إن تأثير تنظيم بطولات كرة القدم مثل كأس العالم وغيرها يتم قياسه بشكل متزايد من خلال تأثيرها على الاقتصاد للبلد المستضيف، فهي أصبحت عنصر محفز للنمو الاقتصادي ومصدر مهم لتوفير المزيد من الإيرادات، وتحفز على خلق فرص العمل (بشكل مباشر وغير مباشر)، وهي تشكل عامل جذب للسياح مستقبلاً
يمثل قطاع الرياضة أحد القطاعات الحيوية والتي تسهم في دفع عجلة الاقتصاد وتنشيطهُ من خلال الآثار التي يفرزها هذا القطاع سواءً المباشرة أو غير المباشرة فضلاً عن الاثار المستحثة Induce Impact فهو يلعب دوراً في زيادة الدخول من الملاعب أومن الدعاية والاعلان والترويج للشركات والمؤسسات أو من خلال تطوير وتنمية البنية التحتية للبلد ...الخ، وتوفير توفير فرص العمل بشكل مباشر أو غير مباشر عبر القطاعات المتعددة المرتبطة بها، فالوظائف المباشرة تلك التي ترتبط بالأندية والفرق الرياضية، ووظائف التدريب والخدمات الرياضية الأخرى، في حين تتمثل الوظائف غير المباشرة في قطاع السياحة والضيافة والمطاعم والتجارة وقطاع النقل، على سبيل المثال فإن استضافة حدث رياضي كبير كالأولمبياد أو كأس العالم أو أي بطولة أو حدث رياضي تستدعي توفير الآلاف من فرص العمل للمساهمة في تنظيمه، إلى جانب الأدوار التكميلية التي يحتاجها هذا القطاع من القطاعات الأخرى مثل الضيافة والنقل والانفاق على شراء السلع والخدمات.
من جانب آخر، فإن تنظيم البطولات الرياضية سوف تساهم في تحفيز السياحة الرياضية والتي تُعد أحد العناصر التي تساهم في تنمية الاقتصاد المحلي فالأحداث الرياضية الكبرى، مثل البطولات العالمية أو الوطنية تستقطب السياح من مختلف أنحاء العالم، مما يؤدي إلى زيادة الإشغال في الفنادق، وتنشيط المراكز التجارية والمطاعم، ومن ثمَ تحقيق عوائد مالية ضخمة للمدن المستضيفة، وتُشير الوقائع الى إن الدول التي تستضيف أحداثاً رياضية ضخمة تشهد زيادة في عائدات السياحة نتيجة لتوافد الجماهير لحضور هذه الفعاليات، الأمر الذي يعزز مكانة هذه المدن كوجهات سياحية.
كما إن قطاع الرياضة يسهم في تطوير البنية التحتية المحلية بشكل كبير، فعندما تستضيف مدينة حدث رياضي، تُبنى أو تُحسن الملاعب، ووسائل النقل، والفنادق، والمرافق العامة، مما يترك أثراً إيجابياً يستفيد منه السكان المحليون حتى بعد انتهاء الحدث وتؤدي هذه التحسينات إلى رفع مستوى الخدمات وتسهيل الوصول إليها، مما يعزز من جذب الاستثمارات المحلية والأجنبية لاحقًا، كما تسهم في توفير بيئة داعمة لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم، وهذا يسهم في تحفيز الانفاق نتيجة عمل المضاعف.
مخطط (1) الآثار المباشرة وغير المباشرة والمستحثة لقطاع الرياضة على الاقتصاد
المخطط من عمل الباحث
وبحسب تقارير سوق الرياضة العالمي قد شهد هذا السوق نمواً قوياً خلال السنوات القليلة الماضية، إذ بلغ نحو 506.93 مليار دولار في عام 2024 بالمقارنة مع 480.12 مليار دولار في عام 2023 وبمعدل نمو سنوي مركب يبلغ 5.6%، كما من المتوقع لهذا السوق نمواً قوياً في السنوات القليلة المقبلة، ليصل الى ما يقارب 629.81 مليار دولار في عام 2028، ويمكن أن يُعزى هذا التوسع الملحوظ إلى ارتفاع مستويات المعيشة والارتفاع السريع للتجارة الإلكترونية، والتحضر السريع، وإنشاء العديد من القنوات الرياضية، والاستثمارات الكبيرة في الرعاية، والمبادرات الحكومية الداعمة، والزيادة الكبيرة في السياحة الرياضية، وإدخال تطبيقات البث الرياضي، وتنفيذ أنظمة التذاكر عبر الهاتف المحمول، والتحول من الرعاية إلى الشراكات، والالتزام بالمسؤولية الاجتماعية للشركات والاستدامة.
ومن المتوقع أن يؤدي ارتفاع مستويات المعيشة الى زيادة اهتمام الناس بالرياضة وتغذية نمو سوق الرياضة في المستقبل، إذ تسهم عوامل مثل زيادة الدخول المتاحة، وزيادة الوعي الصحي، والشعبية المتزايدة للأحداث الرياضية في جميع أنحاء العالم في تحفيز النمو لسوق الرياضة (1)
أما فيما يتعلق بكرة القدم (اللعبة الشعبية الأولى في العالم) فهي تمثل صناعة قائمة على العرض والطلب على السلع والخدمات في السوق الرياضي، وقد أصبحت كرة القدم صناعة مهمة ومصدر مهم للرخاء والنمو الاقتصادي والتطور الاقتصادي والاجتماعي، إذ شهدت السنوات القليلة الماضية تطورات هيكلية في صناعة كرة القدم، وتزايد الاهتمام بهذه اللعبة بغض النظر عن الحدود الجغرافية والوطنية والثقافية والنوع والطبقات كما ارتفعت أجور البث التلفزيوني وأسعار التذاكر وأسعار اللاعبين ومبيعات الإعلانات التجارية غيرها من الإيرادات الأخرى بصورة كبيرة، ولم يعد مفهوم استضافة البطولات مجرد احتفالية رياضية للاستمتاع فقط بل وأصبحت وسيلة هامة لتنفيذ المشاريع الاستثمارية الكبيرة وتحقيق الدخول والارباح وجذب الاستثمار الأجنبي المباشر وخلق فرص العمل وتنشيط الاقتصاد وزيادة معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وتسريع تنفيذ برامج التنمية والخطط التنموية، وقد أصبح اختيار الدول لتنظيم للبطولات واستضافتها (مثل كأس العالم وغيرها من البطولات) يخضع لعوامل اقتصادية بحتة.
ووفقاً لأحدث البيانات المتوافرة عن أسواق كرة القدم والصادر عن شركة ديلويت فقد نمت سوق كرة القدم الاوربية بمقدار 16% لتصل الى 35 مليار يورو (37.9 مليار دولار) في موسم 2022-2023، وحققت الدوريات الخمسة الكبرى اجمالي إيرادات وصلت الى ما يقارب 19.6 مليار يورو (21 مليار دولار) بمعدل نمو بلغ 14%، في حين يُشير التقرير الى إن الأندية الأكثر تحقيقاً للإيرادات (لأفضل 20 نادياً مُدراً للإيرادات) وصول الى ما يقارب 9.2 مليار دولار في موسم 2021-2022 وبزيادة قدرها 13% عن موسم 2020-2021 وقد جاء هذا الارتفاع مدفوعاً بعودة الجماهير بعد موسمين تضررا من جائحة كوفيد-19، إذ ارتفعت الإيرادات التجارية التراكمية بنسبة 8% (من 3.5 مليار يورو إلى 3.8 مليار يورو)، وهو ما ساهم فيه في المقام الأول الأندية الإنجليزية، وأبلغت خمسة من الأندية الكبار في الدوري الإنجليزي الممتاز عن زيادات بنسبة 15% أو أكثر باليورو (زيادة إجمالية قدرها 226 مليون يورو) مع دخول شراكات جديدة وعودة الأحداث غير المرتبطة بأيام المباريات مثل الحفلات الموسيقية وجولات الاستاد(2).
في حين أشار تقرير لرابطة الدوري الاسباني تناول التأثير الاجتماعي والاقتصادي لكرة القدم الاحترافية في إسبانيا، الى إن نسبة مساهمة كرة القدم في الناتج المحلي الإجمالي الاسباني بلغت نحو 1.44% (أي ما يقارب 18 مليارا و350 مليون يورو) في موسم 2021-2022، كما وفرت نحو 195 ألف وظيفة، الى جانب توفير 390 مليون يورو كضرائب لخزينة الدولة.
• كرة القدم السعودية: من الهواية الى العالمية
منذ إطلاق رؤية المملكة “2030” في إبريل من 2016 كانت الرياضة بشكل عام وعلى رأسها كرة القدم أحد القطاعات الرئيسة المستهدفة من أجل تحويل المملكة إلى وجهة رياضية عالمية على كل المستويات، وقد تولى صندوق الاستثمارات العامة السعودي تحقيق هذا الهدف ليصل في نهاية الأمر إلى تحقيق مستهدف وزارة الاستثمار بنحو 84 مليار ريال بحلول عام 2030 في ظل بلوغه حاليا نحو 30 مليار ريال فقط.
وفي هذا الإطار، شهد الدوري السعودي لكرة القدم قفزة نوعية، وبدأ الاتحاد السعودي لكرة القدم بأتباع سياسة جديدة عندما اتخذ محمد بن سلمان قراراً تاريخياً في يونيو/ حزيران 2023 بإطلاق مشروع الاستثمار في الأندية السعودية أو خصخصتها تحقيقاً لمستهدفات رؤية السعودية 2030 في القطاع الرياضي، إذ يهدف نقل الأندية وخصصتها بشكل عام إلى تحقيق قفزات نوعية بمختلف الرياضات في المملكة بحلول عام 2030.
ويقوم مشروع خصخصة الأندية على ثلاثة أهداف استراتيجية، تتمثل في إيجاد فرص نوعية وبيئة جاذبة للاستثمار في القطاع الرياضي لتحقيق اقتصاد رياضي مستدام، ورفع مستوى الاحترافية والحوكمة الإدارية والمالية في الأندية الرياضية فضلاً عن رفع مستوى الأندية وتطوير بنيتها التحتية لتقديم أفضل الخدمات للجماهير الرياضية ما ينعكس بشكل إيجابي على تحسين تجربة الجمهور.
واتصالاً بما سبق، قام الأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل بنقل ملكية أندية الهلال والنصر والاتحاد والأهلي المنافسة في دوري روشن السعودي إلى صندوق الاستثمارات العامة، وانتقلت ملكية نادي القادسية إلى شركة (أرامكو)، والدرعية إلى هيئة تطوير بوابة الدرعية، والعلا إلى الهيئة الملكية لمحافظة العلا، والصقور إلى شركة (نيوم)، كما أظهرت السعودية رغبتها في أن تشارك أنديتها في أهم البطولات العالمية الكبرى وعلى رأسها دوري أبطال أوروبا، مما يمكن أن يمثل تطوراً نوعياً على صعيد كرة القدم السعودية والآسيوية.
الى جانب ذلك، تسعى السعودية للوصول بالدوري السعودي إلى قائمة أفضل 10 دوريات في العالم، وزيادة إيرادات رابطة الدوري السعودي للمحترفين من 450 مليون ريال إلى أكثر من 1.8 مليار ريال سنويا، ورفع القيمة السوقية للدوري السعودي للمحترفين من 3 مليارات إلى أكثر من 8 مليارات ريال.
وفي هذا الإطار، فقد شهد مجموع الانفاق على بيع وشراء اللاعبين تطورات ملحوظة خلال السنوات العشر الماضية، وبحسب البيانات فقد بلغ الانفاق السعودي على شراء اللاعبين نحو 1026 مليون دولار بالمقارنة مع 16.1مليون دولار في عام 2014 وهو ما يمثل 46% من إنفاق الدوري الإنكليزي الاغنى عالمياً والذي بلغ انفاقه 2231 مليون دولار خلال عام 2023، ونحو 85% من إنفاق الأندية الاسيوية، وقد جاءت بالمركز السادس عالمياً بعد إنكلترا وإيطاليا وفرنسا واسبانيا وألمانيا، ويوضح الشكل الآتي إنفاق الأندية السعودية على انتقالات اللاعبين خلال العشر سنوات الماضية.
شكل (1) إنفاق السعودية على انتقالات اللاعبين خلال المدة 2014-2023 (مليون دولار)
الشكل من عمل الباحث بالاستناد الى اقتصاد الشرق من بلومبيرغ
وفي ضوء هذا الانفاق الكبير، احتل الدوري السعودي المركز الأول على المستوى الاسيوي خلال صيف 2024، وبإنفاق بلغ 431 مليون دولار كما في الشكل الآتي
شكل (2) اندية السعودية الأعلى انفاقاً في الانتقالات الدولية بآسيا لصيف 2024 (مليون دولار)
المصدر: من عمل الباحث بالاستناد الى: ميركاتو الشرق: النسخة السعودية لصيف 2024، ص4.
بالمقابل، حققت الأندية السعودية عوائد قدرها 27.7 مليون دولار من بيع 107 لاعبين خارج المملكة خلال فترة انتقالات صيف 2024، بحسب تقرير ميركاتو الشرق-النسخة السعودية لصيف 2024 وهو سابع التقارير الرياضية المالية الصادرة والذي يرصد سوق انتقالات لاعبي كرة القدم في الدوريات السعودية وفي مقدمتها دوري "روشن". وتمثل هذه الحصيلة زيادة قيمتها 12 مليون دولار عن صيف 2023، كما إن القيمة السوقية للاعبي الدوري السعودي وصلت الى نحو 1.36 مليار دولار في صيف 2024 مقارنةً مع 1.28 مليار دولار في عام 2023.
شكل (2) الأندية السعودية الأعلى ايراداً في آسيا من انتقالات اللاعبين خلال صيف 2024 (الانتقالات الخارجية) (مليون دولار)
المصدر: من عمل الباحث بالاستناد الى: ميركاتو الشرق: النسخة السعودية لصيف 2024، ص8.
وقد أسهمت التعاقدات مع لاعبين مشهورين مثل رونالدو وبنزيما وساديو ماني وغيرهم بزيادة حجم الإيرادات، إذ حصل الدوري السعودي على صفقات لبث المباريات لأكثر من 130 سوقاً مما ضاعف إيرادات البث الإعلامي 4 مرات بالمقارنة مع عام 2022، كما ان ايرادات البث ارتفعت بنحو 650% منذ انضمام كريستيانو رونالدو من مانشستر يونايتد.
• السعودية وكأس العالم 2034
أصبح تنظيم البطولات والاحداث الرياضية العالمية مصدر مهم لتوفير الموارد المالية للبلد المستضيف، وفي هذا الإطار، تُشير الدراسات الى إن تنظيم بطولات كأس العالم من شأنه ان يدعم ويحفز النشاط الاقتصادي، فعلى سبيل المثال كانت المساهمات القصيرة الاجل لتنظيم كأس العالم في قطر وصلت الى نحو 1% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 (ما بين 1.6-2.4 مليار دولار)، في حين كانت المساهمات طويلة الأجل كبيرة تتمثل في الاستثمار الكبير في البنية التحتية المعزز لنمو الناتج والمحفز لخلق فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، اذ نما الانفاق الرأسمالي بأكثر من 9% ،وعند الاخذ بنظر الاعتبار المضاعفات المالية طويلة الاجل فإن مساهمة الانفاق الرأسمالي طويل الاجل في نمو الناتج غير النفطي تراوح ما بين 5-6% خلال المدة 2011-202 مما حفز نمو القطاع غير الهيدروكربوني(3) .
وقد أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم عن حصول السعودية على حق تنظيم بطولة كأس العالم بأعلى تقييم فني يمنحه عبر التاريخ لملف تم تقديمه لاستضافة كأس العالم، وتعتمد الاستضافة على استراتيجية متكاملة ومبتكرة من شأنها أن تضمن للمشجعين تجربة عالمية، وتتمثل الاستراتيجية 15 ملعباً مقترحاً في 5 مدن منها 4 ملاعب قيد التجديد و3 ملاعب قيد الانشاء وصممت الملاعب لتلبية متطلبات البنية التحتية طويلة المدى.
عموماً، إن تأثير تنظيم بطولات كرة القدم مثل كأس العالم وغيرها يتم قياسه بشكل متزايد من خلال تأثيرها على الاقتصاد للبلد المستضيف، فهي أصبحت عنصر محفز للنمو الاقتصادي ومصدر مهم لتوفير المزيد من الإيرادات، وتحفز على خلق فرص العمل (بشكل مباشر وغير مباشر)، وهي تشكل عامل جذب للسياح مستقبلاً، فضلاً عن حجم الاستثمارات الضخمة التي يحتاجها هذا القطاع والتي لها تأثير قوي على تحفيز النمو، فالسعودية تعيش واحدة من أسرع قصص النمو وأكثرها تطوراً في كرة القدم، الامر الذي سوف ينعكس وبشكل إيجابي على اقتصاد السعودية وتنويعه وزياده مساهمة قطاع الرياضة بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص في الناتج المحلي الإجمالي.
المصادر:
1- Sports Global Market Report 2024 ،متوفر على الرابط
https://www.researchandmarkets.com/reports/5939106/sports-global-market-report#product--summary
2- https://www.deloitte.com/global/en/Industries/tmt/analysis/deloitte-football-money-league.html
3- 2022 FIFA WORLD CUP: ECONOMIC IMPACT ON QATAR AND REGIONAL SPILLOVERS, IMF, متوفر على الرباط https://www.elibrary.imf.org/view/journals/002/2024/044/article-A002-en.xml
اضافةتعليق