من المعروف، منطقياً؛ إن التفكير يسبق السلوك، وحينما يسبق الأول الثاني يكون الثاني في الأغلب سليماً وحينما يسبق الثاني الأول يكون الثاني غير سليماً في الغالب.
تجب الإشارة إلى إن السلوك يكون سليماً حينما يتم اعتماد مناهج التفكير الصحيحة بعيداً عن مناهج التفكير المشوهة التي تجعل السلوك مشوهاً هو الآخر.
تعثر الاقتصاد لأسبقية السلوك على التفكير
وفي الميدان الاقتصادي إذا ما كان التفكير سليماً على مستوى القاعدة والهرم في البلد، سيكون سلوك الاقتصاد الكلي والجزئي السير للأمام بشكل سليم.
والعكس صحيح إذا ما كان التفكير غير سليم لدى القاعدة والهرم سيكون سلوك الاقتصاد الكلي والجزئي السير نحو الخلف.
وإذا ما نظرنا للواقع الاقتصادي في العراق سنجد إن الاقتصاد العراقي يسير بالشكل المعاكس لعنوان المقال أي انه ذهب للسلوك دون أن يسبقه تفكير سليم فكان الأداء غير سليماً بل متعثراً وضعيفاً.
حيث يعاني أداء الاقتصاد العراقي بشقيه الكلي والجزئي من الفوضى وغياب الاستقرار، والنتيجة هي زيادة البطالة والفقر وانخفاض رفاهية المجتمع.
تطبيق اقتصاد السوق قبل التفكير به(أنموذجاً)
ذهب العراق وراء اقتصاد السوق بشكل مباشر ومفاجئ دون أن يسبقه تفكير من قبل القاعدة والهرم بمفهوم اقتصاد السوق وكيفية التعامل معه وتطبيقه بالشكل السليم للوصول إلى الثمار المطلوبة.
إذ كان العراق يسير وفق النظام الاشتراكي الذي يعطي الدولة الأولوية في قيادة وإدارة الاقتصاد منُذُ خمسينيات القرن الماضي وحتى سقوط النظام عام 2003، هذه المدة الطويلة من التطبيق للنظام الاشتراكي أدت لبناء ثقافة لدى المجتمع بقاعدته وهرمه تنسجم وتتوافق مع ذلك النظام اقتصادياً.
بمعنى آخر، إن عموم المجتمع نشأ وترعرع في كنف الدولة حتى اشتد عوده، وأصبح غير قادر على تحمل المسؤولية بشكل مستقل بعيداً عن الدولة ولا يملك القدرة على التفكير في المبادرات الفردية ولا يستطيع تقبل فكرة اقتصاد السوق القائم على القطاع الخاص فضلاً عن تطبيقها.
التطبيق المباشر بالتزامن مع التحول السياسي
ما عَقّدَ من فكرة تطبيق اقتصاد السوق على ارض الواقع هو التزامن مع التحول السياسي المفاجئ، وذلك لان التحول السياسي من الدكتاتورية إلى الديمقراطية بشكل مفاجئ، دفع لصعود نُخب ذات ثقافة اشتراكية لم تعي معنى ومدى أهمية اقتصاد السوق وكيفية تطبيقه على أرض الواقع بالشكل السليم.
بمعنى إن المجتمع ونخبه لم يفكرا بمدى أهمية وكيفية تطبيق اقتصاد السوق بالشكل السليم الذي يمكن من خلاله تحقيق الأهداف المطلوبة، وذهبا مباشرة للتطبيق دون يشعرا بأن التطبيق المفاجئ سينعكس سلباً على أداء الاقتصاد وهذا ما حصل بالفعل بعد 2003.
حيث انسحبت الدولة من النشاط الاقتصادي طبقاً للتوجه الجديد نحو اقتصاد السوق إلا إن هذا الانسحاب ولّدَ فراغاً اقتصادياً من الناحية الإنتاجية لعدم وضوح الرؤية لدى النُخب، التي تحمل الثقافة الاشتراكية كما ذكرنا آنفاً؛ في كيفية تشجيع القطاع الخاص وجذبه للنشاط الاقتصادي من جانب وعدم جهوزية القطاع الخاص لإشغال المساحة التي تركتها الدولة من جانب آخر.
التفكير باقتصاد السوق قبل تطبيقه
قارن ما سبق بما لو كان هناك تفكير موضوعي وجدّي بمدى أهمية اقتصاد السوق وكيفية تطبيقه من قبل المجتمع ونُخبه على وجه الخصوص لما وصل الاقتصاد العراقي لما هو عليه الآن من الأداء الضعيف وغياب الاستقرار وزيادة البطالة والفقر وانخفاض رفاهية المجتمع.
إذ إن التفكير الموضوعي بمدى أهمية اقتصاد السوق وكيفية تطبيقه يأخذ بعين الاعتبار الافرازات التي يُمكن أن تظهر عند التطبيق ويضع المعالجات اللازمة لتلافيها أو التخفيف من حدتها عند ظهورها.
في حين لم يكُن الأمر كذلك عند الذهاب للتطبيق مباشرةً، إذ لم يتم التفكير مسبقاً بكيفية علاج أو التخفيف من حدّة الإفرازات التي تظهر عند التطبيق مما يصعب علاجها بسرعة فتتراكم وتصبح أزمة وأزمات متوالدة.
هذا عين ما حصل في العراق، أي طبّقَ اقتصاد السوق بشكل مباشر دون أي تفكير بالمعالجات التي يمكن اتخاذها لتلافي أو التخفيف من الافرازات التي ظهرت فأصبح الاقتصاد العراقي متعثراً في سلوكه وأداءه.
الخلاصة
بناءاً على ما سبق، إن العمل على تطبيق اقتصاد السوق بشكل مباشر ومفاجئ دون التفكير بمدى أهميته وكيفية تطبيقه من قبل المجتمع ونُخبه سيجعل سلوك الاقتصاد مُتعثراً.
ولذا ينبغي العمل من الجهات المختصة ومن بينها الجامعات والمراكز البحثية ومنظمات المجتمع المدني والمنبر الديني التفكير بمدى أهمية اقتصاد السوق للمجتمع وجعله ثقافة عامة لدى المجتمع، وعندئذٍ يصبح سلوك الاقتصاد أكثر رُشداً وعقلانيةً وتقدُماً.