منذ أمد ليس بالقصير ظهرت في الساحة الفكرية الاقتصادية تحولات هامة حيال موضوع دور الدولة والقطاع الخاص في المجال الاقتصادي، لتؤكد حقيقة وضرورة ابتعاد السوق عن دور الدولة المهيمن، متجهة وبسرعة نحو القطاع الخاص ليأخذ بمرحلة لاحقة دوراً ريادياً وقيادياً في النشاط الاقتصادي.
وبرز ما اصطلح عليه بالخصخصة كعملية لتقليص دور القطاع العام، ولم يقف هذا الأمر وتلك العملية على الجانب الفكري أو النظري بل وتعداه بشكل متسارع نحو التطبيق العملي، فسادت العالم عملية الخصخصة لتعبر وبشكل جلي عن حقيقة التحولات التي حصلت وتحصل فيه بغض النظر عن نوعية المذاهب الاقتصادية المتبناة، وحالة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أي بلد.
ومن نافلة القول، إن دوافع ذلك التحول ومقاصده كانت كلها تنصب نحو النهوض بالوضع الاقتصادي لأي بلد وتخفيف الأعباء عن الحكومات بالرغم من اصطباغ تلك التحولات بصبغات سياسية في بعض الأحيان، وتأتي عملية الخصخصة انطلاقاً من حقيقة يراها منظروا الاقتصاد الليبرالي الحر إن القطاع الخاص أكفأ بكثير من القطاع العام في أداءه للنشاط الاقتصادي.
وفي العراق، وبعد عملية التحول الاقتصادي الشامل التي حصلت بعد انهيار النظام السابق في (9) نيسان 2003، نجد إن عملية الخصخصة قد تم البدء بها في ظل أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مرتبكة، حتى بدت هذه العملية بكونها عملية تنفيذ دقيقة وصارمة لشروط صندوق النقد الدولي من خلال مراقبته المستمرة لتلك التحولات ورفعه للتقارير الدورية إلى دول نادي باريس الدائنة، لتحقيق المزيد من الضغط على العراق في سبيل الإسراع وزيادة التوجه نحو التقليل من دور القطاع العام وإحلال آليات السوق في الحياة الاقتصادية.
ومع وجود رأي عام أكاديمي ينسجم إلى حد ما مع الخصخصة باعتبارها مجموعة من السياسات والإجراءات المتكاملة التي تستهدف الاعتماد الأكبر على نظام السوق وآلياته في تحقيق التنمية والعدالة، إلا إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلاد قد ازدادت صعوبة بعد إلغاء الدعم الحكومي عن المشتقات النفطية وفرض الضرائب على موظفي الدولة على سبيل المثال، فضلاً عن ارتفاع مؤشرات التضخم بشكل كبير نتيجة لتلك السياسات الاقتصادية، ومع إن الحكومة قد وفرت نظاماً أسمته شبكة الحماية الاجتماعية إلا انه لم يكن فعالاً وشاملاً ليشمل وبدقة من هم يحتاجون إلى ذلك النظام فعلاً.
وبالرغم مما تقدم يطرح مساندو الخصخصة مجموعة الايجابيات تتركز في كونها:
1. زيادة ارتباط عوامل الإنتاج بحركة الأسعار والية السوق باعتبار إن الربح هو المحرك الأساس في هذه العملية من خلال السعي إلى تطوير كفاءة المنشاة الاقتصادية ورفع قدرتها الإنتاجية والقضاء على الروتين .
2. ربط الأجور بالإنتاجية يخلق بيئة منافسة بين العاملين من شانها إن تخلق الإبداع وتشجع الابتكار والتطوير.
3. إن آلية السوق تدفع باتجاه المنافسة الشديدة بين المنشات الاقتصادية التي تسعى نحو إيجاد وتثبيت الموقع الاقتصادي في السوق مما يدفع باتجاه ابتكار الأساليب العلمية الحديثة في الإنتاج والتوزيع والتسويق وإيجاد أفضل السبل من اجل تحقيق هذا الهدف.
4. إن الدافع الجديد الذي يتجسد بعد عملية الخصخصة هو الربح، وان الدعم الحكومي لهذه المنشاة أو تلك والذي كان سائدا والذي يمثل نزيفا مستمرا في أموال الدولة سوف يتوقف، وبالتالي فان السعي المستمر للمنشاة سيكون نحو تحقيق أفضل الأرباح، وإذا ما علمنا إن قيام نظام ضريبي فعال لدى الدولة سوف يقوم بزيادة إيراداتها ومن هنا فان زيادة الوعاء الضريبي الناجم عن زيادة أرباح ونشاط المنشات الاقتصادية سوف يؤدي بالتأكيد إلى تعظيم منافع الدولة.
5. إن المنافسة بين المنشات الاقتصادية سوف يدفع باتجاه الاعتماد على الكفاءات العلمية والتكنولوجية والسعي نحو تحقيق المزيد من الابتكار والتطوير مما يساعد على النهوض الاقتصادي في البلاد.
6. إن تقليل الإنفاق العام من خلال تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية يعمل على تخفيض حجم السيولة النقدية وبالتالي تخفيض نسبة التضخم وتوجيه رؤوس الأموال نحو الاستثمار.
ومن هنا يتبين إن دور الخصخصة يتركز في أنها تؤدي إلى إحداث تغيرات بنيوية وهيكلية في الاقتصاد وفي هيكل الإنتاج تحديدا عن طريق التوازن الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي مابين العرض والطلب من خلال تعزيز دور الأجور والحوافز في تطوير العاملين واستقرارهم وزيادة كفاءتهم الإنتاجية والابتعاد عن المظاهر السلبية التي ترافق نشاطات منشات القطاع الحكومي.
وبطبيعة الحال فان الخصخصة بما جاءت به من ايجابيا ، فانه ينظر إليها باعتبارها تستحدث مجموعة من السلبيات وتكرسها في الواقع الاقتصادي والاجتماعي لعل من أبرزها:
1. افتقاد البلدان المتحولة إلى التخطيط المسبق والمتقن لهذه العملية ، مع غياب للإستراتيجية الشاملة التي من شانها تعزيز دور القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني .
2. افتقار البلدان المتحولة ومنها العراق إلى الأسس والتشريعات والأطر القانونية التي من شانها أن تشيع وتشجع بروز القطاع الخاص وتحرير الأسواق.
3. إن حالة عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي التي يعيشها البلد ومن ثم اختلاف الرؤى بشان تطبيق الخصخصة كآلية للتحول فضلا عن تراكم الديون من شانه إن يعمل على عدم بروز المظاهر الايجابية لها.
4. البعد السلبي الاجتماعي الناجم عن زيادة أعداد العاطلين من شانه أن يعيق وبشكل كبير عملية الخصخصة في العراق.
5. صعوبة تحديد قيمة الأصول والموجودات المشمولة بالخصخصة مع غياب الأجهزة الحكومية والمؤسسات الكفوءة القادرة على إدارة عملية الخصخصة مما يؤدي إلى هدر المال العام وضياعه.
وهناك تساؤل يطرح اليوم بقوة، ما هو مصير الآلاف من الموظفين والعمال والفنيين الذين يعملون في عشرات بل مئات من المشاريع الاقتصادية التي سوف تتعرض إلى عملية الخصخصة؟ هذا الأمر بطبيعة الحال يثير مخاوف كبيرة ويشكل هاجس قلق لدى تلك الشرائح الاجتماعية الواسعة.
وأمام هذا الواقع يصبح السعي نحو إيجاد الحلول المناسبة لمشكلات الاقتصاد العراقي أمراً ملحاً وفي غاية الضرورة، وتصبح عملية تأهيل أو بيع دون تأهيل للمشاريع الاقتصادية قيد الخصخصة موضوعاً يستحق عناء التفكير والتحليل لكل الذين يعنيهم الأمر، وختاماً لا بد من القول إننا نطرح من خلال هذه الورقة تساؤلات مفيدة :
أولا: ألا يمكن دراسة المشاريع الاقتصادية قيد الخصخصة ومن ثم تأهيلها وتشغيلها وفقاً للربحية التجارية وليست الربحية الاقتصادية فحسب؟
ثانياً: ألا يمكن للحكومة أن تواجه الشروط التي يضعها كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بشكل أكثر صرامة حتى يتسنى الأخذ بنظر الاعتبار الأبعاد الاجتماعية لتلك الوصفات التي يقررها هذين الجهازين.
ثالثا: هل باستطاعة الحكومة أن تخلق أجهزة وهيئات قادرة على إدارة عملية التحول الاقتصادي من خلال البيع الكلي أو الجزئي للأصول دون وقوع حالات فساد كبيرة، خصوصاً وان الفساد مستشري في الكثير من مفاصل الدولة الحيوية، كما حصل في روسيا وبعض دول أوربا الاشتراكية سابقاً .
خلاصة الأمر أن على الحكومة أن لا تأخذ بمبدأ الاستغراق في الخصخصة وتترك الحاجات الاجتماعية دون اكتراث ثم تهميش دور الدولة، الأمر المهم هو إعادة توزيع الأدوار بحيث يقوم كل من الدولة والقطاع الخاص بدوره الحقيقي في المجال الاقتصادي الذي لا يستغني صلاحه عنهما.