ان الاعتقاد بدوام الأفكار والقوى المؤمنة بها بصرف النظر عن جاذبيتها وتأثيرها في المجتمع الذي تطبق فيه هو اعتقاد خاطئ بشكل كبير، فالأفكار والقوى المؤمنة بها يمكن ان تتلاشى يوما ما، بل وتواجه اسوء العواقب إذا ما فشلت في تغيير الحياة نحو الأفضل، وأصبح وجودها أكثر ضررا على الناس من غيابها
يبدو عنوان هذا المقال مثيرا نوعا ما للقارئ، وقد يتساءل البعض: هل تتلاشى الأفكار؟ كيف؟ ومتى؟، وهو يسترجع في عقله مقولة ان الأفكار لا تموت، تلك المقولة التي نجدها في كثير من الدراسات، وهي بدون شك مقولة صحيحة الا ان الفرق هو اننا في هذا المقال لا نتحدث عن موت الأفكار، فالفكرة تبقى متداولة بين العقول والاجيال سواء كانت حسنة ام قبيحة، ولكن ما نركز عليه هنا هو تلاشي الأفكار وليس موتها، بمعنى توقف زخمها وجاذبيتها وقدرتها على التأثير، وتحول الناس من داعمين لها الى خائفين منها، وربما رافضين وكارهين لها فيما بعد.
فهل يمكن ان تواجه الأفكار مثل هذا المصير؟
عندما بدأت الثورة الصناعية الاولى في أوروبا مطلع القرن التاسع عشر واجهت هذه الثورة معارضة شرسة من قبل الفلاحين وأصحاب الحرف اليدوية الذين اعتقدوا ان مصادر رزقهم سوف تبور ويتم الاستعاضة عنهم بالآلات الجديدة، فنظموا أنفسهم في جماعات معارضة شرسة سميت بـ "اللوديتس". لقد قام اللوديتس بكل اعمال الإرهاب والتخريب التي يتخيلها العقل للمصانع الحديثة والداعمين لها، ونظموا أنفسهم في خلايا تنظيمية تخريبية وصل عددها في ذروة نشاطهم الى مئات الخلايا المنتشرة في المدن الصناعية الاوروبية، لاسيما البريطانية الى درجة اضطرت معها السلطات الحكومية الى استدعاء القوات المسلحة لمواجهتهم والحد من خطرهم.
لقد اعتقد اللوديتس انهم بأعمال القتل والتخريب يحمون الريف والإطار التقليدي للحياة الحضرية من تهديد الثورة الصناعية، ووجدوا في الفلاحين والعمال الحرفيين قاعدة شعبية مهمة لنشر أفكارهم وتجنيد اتباعهم، ولكن الدعم الشعبي لهم ما لبث ان أخذ بالتلاشي التدريجي، عندما أدرك الناس ان الصناعات الالية خفضت عدد العاطلين عن العمل، وحسنت المكانة الاقتصادية للعامل برفع مستوى الأجور وتوفير الضمانات المعيشية، فضلا عن تطوير الاقتصاد وزيادة الثورة القومية للدولة. وأصبحت الإجراءات الحكومية الصارمة ضد اللوديتس مبررة ويجري التشجيع لها، عندما شعر الناس ان اللوديتس يشكلون خطرا على حياتهم ومصالحهم، وان الأفكار التي يحملونها صارت مضرة وغير ذات جدوى في تحسين سبل الحياة، فضعف تأثيرهم، وتحول من تبقى منهم الى مجرد جماعات فوضوية لا قيمة لها.
ان قصة اللوديتس لا يتعظ الكثير بها ويكررها يوميا، لاسيما فيما يتعلق بالأفكار الاجتماعية والسياسية، فغالبا ما يتمسك البعض من البشر بأفكار معينة معتقدين انهم سيحققون من خلالها مستوى أفضل من الحياة لأنفسهم ولفئات محددة من الناس، بل احيانا لدول وشعوب بكاملها، ولكنهم يتجاهلون مدى ملائمة هذه الأفكار الى العصر الذي يعيشون فيه، ومدى حمايتها الحقيقية للمصالح العامة، فتبدوا فكارهم وافعالهم مبررة في بدايتها، ولكن عجزها عن تحقيق تغيير إيجابي ملموس في الحياة، وفشلها في اثبات صدق وعودها، وتعرض الناس الى ضرر كبير ومتواصل بسبب أفعال المؤمنين بها... يقود في النهاية الى زوال جاذبيتها تدريجيا، فتضعف قدرتها على حشد الاتباع، وينتقل الناس من جبهة دعمها الى جبهة معارضتها والتشكيك بها، وبهذا تخطو الأفكار خطواتها الحتمية نحو التلاشي والغياب من ساحة الفعل والتأثير.
لقد شهدت بيئتنا العربية والإسلامية الكثير من القصص المشابهة لقصة اللوديتس، فمثلا فكرة القومية العربية كانت هي المحرك الأساس لشعوب المنطقة العربية في النصف الأول من القرن العشرين المنصرم، وبلغ اغرائها لدرجة ان معظم النخب والشباب العربي انضووا تحت لواء واحد او اكثر من تيارات الفكر القومي العربي، ولكن في اللحظة التي تحول فيها هذا الفكر الى غطاء للاستبداد السياسي، والاقصاء الاجتماعي، والتراجع الاقتصادي، والتناحر الحزبي، والكوارث الوطنية غير المبررة، والهزائم العسكرية المذلة ...فانه خسر قدرته على البقاء والاستمرار مع خسارة جاذبيته لدى الناس وايمانهم بقدرته على احداث التغيير الأفضل في حياتهم. واليوم وبعد عقود من الضجيج القومي العربي تجد معظم العرب ميالين أكثر للاحتماء بالدولة الوطنية، والتشكيك بالأطروحات القومية، فيما تحول القوميون العرب من تيار عريض محرك للجماهير العربية من المحيط الى الخليج الى مجرد مجموعات نخبوية معزولة او جماعات سياسية مطاردة في بعض البلدان، وتفتقر الى الدور والتأثير في بلدان أخرى.
وفيما يتعلق بفكرة الإسلام المتطرف التي تنادي بها بعض الجماعات الإرهابية في البلدان الإسلامية، فهي الاخرى واجهت مصيرا مشابها لمصير الفكرة القومية، فمنذ نكسة الخامس من حزيران سنة 1967 رفعت الكثير من هذه الجماعات شعار الإسلام هو الحل، وهو شعار جذاب وذو دلالة رمزية كبيرة، ولكنها لم تكلف نفسها عناء التفكير العميق بطبيعة الإسلام الذي تدعو اليه؟ وهل تتناسب اطروحاتهم مع متطلبات العصر وخصوصية المكان الذي تطبق فيه؟ وهل ستتمكن من توحيد الناس ام تجعلهم أكثر تشظيا وانقساما وفوضى؟ وهل تنسجم مع متطلبات احترام حقوق الناس وحرياتهم العامة ام لا؟ وهل ستساعد في بناء دولة حديثة قوية بمؤسساتها الدستورية الحرة وبما يعزز شروط النزاهة والمساءلة والحكم الرشيد ام لا؟
هذه الأسئلة وغيرها تم تجاهلها من هذه التنظيمات الإرهابية، فظهرت للناس بنسخ ظلامية من الإسلام تسببت بكثير من المآسي لهم، اذ مزقت تماسكهم الاجتماعي، وتعايشهم السلمي، كما مزقت دولهم وشلت مؤسساتهم الدستورية، وارجعتهم القهقري ثقافيا، واعطتهم تصورا مخيفا عن الدين والمتدينين لن يغيب عن الاذهان لوقت طويل. ان فقدان هذه التنظيمات لجاذبية افكارها، قاد الى فقدان دعم الناس لها، وحكم عليها بالتلاشي المستمر، ومحاربة أي نسخة جديدة منها، ربما تختلف معها في الاسم والشعار، ولكنها تشبهها في الجوهر والمضمون.
وهذا الذي رأيناه مع اللوديتس والقوميين والإرهابيين المتطرفين تكرر ايضا مع الديمقراطيين والوطنيين والمدنيين...الخ لمرات عديدة في بلداننا العربية والإسلامية، فتكرار نفس الظروف والاعتقادات قاد الى نفس النتائج. والنصيحة التي يمكن الخروج بها من هذا المقال للتيارات والقوى السياسية السائدة في العراق اليوم هي ان الاعتقاد بدوام الأفكار والقوى المؤمنة بها بصرف النظر عن جاذبيتها وتأثيرها في المجتمع الذي تطبق فيه هو اعتقاد خاطئ بشكل كبير، فالأفكار والقوى المؤمنة بها يمكن ان تتلاشى يوما ما، بل وتواجه اسوء العواقب إذا ما فشلت في تغيير الحياة نحو الأفضل، وأصبح وجودها أكثر ضررا على الناس من غيابها.
التعليقات (0)
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!