلك، تفصح التجربة الحالية عن نجاحات محدودة حققتها الحكومات النفطية في تقليص النفقات الجارية للمستويات المستهدفة نظرا لارتباطها ببنود منخفضة المرونة كالرواتب والاجور. كما لم تنجح سياسات الضبط المالي في تقليص القطاع العام بما يحقق الكفاءة ويخفض من الهدر المالي، خوفا مما قد يولده ذلك من تسريح اعداد ضخمة من العاملين وزيادة معدلات البطالة المتفاقمة اصلاً.
4- لا تزال الايرادات غير النفطية غير قابلة للزيادة بما يوازي هبوط الإيرادات النفطية، نظرا لضعف السياسات الحكومية وتشوه النظام الضريبي في الاقتصادات المنتجة للنفط وانتشار الفساد والمحسوبية وعدم القدرة على تحديد وعاء ضريبي شامل يستوعب كافة انواع الضرائب المباشرة وغير المباشرة.
5- تشير بنود معظم الموازنات الحكومية لبلدان الريع النفطي ان غالبية اجراءات ضبط الانفاق الحكومية للتعايش مع سعر نفط منخفض كانت على حساب تقليص النفقات الاستثمارية بشكل حاد، خصوصا مع جمود الايرادات غير النفطية. وقد اضرت تلك السياسات بشكل حاد على معدلات النمو الاقتصادي نظرا لما يلعبه الانفاق الاستثماري من ادوار مهمة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في هذه البلدان.
6- مع تراجع اسعار النفط الخام قبل سنوات، تحول رصيد الحساب الجاري في البلدان المصدرة للنفط في الشرق الاوسط من تحقيق فائض قوامه 228 مليار دولار عام 2014، الى عجز يصل لقرابة 77 مليار دولار عام 2016، خصوصا في تلك البلدان التي تربط عملاتها بالدولار الامريكي.
7- ادت الصراعات الاقليمية الدائرة والاوضاع المالية الصعبة التي تعيشها البلدان النفطية الى تدهور بيئة الاعمال وانخفاض جاذبية الاستثمار فيها ومن ثم تراجع معدلات الاستثمار الاجنبي (المباشر وغير والمباشر) بشكل كبير عن مستويات ما قبل الانهيار النفطي عام 2014.
التعامل مع الاسعار
وفر انهيار اسعار النفط عن المستويات التي تطبعت عليها موازنات الاقتصادات الريعية فرصة جيدة لإعادة النظر بنموذج النمو الاقتصادي غير المستدام والهيكل الاقتصادي المختل في معظم بلدان الريع النفطي. وقد زاد الواقع الجديد من اهمية عزل تدفقات المورد النفطي تدريجياً عن القطاعات الاقتصادية عبر دعم وتحفيز النمو الذاتي للقطاع الخاص بعيداً عن مؤسسات الدولة. ويتطلب منهج التنويع الاقتصادي الاستمرار بسياسات الاصلاح الاقتصادي والمالي التي بدأتها الاقتصادات النفطية منذ سنوات، وان يتم بناء الموازنات العامة على معدلات سعرية منخفضة للنفط ويتم تحويل الفارق الى صناديق استثمارية كما فعلت النروج منذ عقود. كذلك ينبغي تفعيل الإيرادات غير النفطية والحد من الهدر والاسراف الذي يلازم صرف النفقات العامة عبر اعتماد مبدأ العائد الكلفة في الانفاق لضمان الترشيد والضبط المالي. بالإضافة الى ضرورة تضمين خطط وسياسات التنمية والاصلاح الاقتصادي في الموازنات العامة وزيادة درجة الشفافية والرقابة على الاداء المالي للحكومة. من جانب اخر يتطلب واقع سوق العمل دعم القطاع الخاص بالشكل الذي يضمن تحويله لقطاع مولد للوظائف على اسس اقتصادية رصينة. واخيراً يتوجب على البلدان النفطية استغلال الفوائض المالية المتحققة في مدد التعافي النفطي لمشاريع استثمارية معدة اساساً للتصدير لتكون نافذة جديدة للعملة الاجنبية حين تنحسر ايرادات النفط الخام بدلاً من الاستثمار المالي للفوائض وما يحيطه من مخاطر تقلبات اسواق المال العالمية.