أشارَ البنك الدولي في تقريره الاخير بخصوص العراق أن ما نسبته 25% من السكان هم فعلا تحت خط الفقر، وأن أثر الجائحة والتخفيض الاخير في العملة المحلية قد يضيفان حوالي 5 ملايين فقير آخر ، وبغض النظر عن واقعية هذه البيانات، فان مناقشة مسألة الفقر في بلد يشكل خامس احتياطي (مؤكد) من البترول في العالم ، ويصدر أكثر من 3.25 مليون برميل يومياً ، ويتمتع بامكانات بشرية وثروات طبيعية هائلة هي مسألة معيبة بحد ذاتها.
يتسم الاقتصاد العراقي بأنه اقتصاد السلعة الواحدة ، وهو مرتبط بها عمليا، وبالتالي إنَّ اي ضرر يصيب انتاج وتسويق هذه السلعة سينعكس مباشرة على حياة الناس. فالحكومة هي المشغل الاكبر والمتحكم بالثروة، وقد اكتفت بدور (الموزع) وفشلت بلعب دور (المستثمر) أو (المنظم) ، وإطمأنت لعوائد البترول بتحصيل ايرادها ، وليس كما تفعل دول العالم باعتمادها على موارد اقتصادها الانتاجية ، اعتمدت مبدأ (البئر المنتج) وليس (المجتمع المنتج)، خطورة هذه السياسة تكمن في ان انتاج ونقل وتسويق وتسعير ناتج البئر هو ليس بيد الحكومة ! وبالتالي فان ايراداتها رهن الخارج والسوق العالمية. فمن المؤكد ان ايراداتها ستتأثر جراء الجائحة والاغلاقات التي تبعتها، ومن ثم ستتأثر قدرتها على الوفاء بالتزاماتها للداخل والخارج.
الجائحة وما نتج عنها من اغلاقات وخفض الطلب على الطاقة أدت الى خفض معدل النمو بنسبة كبيرة ، لان البترول يشكل 40% من الناتج القومي الاجمالي ، ثم جاء موضوع تخفيض قيمة العملة المحلية ليشكل هماً اخر للمواطن الذي انخفض دخله الحقيقي بنسبة تزيد على 20% ، وزيادة بالاسعار أدت الى ارتفاع التضخم ، وبتنا نعاني من ركود اقتصادي وزيادة مستمرة بالاسعار، وإنخفاض معدلات النمو مع إرتفاع معدلات البطالة ، وهو مايندر تواجدهم معا فى الظروف الطبيعية ، أي بتنا في وضع (الركود التضخمي) Stagflation وهو وضع سيئ سيعاني منه المخطط الاقتصادي لانه سيضعه اما احتمالات متضاربة، فلا هو قادر على معالجة جانب الطلب بزيادة المعروض النقدي لانه سيؤدي لمزيد من التضخم، ولا هو قادر على ممارسة سياسات تقشفية لان ذلك سيؤدي الى مزيد من الركود !!
عندما تزداد البطالة وترتفع الاسعار في نفس الوقت سيصعب احداث فرص عمل واستقرار بالاسعار معاً.
تُصَمم ستراتيجيات تخفيض مستويات الفقر عادةً بناءً على مفهوم معالجة أسبابه ، سواءً كانت متعلقة بالفرد (ضعف التعليم، المرض، الاعاقة، عدد أفراد الاسرة ، ضعف الرغبة بالعمل) او بالمجتمع (الوضع الاقتصادي العام ، البطالة، تدني الاجور، التمييز العرقي او النوع الاجتماعي، فرص الحصول على عناصر الانتاج ) او بالبيئة (تغير المناخ، الحروب والكوارث ..الخ)
يبدو من الواقع الاحصائي أن البطالة ، وسوء توزيع الثروة ، يشكلان السببين الرئيسيين في تفشي الفقر في العراق، وبالتالي تبرز أهمية التركيز على معالجة هذين السببين.
الفقر هو الناتج الابرز للبطالة ، ويرتبط بها طردياً، ويتعاظم مع غياب دعم العاطلين عن العمل. لذا فان تفعيل النشاط الاقتصادي غير الحكومي يشكل حلا مستداما لمشكلة البطالة والفقر ، يفوق في اهميته كل أشكال الدعم المباشر (العيني أو النقدي) للفقراء. فهناك خلط واضح بين الفقر الناتج عن البطالة ، والفقر الناتج عن عدم القدرة على العمل، فالاول يعالج بتمكين الفقير القادر على العمل من فرصة العمل، والثاني يعالج من خلال شبكات الضمان الاجتماعي، ولا يصح ان يعالج الاثنان بنفس طريقة الاعانات.
على مدى 18 سنة الماضية اعتمدت الحكومة سياسة التوظيف الحكومي والاعانات والقروض الشخصية والمنح كسياسة لتوزيع الثروة أكثر منها سياسة لتوفير الخدمات العامة أو تعويض المتضررين. ولقد خدمت هذه السياسة أهدافاً أخرى من شانها تأمين الولاء والانصار، ولكنها لم تكن سياسة عادلة اذ افترضت أن جميع المواطنين موظفين، او ان جميع المواطنين غير الموظفين سينالهم نصيبا من الثروة الموزعة بهذه الطريقة وفق نظرية التساقط.
ان المنح المباشرة للفقراء لم تشكل يوما ما حلا مستداما لمشكلة الفقر في أغلب دول العالم ، وبرأيي ما هو الا ترحيل مؤقت للمشكلة التي ستتعاظم وتشكل تحدياً أخطر في المستقبل.
الحلول المستدامة هي بتوفير فرص العمل ، وفرص متاحة ومتساوية للحصول على عوامل الانتاج (راس المال، الارض ، العمل ، التنظيم) لتمكين الشباب من اقامة أعمالهم الخاصة، وتغيير طريقة التعليم ليكون تابعا للسوق وليس متعاليا عليه. (فجميع البشر هم رواد أعمال محتملون).
ان تخفيض العملة جاء كحل أخير لانقاذ الموازنة امام انهيار الواردات النفطية الى حد النصف تقريبا ! والخطأ كان ابتداءاً بتحميل الموازنة ما لا تطيقه من أعباء والتزامات لا داعي لها اقتصاديا واداريا .
ان القول ان التخفيض جاء لانقاذ الاقتصاد ودعم الانتاج المحلي قول لا اساس له، فسياسة تخفيض العملة لتنشيط القطاع الانتاجي تستلزم شروطاً اخرى ضرورية ، منها (ان يكون القطاع الانتاجي المحلي مرنا بالاستجابة لهذا الاجراء، والحقيقة ان قطاعنا الانتاجي يفتقر لهذه الميزة ، فهو قطاع شبه مشلول بسبب نقص الطاقة والتمويل والحماية) .
وكان من المفروض ان يرافق قرار التخفيض اجراءات السيطرة على المنافذ، وتوفير الطاقة ، وضمان رأس المال للمشاريع الانتاجية.
وبات واضحا ان التخفيض كان سيئاً من حيث التوقيت، وغير ذي جدوى من حيث الاليات، ولكنه كان الحل الوحيد لانقاذ الموازنة الحكومية.
كان البلد يعاني من نسب فقر مقلقة قبل الجائحة ، وقبل تخفيض العملة، لكنما الظرفان اديا الى تفاقم المشكلة.
أشرنا سابقا الى ان المعالجات المستدامة ينبغي أن تركز على أسباب الفقر وليس ظواهره. فاعادة النظر بهيكل الاقتصاد العراقي واصلاح اختلالاته اصبح ضرورة ملحة ومصيرية، لكن التخلص من الريع دفعة واحدة غير ممكن ، واعتماد المساعدات والتوزيع غير مجدٍ ولا مستدام ، والابتعاد عن سياسة تحريك الاقتصاد بالموازنة الحكومية التي أثبتت فشلها، واصبح لزاماً التوقف عن انتاج البطالة المقنعة وهدر الطاقات بسياسة التوظيف الحكومي .
ان ستراتيجية معالجة الفقر ينبغي ان تركز على أمرين هما : الحد من الفقر واحتواؤه، فالحد من الفقر يتطلب اجراءات لخفض الفقر ومستويات عدم المساواة في آن واحد ، واحتواء الفقر يتطلب تعزيز المنعة (أي خفض درجة التعرض) بضمان فرص مستدامة للعمل وشبكات حماية اجتماعية فاعلة وعادلة.
وبما ان السبب الرئيس للفقر في العراق هو (البطالة) فالحل كما اراه هو في دعم سياسة المجتمع المنتج ، بتوفير بيئة تمكن الاعمال الخاصة من النمو (حماية ، رأس مال ، طاقة) وربط مخرجات التعليم بحاجة السوق.
وتبقى ضرورة صيانة شبكة حماية اجتماعية لغير القادرين على العمل، تضمن الكفاية وعدالة التوزيع. وحتى هذا الدعم يجب ان يخرج من نطاق دعم الدخل للفقراء ، الى نطاق دعم قدرة الفقراء على توليد الدخل، فقد اثبتت التجارب انه اذا لم ترتفع مستويات الانتاجية بين الفقراء في سن العمل، فمن المرجح ان تؤدي سياسات الحماية الاجتماعية الى نتائج عكسية.