بشكل عام هناك علاقة وثيقة بين الماضي والحاضر من ناحية والمستقبل والحاضر من ناحية أخرى في بناء الاقتصاد.
حيث ان الاقتصاد الحالي قائم على تخطيط ومسيرة الاقتصاد في الوقت الماضي، كما ان مستقبل الاقتصاد قائم على تخطيط ومسيرة الاقتصاد في الوقت الحالي.
بمعنى ان بناء الاقتصاد تراكمي وليس فجائي، فالاقتصاد الذي ينطلق بالاتجاه الصحيح بالتزامن مع توافر السياسات الداعمة له سيستمر في النمو والتطور، والاقتصاد الذي ينحرف في انطلاقه منذ البداية سيزداد انحرافاً مع مرور الوقت.
وفي بعض الاحيان ينطلق الاقتصاد انطلاقة بالاتجاه الصحيح لكن بمرور الوقت تعترضه انعطافه شديدة وإذا به يسير بالاتجاه المعاكس، والعكس صحيح، أي ينحرف منذ انطلاقته الاولى وإذا تعترضه انعطافه تصحح مساره بالاتجاه الصحيح.
تجب الاشارة، بهذا الصدد؛ الى ان ثقافة المجتمع تلعب دوراً كبيراً في تصحيح مسيرة الاقتصاد من عدمه، لان المجتمع الواعي لا يسمح لأي جهة، داخلية كانت أو خارجية؛ من التحكم والتلاعب باقتصاده ولقمة عيشه، عكس المجتمع غير الواعي.
وهذا هو حال اغلب الاقتصادات ومن بينها الاقتصاد العراقي، حيث يعتمد بشكل رئيس على الدولة والنفط قبل وبعد 2003.
اثار الماضي
قبل 2003
كان نظام الحزب الواحد، سياسياً؛ هو من يدير دفة البلاد، قبل عام 2003؛ ونظراً لاعتماد هذا الحزب السياسة الصلبة في التعاطي مع الاحداث والمواقف؛ داخلياً وخارجياً؛ أدخل الاقتصاد والمجتمع في نفق مظلم لايزال يعاني اثاره.
حيث اعتمد الاقتصاد العراقي على الدولة منذ ثورة عام 1958 حين جاءت الشيوعية وأممت عناصر الانتاج وبدأ التخطيط الاقتصادي يأخذ دوره شيئاً فشيئاً حتى أصبح له الدور الرئيس في الاقتصاد حتى عام 2003.
ان هيمنة التخطيط على الاقتصاد، يعني الغاء الحرية الاقتصادية ومحدودية الملكية الخاصة وضعف المنافسة وعدم بناء ثقافة الاستقلال الاقتصادي بل تحطيم الاهلية الاقتصادية للمجتمع في تحقيق مشاريعه الريادية.
ما عزز من تعاظم دور الدولة في الاقتصاد العراقي هو النفط، خصوصاً مع ارتفاع ايراداته خلال حقبة السبعينيات بحكم تأميم النفط عام 1972 وصدمة النفط الاولى، حين امتنع العرب عن تصدير النفط للدول المتحالفة مع اسرائيل في حربها على فلسطين) حين ارتفعت اسعار النفط من 3 دولار عام 1973 الى 10 دولار للبرميل الواحد عام 1974.
بمعنى ان الدولة والنفط اندمجا مع بعضها البعض وهيمنا على الاقتصاد واستمرا لمدة ليست بالقصيرة حتى خلقا مجتمعاً فاقد الاهليّة السياسية والاقتصادية كما اتضح بعد 2003 على ارض الواقع (تعثر سياسي واقتصادي واضح)
بعد 2003
حيث اتجه العراق نحو نظام اقتصادي جديد بعد سقوط النظام السياسي بفعل التدخل الخارجي وبشكل غير مدروس عام 2003، وتبني الديمقراطية والسوق كأنظمة لتسيير السياسة والاقتصاد وفقهما.
وبحكم عدم وجود خطة للتحول السياسي والاقتصادي وتم تطبيقهما بشكل مزدوج وبدفعة واحدة، أصبح غياب الاستقرار هو السمة الغالبة بعد 2003.
حيث لم يتم اسقاط النظام وحسب، بل تم اسقاط الدولة برمتها، ونظراً لعدم وجود مشروع سياسي وطني واقتصادي؛ جامع مانع؛ لم تسير سفينة البلاد بشكل انسيابي، واستمرت الاحداث بالتوالي لغاية اليوم، أبرز تلك الاحداث، الطائفية والارهاب والفساد وضعف الاقتصاد وداعش وغيرها.
حيث ظل اسير الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية، مما افقد القرار الوطني تأثيره في بناء اقتصاد متين قادرة على استيعاب متطلبات ابناءه ومواجهة التحديات.
ورغم الاستقرار النسبي الذي يشهده العراق حالياً، على المستوى الامني والطائفي، إلا انه على مستوى الفساد وضعف الاقتصاد لايزال في حالة تدهور، ونظراً لأهمية الشفافية وقوة الاقتصاد في تحقيق الاستقرار، لا يمكن التفاؤل بمستقبل العراق.
تحديات المستقبل
المشكلة الاكبر، بالتزامن مع غياب المشروع الوطني السياسي والاقتصادي واستمرار توالي الاحداث؛ هي التحديات المستقبلية التي ستواجه الاقتصاد العراقي، المتمثلة نفاد النفط او انخفاض أهميته وتغيّر المناخ.
نفاد او انخفاض اهمية النفط
حيث يمتلك العراق حالياً 145 مليار برميل كاحتياطي نفطي مؤكد، ويتراوح انتاجه بين 4 – 4.5 مليون برميل يومياً؛ ومع افتراض العوامل الاخرى، فان مدة نفاد النفط العراقي لا تتجاوز 95 عام.
قد لا ينفد النفط، لكن تنخفض أهميته الاقتصادية نتيجة البحث المتسارع عن البدائل والتوجه نحو الطاقة النظيفة والمتجددة، حيث تشير تقارير الطاقة الدولية، ان مبيعات السيارات الكهربائية ارتفع من 600 الف سيارة عام 2015 الى 13 مليون سيارة عام 2023 ومن المتوقع ان ترتفع الى 38 مليون سيارة عام 2030.
هذا ما سيقلل من أهمية النفط عالمياً وانخفاض اسعاره وايرادات الدول التي تعتمد عليه بشكل كبير والعراق من بينها.
تغيّر المناخ
تأثير تغيّر المناخ لا يقل أهمية عن تأثير نفاد او انخفاض اهمية النفط، حيث ان تغّير المناخ لا يعني ارتفاع درجات الحرارة وحسب، لان الارض عبارة عن نظام، كل شيء متصل، وان التغيّر في منطقة واحدة يمكن ان يؤثر على جميع المناطق الاخرى.
يُعد العراق من بين أكثر الدول تأثراً بتغيّر المناخ، حيث احتل المرتبة 169 من اصل 180 دولة في المؤشر الفرعي(تغيّر المناخ) لمؤشر الاداء البيئي، لأسباب عديدة، داخلية وخارجية؛ يمكن الاطّلاع عليها في المقال المنشور على موقع المركز بعنوان " العراق في مؤشر الاداء البيئي".
حيث سجلت المنظمة الدولية للهجرة في نهاية عام 2021 ما يُقارب 20 الف نازح بسبب ندرة المياه وارتفاع الملوحة ورداءة نوعية المياه في جميع انحاء العراق، وقد يزداد النزوح بشكل كبير مع اشتداد التغيرات المناخية.
خلاصة لما سبق، ان العراق يعاني من اثار الماضي المتمثلة في عدم بناء المجتمع سياسياً واقتصادياً قبل عام 2003 وتفاقم الفساد واستمرار ضعف الاقتصاد بعد 2003، وتحديات المستقبل المتمثلة في نفاد النفط او انخفاض اهميته وتغيّر المناخ في ظل استمرار الاعتماد على النفط.
توصيات
ولأجل بناء اقتصاد حقيقي قادرة على المسير قُدماً من الضروري العمل على:
اولاً، بناء مشروع سياسي وطني جامع لأطياف الشعب العراقي تحت هوية موحدة، دون الاضرار بالهويات الفرعية؛ ومانع لحدوث النزاع وطغيان الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية.
ثانياً، ايجاد رؤية اقتصادية واضحة وترجمتها على ارض الواقع بشكل عملي لتكون قادرة على انتشال الاقتصاد العراقي من مأزق الدولة والنفط الى السوق والاستدامة.
ثالثاً، مكافحة الفساد ومحاربته، لأجل جعل بيئة الاعمال بيئة محفزة للاستثمارات الوطنية وجاذبة للاستثمارات الاجنبية.
رابعاً، الاهتمام بالبنية التحتية، حيث ان عدم وجود بنية تحتية متطورة يعني ارتفاع تكاليف الانتاج وانخفاض الارباح وتثبيط الاستثمار، فالاهتمام بالبنية التحتية يعني مزيد الاستثمارات وتحفيز الاقتصاد.
خامساً: وضع خطط استراتيجية كفيلة بمعالجة تأثير التغير المناخي، من الآن؛ لان العراق من بين البلدان المتأثرة والتي ستتأثر بشكل كبر مستقبلاً.
مصادر تم الاعتماد عليها
1- منظمة الامم المتحدة.
2- منظمة اوبك.
3- وكالة الطاقة الدولية.
4- المنظمة الدولية للهجرة.