الأزمة الاقتصادية العالمية: تراجع نيوليبرالي أم أزمة عابرة

تعرضت أسواق المال العالمية خلال الأيام الماضية إلى حالة خطيرة من عدم الاستقرار رافقتها انهيارات كبرى في أسعار الأسهم في الأسواق الرئيسية العالمية وخصوصا الولايات المتحدة الأمريكية التي شهدت اعنف الهزات المالية قبل أيام عندما فقدت أسعار الأسهم فيها بنحو 23 بالمائة من قيمتها، ومن ثم التداعيات التي أعقبت هذه الانهيارات من انخفاض أسعار الأسهم في أسواق لندن وفرانكفورت وباريس وغيرها، وأنت قال هذه الأزمة بهزات ارتدادية في أسواق الخليج إذ بلغت نسبة الانخفاض بنحو 7 بالمائة في البورصة السعودية و4 بالمائة في سوق الدوحة. خلفية الأزمة: منذ نحو عقدين من الزمن يحصد الاقتصاد الأمريكي العديد من النجاحات وحقق الكثير من معدلات النمو السنوية والموسمية والشهرية، وبات ذلك الاقتصاد الحصان الجامح المنطلق بسرعة نحو السيطرة والهيمنة انسجاما مع ما تحقق للولايات المتحدة من مكاسب سياسية كبيرة على الصعيد الدولي ابتدأت بانهيار الاتحاد السوفييتي السابق والكتلة الاشتراكية لتبقى الولايات المتحدة الأمريكية القطب الأوحد في العالم ولو لحين، لكن بالتأكيد إن ذلك الحين ليس قريبا أو على الأمد القصير. ومن هنا فقد حصد الاقتصاد الأمريكي ثمار الثورة التكنولوجية الحديثة وتوجه المستثمرون نحو شركات الانترنت والبرمجيات وبلغت ذروة ذلك النشاط في عام 2000 عندما انفجرت الفقاعة وهي فقاعة انترنت التي أطاحت بكثير من المكاسب المالية التي حققتها تلك الشركات. ومنذ ذلك العام بدأت فقاعة جديدة تنمو وتكبر وتأخذ بالتزايد إلا وهي فقاعة القطاع العقاري، ذلك القطاع الذي اقبل عليه الأمريكان إقبالا شديدا. حينها أخذت قيم العقارات وبالتالي أسهم الشركات العقارية المسجلة بالبورصة بالارتفاع بصورة مستمرة في جميع أنحاء العالم خاصة في الولايات المتحدة حتى بات شراء العقار أفضل أنواع الاستثمار في حين أن الأنشطة الأخرى بما فيها التكنولوجيا الحديثة معرضة للخسارة. وقد زاد ذلك الإقبال من قبل الأمريكان أفراداً وشركات على شراء العقارات بهدف السكن أو الاستثمار الطويل الأجل أو المضاربة. واتسعت التسهيلات العقارية إلى درجة أن الكثير من المصارف منحت ائتمانات وقروض حتى للأفراد غير القادرين على سداد ديونهم بسبب دخولهم الضعيفة. واستمرت الشركات العقارية تجني الأرباح نتيجة لاستمرار ارتفاع أسعار العقارات واستمرار المصارف بمنح القروض العقارية دون قيود كبيرة حتى بدا عام 2007 ليعلن انفجار الفقاعة العقارية التي شكلت الانفجار الثاني بعد انفجار فقاعة الانترنت، حيث هبطت قيمة العقارات ولم يعد الأفراد قادرين على سداد ديونهم حتى بعد بيع عقاراتهم المرهونة. وفقد أكثر من مليوني أميركي ملكيتهم العقارية وأصبحوا مكبلين بالتزامات مالية طيلة حياتهم. ونتيجة لتضرر المصارف الدائنة نتيجة عدم سداد المقترضين لقروضهم هبطت قيم أسهمها في البورصة وأعلنت شركات عقارية عديدة عن إفلاسها. وفي بداية العام الحالي وتحديدا في شهر كانون الثاني بدأت المؤشرات تجسد حالة التراجع في السوق العقارية وتنذر بانفجار الفقاعة العقارية من جديد حيث خسرت الأسهم الأميركية في مؤشرات داو جونز 4.6% وناسداك 9.9%.وعندما قورنت هذه النسبة( حينها) بأخطر أزمة حصلت في الاقتصاد الأمريكي في تشرين الأول عام 1987 إذ سجل داو جونز انخفاضا حادا بمقدار 22.6% أي بنسبة فاقت بكثير النسبة التي تحققت في بداية العام، ومع ذلك فأن الأزمة الراهنة اخطر لأنها نجمت عن تراجع الاستهلاك الفردي في حين كان ارتفاع أسعار الفائدة السبب الأساس في أزمة عام 1987. حقيقة الأزمة الحالية تعرف الأزمات الاقتصادية Economic Crises بأنها اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي في بلد ما أو عدة بلدان. وهي تطلق بصفة خاصة على الاضطراب الناشئ عن اختلال التوازن بين الإنتاج والاستهلاك. ويستعمل الاقتصاديون الغربيون اصطلاح الدورة Cycle بدلا من كلمة Crises التي تدل على الأزمة، بينما يلاحظ أن هناك فرق بين التعبيرين، فالأزمة تدل على الاختلال أو الاضطراب في حين أن الدورة Cycle تدل على الانتظام في التعاقب الذي تخضع له الظواهر الطبيعية. تتجسد الأزمة الراهنة التي عصفت بالاقتصاد الأمريكي بحدوث أزمة مالية شديدة انتقلت تداعياتها إلى الأسواق المالية لمختلف الدول وبات علاجها عسيرا.ولعل تزايد ظاهرة الذعر المالي لدى المواطنين في البلدان التي ضربتها الأزمة وتوجههم نحو سحب أموالهم من المصارف وتزايد هذه الحلقات بسرعة غير متوقعة أدى بشكل واضح إلى انهيارات مالية في كبريات المصارف الائتمانية ولعل أهمها (مصرف ليمان بروذرز)، وعندما ينظر إلى الأزمة الحالية لا يمكن الجزم قطعا بكونها أزمة جزئية بحيث إنها تقتصر على القطاع العقاري بل أصبحت شاملة تؤثر مباشرة على الاستهلاك الفردي الذي يشكل ثلاثة أرباع الاقتصاد الأميركي وهو بالتالي الأساس الذي ترتكز عليه حسابات معدلات النمو. ولا تأتي الأزمات المالية من فراغ بل تتفاعل مع الوضع الاقتصادي الكلي الذي يعاني في الولايات المتحدة من مشاكل خطيرة في مقدمتها عجز الميزانية واختلال الميزان التجاري وتفاقم المديونية الخاصة والعامة إضافة إلى الارتفاع المستمر لمؤشرات البطالة والتضخم والفقر. كيف استطاعت الولايات المتحدة توظيف المؤشرات السلبية؟ لا تقتصر الأزمة في الولايات المتحدة على قيم الأسهم كما أسلفنا بل تشمل الاقتصاد الحقيقي بكل مفاصله، فهي أزمة اقتصادية بدأت منذ سنوات عديدة ولا تزال في طور التشكل والتطور والاستفحال، أنها أزمة ليست حكومية فقط بل تمتد لتشمل الشركات والأفراد، ويمكن إبراز أهم معالمها في النقاط التالية: 1. الفجوة الكبيرة بين القطاع المالي والقطاع الحقيقي : لعل الملفت للنظر إن الاقتصاد الأمريكي يعطينا مؤشرا خطيرا وواضحا عن عمق هذه الفجوة ، إذ يلاحظ أن حجم التداول في سوق (الوول ستريت) يبلغ بنحو ( 34) تريليون دولار فيما يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بنحو ( 13) تريليون دولار وفقا لعام 2006مما يعطي مؤشرا عن الفجوة الكبيرة والواضحة بين الاقتصاد المالي والاقتصاد الحقيقي. 2. العجز التجاري:يلاحظ إن العجز التجاري الأمريكي يزداد منذ عام 1971، إذ انه لم يسجل أي فائض بل عجز يزداد سنوياً وصل في عام 2006 إلى 758 مليار دولار. ويعود السبب الرئيسي إلى عدم قدرة الجهاز الإنتاجي خاصة السلعي على تلبية الاستهلاك. 3. عجز الميزانية: يقدر العجز المالي الأمريكي في ميزانية عام 2008 بمبلغ 410 مليار دولار أي 2.9% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا يؤكد ضرورة الاهتمام بالتوازنات الاقتصادية وليس المالية، ويغلب الطابع العسكري في الولايات المتحدة على النفقات العامة والطابع السياسي على الضرائب،ولا يهدف الإنفاق العام إلى التشغيل بقدر ما يهدف إلى تمويل العمليات الحربية الخارجية، كما أن الضرائب تستخدم كوسيلة للحصول على أصوات الناخبين بدلاً من الحصول على إيرادات لتمويل العجز المالي. 4. المديونية: أظهرت إحصاءات وزارة الخزانة الأميركية ارتفاع الديون الحكومية (الإدارة المركزية والإدارات المحلية) من 4.3 تريليونات دولار في عام 1990 إلى 8.4 تريليونات دولار في عام 2003 وإلى 8.9 تريليونات دولار في عام 2007. وأصبحت هذه الديون العامة تشكل 64% من الناتج المحلي الإجمالي. وبذلك يمكن تصنيف الولايات المتحدة ضمن الدول التي تعاني بشدة من ديونها العامة. يعادل حجم هذه الديون عشرة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لجميع الدول العربية ويعادل ثلاثة أضعاف الديون الخارجية للدول النامية. ولا يتوقف ثقل المديونية الأمريكية على الإدارات الحكومية بل يشمل الأفراد والشركات أيضاً. فقد بلغت الديون الفردية 9.2 تريليونات دولار منها ديون عقارية سبقت الإشارة إليها بمبلغ 6.6 تريليونات دولار، أن هذه الديون العقارية التي ساهمت مساهمة فاعلة في الأزمة المالية الحالية وتشكل أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي. أما ديون الشركات فتحتل المرتبة الأولى من حيث حجمها البالغ 18.4 تريليون دولار. وبذلك يكون المجموع الكلي 36 تريليون دولار أي ثلاثة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي.وتعد هذه الديون بذاتها أزمة اقتصادية خطيرة تواجهها الولايات المتحدة الأمريكية. كما تعاني الولايات المتحدة من مشاكل اقتصادية أخرى في مقدمتها التضخم الذي تجاوز 4% والبطالة التي تشكل 5% ، مع تراجع الأهمية النسبية للصناعة من مجموع الناتج، وانتشار مساحة الفقر في المجتمع الأمريكي فضلا عن تردي الخدمات التعليمية. لا تقتصر خطورة الأزمات المالية الأميركية على إفقار الملايين من الأميركيين بل تمتد لتشمل التأثير السلبي على الوضع الاقتصادي العالمي وقد يصل الأمر إلى الاحتلال العسكري، إذ انه ومع اشتداد الأزمات تحاول الإدارة الأمريكية دائما بالتفتيش عن الحلول الخارجية، وقد يكون التدخل العسكري الأمريكي في الكثير من مناطق العالم دليل ضربة استباقية للحد أو الوقوف بوجه الأزمات المتوقعة الحدوث، فالتدخل العسكري يعني مزيد من الإنفاق الذي يعني زيادة الطلب الكلي وخصوصا في جانب الاستهلاك وبالتالي المحافظة على مستوى معين من الإنتاج الذي يضمن الربح وعدم تراجعه للشركات الأمريكية وفتح السوق الواسعة أمامها والقضاء على مشكلة ضيق السوق الذي ينجم عن احتدام المنافسة في ظل الاقتصاد المعولم، وهذا ينسجم بشكل طبيعي مع المبادئ الرأسمالية التي تبيح استخدام شتى الوسائل ومنها الاحتلال العسكري كما حصل في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين من اجل الاستحواذ على المواد الأولية الرخيصة وفتح الأسواق أمام السلع النهائية المصدرة. ومادام أن العولمة الاقتصادية هي تطبيق وإحياء للفكر الليبرالي الكلاسيكي بشكله الحديث فان ما يحصل اليوم هو تأكيد على روح الرأسمالية العنيفة التي تسحق الآخرين تحت مبررات المصالح وتحقيقها. الحلول وآفاق المستقبل مهما تكن الحلول المطروحة ومهما تكن المسميات، فان خطة الإنقاذ المقترحة من الإدارة الأمريكية لإنعاش الاقتصاد الأمريكي لا تتعدى كونها خطة مالية لإنقاذ قطاع المصارف مع تدخل واضح لكثير من البنوك المركزية في العديد من بلدان العالم التي ضربتها الأزمة والذي تجاوز بقيمته المالية نحو نصف تريليون دولار أي أن حلول الأزمة الحالية كانت حلولا دولية مشتركة بغض النظر عن الحلول الأمريكية، وبالرغم من قناعتنا إن هذه الخطة سوف تحقق الهدف المطلوب الذي يتجسد في الخروج من حالة الاختناق والحصار الذاتي والارتباك المالي للاقتصاد الأمريكي، إلا أن الأزمة الحالية تعطي دلائل ومؤشرات أكيدة بأنها سوف لن تكون الأخيرة، وان الاقتصاد الأمريكي سوف تعصف به أزمات قادمة ربما تصبح حينها ( المهدئات ) المستخدمة غير ذات جدوى في مواجهة (العلل والأمراض) التي ستصبح حلولها مستعصية بسبب المعايشة التي تحصل بين الفيروس المسبب والمضادات الحيوية. ومن نافلة القول، نجد إن الدعوة لخطة الإنقاذ المقترحة لحل الأزمة تتجسد في حلول مالية بحتة من شانها إنقاذ قطاع المصارف والمؤسسات المالية التي أشهرت إفلاسها، ولكن ذلك يستدعي ببساطة تدخلا حكوميا وهو منافي للمفاهيم والمبادئ والأسس التي قامت عليها النيوليبرالية الجديدة، مما يعطي دليلا واضحا على إن الغرق والمغالاة في تلك الممارسات الرأسمالية سيقود الاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي برمته إلى حافة الانهيار والفوضى، وربما يرسم معالم لخارطة جديدة من شانها إعادة توزيع مراكز القوى في العالم من جديد.
التعليقات