أن يكون النفط نعمة فهو أمر طبيعي لأن الدولة التي تمتلك مورد طبيعي هي أفضل من حيث فرص التنمية بكافة اشكالها (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية) لامتلاكها الموارد والإمكانات المالية والمادية التي تستطيع بها تحقيق التطور والتقدم والازدهار في المجالات كافة، وعلى المستوى الدولي هناك الكثير من التجارب الناجحة والبارزة في هذا المجال، مثل النرويج وكندا وماليزيا وغيرها، بالمقابل أن يكون النفط محنة ونقمة هو أمر واقع ومتحقق كونه سبباً لعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي وسبباً لتراجع التنمية وازدهار التخلف ناهيك عن افرازات نشوء أنظمة فاسدة وفاشلة كما في العراق ونيجيريا والسودان وغيرها.
وفي العراق، وعلى الرغم من امتلاكهُ لخامس أكبر احتياطي في العالم واحتياطي كبير من الغاز، ناهيك عن الموارد والإمكانات الأخرى، فقد أدت سنوات من الحروب والصراعات والحصار وسوء الإدارة الى تراجع خطير في مؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وبالرغم من كل التغيرات التي حصلت في العراق بعد عام 2003 والخلاص من حقبة الديكتاتورية والاستبداد والظلم والطغيان والتحول الى نظام ديمقراطي قائم على الحرية والتحرر والانفتاح، إلا إن إخفاقات الاعتماد على النفط توالت بل ازدادت حدة، سواءً فيما يتعلق بوعود تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والأمني، أو فيما يتعلق بتوفير شروط الانتقال نحو اقتصاد متنوع ذو ملامح واضحة يقوم على قاعدة واسعة ومتنوعة من القطاعات الاقتصادية.
إذ لم يستطع هذا النظام المعتمد على الإيرادات النفطية في تمويل التنمية في العراق وعجزت عن تحقيق الحد الأدنى من مستلزمات بناء دولة قوية ومتينة واقتصاد واعد وقوي، كما لم يستطع هذا الأسلوب خلق الوظائف، ولم يستطيع النهوض بالقطاعات الإنتاجية لأنه يستورد كل شيء ويقوم بتمويل الاستيرادات من إيرادات النفط، كما يعمل هذا الأسلوب على التوزيع غير العادل للثروات، ومن ثم أصبح الاقتصاد العراقي اقتصاد هو نظام بازار ويعمل بنظام الصفقات لا أكثر.
تأسيساً على تقدم، أدى الاعتماد المتزايد على الريع النفطي في العراق الى نشوء نظام اقتصادي وسياسي واجتماعي مشوه مصاب بلعنة الموارد وبتطرف، وقد اضحى البلد يحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الدولة الفاشلة والهشة وانعدام الديمقراطية، وأصبح أكثر توتراً وأسوء حالاً وعانى من حروب داخلية ونزاعات وصراعات وتراجع في مؤشرات التنمية البشرية أدت الى وقوع العراق في فخ التخلف، وعادةً ما تُعزى هذه المآزق التنموية الى الاعتماد على مصدر واحد فقط للتمويل.
وفي هذا الإطار، فقد شهدت السنوات الأخيرة (العقدين الماضيين) اهتماماً متزايداً من الدول والمنظمات والمؤسسات الدولية المتخصصة بقضية هشاشة (فشل الدولة) بوصفها أضحت تمثل تحدي رئيسي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على المستوى الدولي، وازدادت اهميةً بعد خطاب مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة في سياق حشد الجهود لمساعدة وإنقاذ الصومال، واحتلت حيزاً أكبر بعد نشر مقال بعنوان "انقاذ الدولة الفاشلة".
والدول الهشة (الفاشلة) هي هيئة سياسية واقتصادية واجتماعية مفككة وفاقدة للسيطرة على ارضها وأمنها واقتصادها ومجتمعها، وهي صفة تلازم الدول التي تعجز عن الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقد عانت وتعاني ولمدد طويلة من الاضطرابات السياسية والمشاكل الاجتماعية والحروب والنزاعات وغيرها، وتتميز، بضعف المؤسسات السياسية والاقتصادية، وعدم القدرة على توفير احتياجات الخدمات العامة، وضعف المصداقية وضعف القدرة على ضبط أوضاعها الامنية.
وعادةً ما يُنظر إلى دولة ما بأنها هشة عندما تكون غير قادرة على مواكبة تطلعات مواطنيها أو التعامل مع التغيرات التي تطرأ على توقعات المواطنين واستيعابها خلال العملية السياسية، وهكذا فإن الهشاشة تنجم عن اختلال كبير في التوازن في علاقات الدولة مع المجتمع، ولها أسباب كامنة متعددة (مزمنة وخطيرة) ويمكن أن تخلف عواقب وخيمة، ولعل أبرزها مدعاة للقلق هو قابلية التأثر بالنزاعات الداخلية والعجز عن التغلب على الكوارث الإنسانية وازدياد فرص انهيار الدولة.
ويُعد مؤشر الدولة الهشة الذي تصدره مؤسسة صندوق السلام الامريكية Fund For Peace بالتعاون مع مجلة فورين بوليسي Foreign Policy منذ عام 2005 والذي تم اعتماده ليحل محل مؤشر الدولة الفاشلة عام 2014 من المؤشرات المهمة والذي يوضح أوضاع العامة البلد، ويعتمد في بنيتهُ على جوانب سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة في مؤشر عام واحد، ويُبنى على 12 مؤشر قطاعي مستخلص من أكثر من 100 مؤشر فرعي معتمدة على وثائق وتقارير ودراسات بالاستناد الى مجموعة من المعايير، تقيس هذه المؤشرات درجة حدة التهديدات السياسية والأمنية والتحديات الاقتصادية والاجتماعية، الامر الذي ينعكس في أداء وظائفها الأساسية، وتتراوح درجة المؤشر بين (0) وهي الأكثر استقراراً و(120) الأكثر هشاشة، وتُصنف هذه المؤشرات في 5 مجموعات، كما موضحة في المخطط الآتي:
مخطط (1) المؤشرات الرئيسة للدولة الهشة
المخطط من عمل الباحث بالاستناد الى:
-THE FUND FOR PEACE FPP, FRAGILE STATES INDEX, Washington, D.C.,اعداد مختلفة.
ويتم تصنيف الدول الى أربعة مستويات رئيسة بحسب نتائج المؤشرات الفرعية والمؤشر العام، ويمكن توضيح ذلك من خلال الجدول الآتي:
جدول (1): تقسيمات مؤشر الدولة الهشة
الجدول من عمل الباحث بالاستناد الى:
- THE FUND FOR PEACE FPP, FRAGILE STATES INDEX, Washington, D.C., اعداد مختلفة.
اما فيما يتعلق بالعراق، وعلى الرغم من مرور 17 سنة على التحول من نظام مستبد الى نظام ديمقراطي فإنه لا يزال يعاني من حالة من الفوضى والاضطراب السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ويواجه تحديات مواجهة الإرهاب والتطرف والنزاعات وغيرها، وقد اسفرت هذه الأوضاع عن تكاليف اقتصادية ضخمة وفادحة والى تراجع حاد في جميع المؤشرات الاقتصادية من (بطالة وفقر وتفاقم أوضاع المالية العامة وتراجع حاد في مؤشرات التنمية وتخريب المؤسسات الاقتصادية) والسياسية (عدم الاستقرار والنزاعات السياسية والتدخلات في الشؤون الداخلية وغياب الحكم الرشيد...الخ) والاجتماعية (ضعف التماسك الاجتماعي، عدم العدالة في توزيع الدخل، عدم تكافؤ الفرص...الخ).
إن المعطيات التي تكونت بها الدولة بعد عام 2003 والقنوات التي جرى في ظلها تكوين النخب السياسية والاقتصادية الحاكمة وصعودها وآليات عملها أدت الى تجميد العمليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي يجد فيها الانسان حلولاً لمشكلاته القائمة، وأدت الى تحويل الدولة الى شركة أو مؤسسة يكون للنخب الحاكمة فيه حصصاً (أسهماً) تختلف نسبتها بين جماعة وأخرى.
وعليه، وفي ضوء هذه المعطيات لم تنبثق في العراق دولة على منوال الدول الناجحة والمتطورة فلم تتطور المؤشرات السياسية ولا الاقتصادية ولا الاجتماعية، وقد احتل العراق مراتب متقدمة في مؤشرات الدولة الهشة.
جدول (2): ترتيب ووضع العراق في مؤشرات الدولة الهشة
الجدول من عمل الباحث بالاستناد الى:
- THE FUND FOR PEACE FPP, FRAGILE STATES INDEX, Washington, D.C., اعداد مختلفة.
من خلال ملاحقة بيانات المؤشر العام الواردة في الجدول (2) وعلى الرغم من التطورات النسبية التي شهدها العراق إلا إنه لا يزال يحتل مراتب متقدمة في مؤشرات الدولة الهشة ولا يزال يُنظر اليه على إنه من ضمن البلدان الأكثر هشاشة ولديه انذار واحياناً انذار مرتفع، فبعدما كان يحتل المرتبة 4 في عام 2005 و2006 تحسنت أوضاعه نسبياً خلال المدة 2013-2019 ليبقى يتأرجح ما بين المرتبة 11 و13.
الخلاصة، ينبهنا مؤشر الدولة الهشة الى حقيقة مفادها الى إن العراق يعاني من هشاشة ثلاثية (هشاشة دولة ونظام سياسي، هشاشة مجتمع، هشاشة اقتصاد) فعند أي أزمة سياسية يتصدع البنيان الاجتماعي والاقتصادي ويدب فيه الخراب والدمار والانشقاق وتفقد الدولة تماسكها وتستفحل أزمتها مما يؤدي في نهاية المطاف الى الدمار والانهيار، وتتغذى هذه الهشاشات الثلاث وتتضافر مع بعضها لتنتج لنا كيان سياسي اقتصادي اجتماعي مفككك.
ختاماً، لا يتوقع أن يتمكن العراق في المدى القصير والمتوسط الخروج من دائرة الهشاشة والفشل بسبب الصراعات السياسية والاجتماعية الداخلية والخارجية وحالة الانقسام الحاد في الطبقة السياسية الحاكمة وتهديدات الإرهاب والتفكك وضعف المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتردي الأوضاع الاقتصادية، الامر الذي يتطلب تنبي استراتيجيات طويلة الاجل لبناء دولة متينة وقوية ومتماسكة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
وفي هذا السياق، ينبغي العمل على تبني عقد سياسي واقتصادي واجتماعي يُفضي الى دولة مستقرة سياسياً توفر كل أسباب الرفاه الاقتصادي والاجتماعي، عقد يضع الريع النفطي في خدمة بناء دولة متينة وقوية تُعظم موارد الثروة الوطنية لما فيها مصلحة الأجيال الحالية والاجيال المستقبلية، ويوظف طاقة افراد البلد انتاجاً وابداعاً، واستثمار العنصر البشري ايما استثمار ومحاربة البطالة والفقر، عقد يسعى الى تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص لجميع افراده.