هناك العديد من السياسات الاقتصادية التي يتم اللجوء إليها لمعالجة المشكلات الاقتصادية وتحقيق التوازن الاقتصادي الذي يكون تارةً حقيقي وأخرى وهمي وكما سيتضحان لاحقاً.
السياسة النقدية هي إحدى تلك السياسات التي تستخدم لإعادة التوازن الاقتصادي عند اختلاله، وذلك من خلال عدّة أدوات أبرزها سعر الخصم، عمليات السوق المفتوحة ونسبة الاحتياطي القانوني.
وتُعد السياسة النقدية من مهام البنوك المركزية التي تُوصف على إنها بنك البنوك والمستشار الاقتصادي للحكومة والملجأ الأخير للإقراض، والتي تهدف للحفاظ على المستوى العام للأسعار بالدرجة الأولى ثم تأتي الأهداف الأخرى تباعاً كالنمو الاقتصادي وتخفيض البطالة والتوازن الخارجي.
متى يختل التوازن الاقتصادي؟
يحصل اختلال التوازن الاقتصادي متى ما كان الطلب أكبر من العرض من السلع والخدمات أو العكس حينما يكون العرض أكبر من الطلب على السلع والخدمات، حيث يؤدي الأول إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار(التضخم) بينما يؤدي الثاني إلى البطالة، ولذا أصبح التضخم والبطالة بالتزامن مع النمو الاقتصادي والتوازن الخارجي أهدف للاقتصاد الكلي ينبغي معالجتها بواسطة السياسات الاقتصادية.
وكما ذكرنا آنفاً، إن معالجة التضخم والحفاظ على المستوى العام للأسعار يمثل الهدف الرئيس للبنك المركزي الذي يسعى لتحقيقه من أجل تحقيق التوازن الاقتصادي ثم تحقيق الاستقرار الاقتصادي أخيراً.
آلية التوازن الاقتصادي
ولعلاج التضخم وارتفاع المستوى العام للأسعار، يتبع البنك المركزي سياسة نقدية تقشفية عبر إحدى الأدوات النقدية كأن يرفع سعر الخصم أو رفع نسبة الاحتياطي القانوني أو يدخل للأسواق المالية كبائعٍ للأوراق المالية، مما يؤدي لانخفاض الطلب بما يتوازن مع العرض ثم الاقتراب من الاستقرار الاقتصادي.
والعكس صحيح في حالة علاج البطالة الناجمة عن الكساد، يتبع البنك المركزي سياسة نقدية توسعية أي يخفض سعر الخصم أو يدخل كمشترٍ للأوراق المالية من الأسواق المالية أو خفض نسبة الاحتياطي القانوني، مما يؤدي لارتفاع الطلب بما يتوازن مع العرض ثم الاقتراب من الاستقرار الاقتصادي.
التوازن الحقيقي والتوازن الوهمي
المقصود بالتوازن الحقيقي هو التوازن بين كمية النقود والسلع والخدامات التي ينتجها المجتمع داخل الاقتصاد، أي لا بُد أن تكون كمية النقود تساوي كمية الإنتاج، بمعنى إن الجهاز الإنتاجي الوطني قادر على تلبية الطلب على السلع والخدمات، وما النقود إلا وسيلة لتسهيل التبادل وخزن القيمة ووحدة قياس، ولا تكون هدفاً بحد ذاته.
أما التوازن الوهمي هو عدم وجود توازن حقيقي ولأجل تحقيق التوازن بين الطلب والعرض يتم اللجوء للسياسة النقدية لتحقيق هذا التوازن فلم يكُن التوازن حقيقي بل هو توازن وهمي بحكم تدخل النقود في المعادلة، سواء من خلال الإصدار النقدي الجديد أو بيع الدولار من خلال نافذة العملة كما هو حال العراق الآن، وهذا هو لُب المقال.
العجز الحقيقي في العراق
بمجرد النظر لميزان المدفوعات العراقي ستجد إن الاقتصاد العراقي يُعاني من عجز حقيقي صارخ ومزمن خصوصاً بعد عام 2003، لأنه يستورد أغلب السلع والخدمات من العالم الخارجي، حيث لا يتمتع العراق بميزة نسبية سوى لعدد محدود جداً من السلع كالنفط والتمور ، جعلته قادر على تصديرها للعالم الخارجي، وبالمقابل يستورد أغلب السلع الأخرى، مما يعني هناك عجز حقيقي كبير في التوازن الاقتصادي.
كما وإن القطاع النفطي يشكل القطاع الرئيس في الاقتصاد العراقي، بحكم ارتفاع نسبة النفط إلى أكثر من 60% في الناتج المحلي الإجمالي وأكثر من 90% من الإيرادات المالية وأكثر 99% من الصادرات السلعية، هذا ما جعل الاقتصاد العراقي رهين القطاع النفطي والاقتصاد العالمي كون النفط سلعة تخضع للمحددات الدولية.
دفع هذا الارتهان لغياب الاستقرار الاقتصادي في العراق بحكم تذبذب النفط دولياً، وأدى أيضاً لارتفاع حِدة العجز الحقيقي لان القطاع النفطي عمل على تعطيل القطاعات الأخرى، في ظل غياب الإدارة الرشيدة.
التوازن الوهمي في العراق
في الوقت الذي يعاني الاقتصادي العراقي من العجز الحقيقي تدخل البنك المركزي للحفاظ على المستوى العام للأسعار وتخفيض التضخم، وبالفعل استطاع بواسطة السياسة النقدية من الحفاظ على المستوى العام للأسعار وتخفيض التضخم الأساس من 3.1% عام 2010 إلى 0.2% عام 2018 .
إن زيادة الطلب على السلع والخدمات بفعل زيادة النمو السكاني في العراق مُقابل انخفاض العرض منها نتيجة لعدم قدرة الجهاز الإنتاجي على مواجهة ذلك الطلب لأسباب عديدة قد تكون سياسية أو اجتماعية أو إدارية أو غيرها، سيدفع لزيادة الاستيراد من العالم الخارجي لسد الطلب المحلي.
وبما إن الاستيراد لا يمكن أن يتحقق من خلال العملة المحلية إلا من خلال العملة الأجنبية، هذا ما سيدفع لزيادة الطلب على العملة الأجنبية، من أجل استخدامها للاستيراد، مما يؤدي لانخفاض قيمة العملة المحلية وارتفاع قيمة العملة الأجنبية، وهذا يكشف عن واقع الاقتصاد بشكل حقيقي، هذا ما كان يمكن أن يحصل في العراق ولكن تدخل السياسة النقدية عبر نافذة العملة أدى لتلافي انخفاض قيمة العملة.
تُعد هذه السياسة، نافذة العملة، هي السياسة الرئيسة التي اعتمدها البنك المركزي للحفاظ على المستوى العام للأسعار وتخفيض التضخم، وهذه السياسة شبيه إلى حد كبير بعمليات السوق المفتوحة التي ذُكرت آنفاً، حيث يقوم البنك المركزي باستخدام الاحتياطي الأجنبي كأداة لتحقيق عدة أهداف منها تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والسعر الموازي، وتلبية الطلب على الدولار بشكل كافٍ من خلال قيام البنك ببيع الدولار للمصارف لتغذية الاستيراد الناجم عن الطلب المحلي.
تغطية العجز الحقيقي بشكل ظاهري
وفي حال امتنع قيام البنك المركزي عن تغذية الطلب على الدولار لأغراض الاستيراد وإشباع الطلب المحلي، لأدى هذا الامتناع لارتفاع سعر الدولار أمام الدينار العراقي لأسعار خيالية، مما يعني انخفاض قيمة الدينار العراقي وارتفاع حجم التضخم بشكل خيالي أيضاً، وهذا ما يعني إن التوازن الحالي هو توازن وهمي وليس توازن حقيقي نابع من قوة الاقتصاد.
بمعنى إن السياسة النقدية في العراق أسهمت في تغطية العجز الحقيقي بشكل ظاهري وحصل التوازن الوهمي بعيداً عن التوازن الحقيقي المتمثل في خلق جهاز إنتاجي قادر على تلبية الطلب المحلي وتصدير الفائض نحو الخارج واستخدام عائدات التصدير في استيراد المنتجات التي لا ينتجها العراق.
الخلاصة
وفي ظل استمرار العراق على الريع النفطي وعدم العمل على تنشيط القطاع الحقيقي والذي يعني استمرار العجز الحقيقي من جانب، واستمرار تغطية هذا العجز بشكل ظاهري بعيداً عن الاقتصاد الحقيقي، بواسطة السياسة النقدية عبر نافذة العملة وبيع الدولار النفطي لتغذية الاستيراد الناجم عن زيادة الطلب المحلي من جانب ثانٍ، سيظل العراق يُعاني من التوازن الوهمي والعجز الحقيقي.
ومتى ما استطاع العراق أن يعتق اقتصاده من النفط والاقتصاد العالمي ونشط القطاعات الأخرى بالشكل الذي يؤدي لتحقيق التوازن بين العرض والطلب، عندها نستطيع القول إن العراق غادر مسالة التوازن الوهمي والعجز الحقيقي باتجاه التوازن الحقيقي.
المصادر:
- صندوق النقد العربي، نشرة إحصاءات تنافسية التجارة العربية الإجمالية والبينية، العدد السابع، ص162.
- البنك المركزي العراقي، التقرير الاقتصادي السنوي 2010، 2018