لم يكن انطلاق الثورة السورية المطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية وتحقيق العدالة الاجتماعية على المستويين "السياسي والاقتصادي" ودفع عجلة التقدم وتحقيق التنمية الشاملة للمواطن السوري انطلاقاً سياسياً بقدر ما كان الدافع عفوياً نابعاً من الشعور بالمسؤولية وحق العيش بكرامة ورفض الاستبداد والإقصاء، إلا أنها (الثورة السورية) شأنها شأن المظاهرات والثورات العربية التي حركها ما سُمي بـ (الربيع العربي)، سيست واستغلت إقليمياً ودولياً؛ بسبب سوء التعامل الذي جوبهت به تلك الثورة أو المظاهرات في بداية الأمر من قبل النظام السوري. ولعل سوء التعامل مع الثورة السورية من قبل النظام قد زاد الطين بلّة، وعقّد من المشهد السياسي السوري في ظل بيئة مشحونة، ومحيط إقليمي يعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي وانتشار التطرف والإرهاب بشكل غير مسبوق، والتوظيف الطائفي والديني للصراعات السياسية الإقليمية، وصراع المصالح الدولية بين أقطاب النظام الدولي، ووجود إسرائيل في المنطقة، وسياسية المحاور الدولية والإقليمية والحرب بالوكالة. كل هذه العوامل تداخلت في الأزمة السورية مع العامل الداخلي فضلاً عن سياسة النظام السوري، وقد أدت إلى تحويل المظاهرات السورية المطالبة بالإصلاحات إلى ثورة مسلحة بدعم إقليمي ودولي، تطالب بإسقاط نظام بشار الأسد والإطاحة به كشرط أساس من شروط الثورة، مما جعل من العاملين الإقليمي والدولي أن يكونا محركين أساسيين للثورة. ولعل عامل التعقيد اليوم في الأزمة السورية ليس فقط التداخل بين المؤثرات الإقليمية والدولية وتجاهل الحل الداخلي (الرأي السوري الداخلي)، وإنما حالة التضاد التي خلقتها المواقف الإقليمية والدولية "والتي تشترط بعضها تنحي الأسد من السلطة كشرط أساس للدخول في المرحلة الانتقالية".
هذا الشرط لبعض قوى المعارضة المدعومة إقليمياً من قبل (تركيا والسعودية وقطر)، ودولياً من قبل ( أميركا وحلفائها الغرب)، هل هو بالفعل طوق نجاة للأزمة السورية؟، وهل إن تنحي الأسد سيعيد سوريا إلى سابق عهدها؟، وهل ستكون هناك دولة سورية موحدة ومستقرة بعد الأسد؟، أم إن الأزمة السورية قد خلقت واقعا سياسيا جديدا لسوريا مختلف عن الواقع السياسي قبل العام 2011؟.
خمس سنوات من القتل والتهجير وتهديم البنى التحتية وتجويع الشعب ومحاصرة المدن والقتل على الهوية وانتشار التطرف والإرهاب، خلقت واقعا سوريا جديدا، ليس في سوريا فقط وإنما في المنطقة أيضاً. فسوريا واحدة من دول المنطقة المتعددة الأديان والطوائف والقوميات والأعراق، فضلاً عن الانقسام الداخلي الذي عانته وتعانيه اتجاه المشاريع الإقليمية، والذي خلفته الحرب الأهلية. ولهذا هناك صعوبة كبيرة بأن تكون الدولة السورية دولة موحدة، وهناك صعوبة أيضاً بأن يتحقق الاندماج السياسي والاجتماعي حتى وإن رحل الأسد؛ لأن سياسية الأمر الواقع قد فرضت نفسها في سوريا، فهناك الأكراد المطالبين بالاستقلال - وقد خلق لهم الواقع الجديد في سوريا شبه استقلال - على الرغم من التحديات الإقليمية والدولية لاستقلالهم، ولاسيما من قبل تركيا وإيران، وإن تضحياتهم الكبيرة ضد تنظيم "داعش" تعزز ذلك. كذلك هناك الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الرئيس بشار الأسد الداعمة لنظامه، فضلاً عن الشيعة العرب والأقليات الدينية الأخرى المساندة للنظام أيضاً. وقد خلق منها (الأقليات) الواقع السياسي في سوريا وبعض وسائل الإعلام العربية ومجريات الحرب السورية بأنها بالضد من المكون العربي السني وثورته ضد نظام بشار الأسد، مما أحدث شرخا كبيرا في النسيج الاجتماعي السوري. ولهذا انقسمت كل مكونات المجتمع السوري بين المشاريع الإقليمية والدولية، فضلاً عن حالة التخندق الطائفي والديني والقومي التي خلقتها الأزمة السورية على الصعيد الداخلي، ومن ثم فإن هذا الواقع السياسي والاجتماعي الذي فرضته الأزمة السورية لايمكن أن ينتهي بمجرد تنحي الأسد من هرم السلطة؛ لأن مجريات وأحداث الحرب السورية بالتأكيد ستلقي بضلالها على مستقبل الدولة السورية سواء تنحى الأسد أم لم يتنح، وقد تكون الدولة السورية قريبة من المشهد السياسي العراقي بعد العام 2003، ولاسيما وأن الإدارة الأمريكية قد طرحت حينها مشروع تقسيم العراق أو ما سمي بمشروع (بايدن) بعد تصاعد العنف الطائفي، والذي حاولت فيه الإدارة الأمريكية تقسيم العراق على ثلاثة دويلات أو أقاليم (شيعي، سني، كردي). وعلى الرغم من أن العراق لم يتقّسم بعد، إلا أن حالة التفكك وعدم الاندماج السياسي والاجتماعي، وفشل القوى السياسية العراقية في إيجاد مشروع وطني ناجح لإدارة الدولة، وتأجيج الصراع الطائفي، والمشاكل بين الإقليم والمركز، وغياب الرؤية الوطنية، والانقسام الداخلي بشأن المشاريع الإقليمية والدولية، قد ترجح سيناريو التقسيم. ولهذا فإن الدولة السورية قريبة من سيناريو الدولة العراقية إن لم يكن السيناريو المتوقع أكثر سوءا؛ وذلك بسبب عناء الحرب الأهلية السورية الطويلة، والتعاطي مع النفوذ الإقليمي بشكل مباشر وصريح، فضلاً عن أزمات ومشاكل مرحلة ما بعد الأسد، سواء تلك المتعلقة منها بالمؤسسة العسكرية السورية أم بمؤسسات الدولة السورية بالكامل. ولذلك فإن مسألة مستقبل الجيش العربي السوري لمرحلة ما بعد الأسد كيف يكون؟، ولاسيما أنه (الجيش السوري) متهماً من قبل قوى المعارضة بقتل المدنيين، فضلا عن الاتهام المتبادل بين المؤسسة العسكرية السورية وقوى المعارضة، إذ يتهم الجيش السوري أيضاً قوى للمعارضة وأجنحتها العسكرية بقتل وإعدام كثير من قوى الجيش والأمن، علاوة على قتلهم المتعمد بروح الانتقام للطائفة العلوية أو الأقليات الأخرى المساندة للنظام. وعليه، فإن عملية التحول الديمقراطي في سورية معقدة جداً، حتى وإن تنحى بشار الأسد عن السلطة. ولهذا ربما يكون السيناريو المتوقع للدولة السورية هو سيناريو التقسيم (سني، كردي، علوي)، بما يضمن هيمنة إقليمية على كل إقليم وفق دوافع مصلحة كل طرف من الأطراف الإقليمية والدولية. وربما يكون هذا السيناريو وفق تسمية "الجمهورية السورية الفيدرالية"، وهذا ما أعلن عنه نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف؛ لأن موسكو ترى أن هناك إمكانية اتفاق بين المشاركين في المحادثات السورية على إنشاء جمهورية فيدرالية، في حال رضيت جميع الأطراف السورية بهذا الأنموذج. وبذلك، فالمشكلة ليست فقط ببقاء الأسد في هرم السلطة أم لا، وإنما مرحلة ما بعد الأسد قد تكون أعقد من سابقتها.
اضافةتعليق