في عالمنا العربي والإسلامي عموما، وفي العراق بشكل خاص، هناك الكثير من الشخصيات الفذة التي لم تعطى المساحة الكافية من الاهتمام من قبل الكتاب والمثقفين وصناع القرار والمجتمع، واحيانا حتى من قبل محبيهم وانصارهم، فخسرت دولهم ومجتمعاتهم الكثير من رؤاهم وافكارهم التي كان يمكنها ان ترشدها في مسيرة بنائها وتنظيم علاقاتها الاجتماعية والمؤسساتية، ومن هذه الشخصيات السيد محمد الحسيني الشيرازي (1928-2001) الذي يرجع الى اسرة علمية عريقة كان لرجالاتها دورهم المؤثر في ميدان الفقه والقيادة الحوزوية، وفي ميدان القيادة الاجتماعية والسياسية، على مستوى العراق ومنطقة الشرق الأوسط الإسلامي، وعاش حياة زاخرة بالجهاد والعطاء العلمي تكبد بسببها الكثير من المشقة والملاحقة من قبل الحكومات القائمة في وقته.
لا نريد في هذا المقال ان نتطرق الى أسباب عدم الاهتمام بأفكار السيد الشيرازي؛ حتى لا نخرج الكلام عن سياقه المحدد، وكذلك لا نربك القارئ فنخسر تركيزه على الموضوع، وربما نتحدث عن ذلك في مقال آخر، لأن ما يهمنا الان هو تحديد تصورات الشيرازي حول متطلبات بناء دولة رشيدة في حال خروج المجتمع من سطوة نظام حكم مستبد وظالم؟
لقد اتسمت كتابات الشيرازي بالغزارة والكثرة، واحيانا كثرتها وتمددها الى مجالات علمية وحياتية كثيرة تجعل مهمة ملاحقتها صعبة وتتطلب جهدا مضافا قد لا يرغب بخوضه الكثيرون، ومن اجل تلافي هذا الارباك سنركز لتوضيح رؤاه في بناء الدولة من خلال كتيب صغير في حجمه، ولكنه عميق في محتواه ومضمونه، وذلك الكتيب عنوانه (اذا قام الإسلام في العراق)، ولا نريد من القارئ ان يربط عنوان الكتاب بشعارات الإسلام السياسي المعاصرة التي سبب معظمها الإحباط بأطروحاتها وبتنظيماتها ودعاتها، ولكن نريده ان يقارن ما ورد في هذا الكتيب الصغير بما حصل في العراق منذ الغزو الأمريكي لهذا البلد سنة 2003 الى الوقت الحاضر، فهذه المقارنة ستجعله يدرك ان العراقيين –نخبا ومجتمعا- لو اخذوا بما سطرته أنامل الشيرازي لتجنبوا الكثير من الإخفاقات والخطايا التي وقعوا ولا زالوا يقعون فيها.
ان بناء الدول بعد تخلصها من حكم الطغاة ليست مهمة سهلة تترك للصدفة والتجربة والخطأ، فما بالك إذا ترافق هذا البناء مع وجود محتل أجنبي يسعى لتحقيق مصالحه على حساب مصالح وقيم المجتمع الذي يحتله!!!، قطعا ذلك يجعل المهمة أكثر تعقيدا وصعوبة وتتطلب مستوى فريدا من الوعي والقيادة لتحقيق اهداف المجتمع وايصاله الى بر الأمان ببناء دولته الحديثة التي يسود فيها حكم القانون والمؤسسات، وينعم فيها الافراد والجماعات بحقوقهم وحرياتهم المحترمة. صعوبة بناء الدولة العراقية المنشودة، ومقتضياتها كانت حاضرة في فكر الشيرازي قبل سقوط حكم البعث، ولذا ستجد عزيزي القارئ انه وضع مرتكزات حكيمة لتحقيق ذلك، للأسف لم يستفد منها المجتمع ونخبه الحاكمة التي جاء بعد سنة 2003، ربما لو جرى عرض هذه المرتكزات قبل سقوط حكم البعث لما أدرك قيمتها الكثير، ولكن اليوم عند عرضها ستكون مفهومة ومقدرة بشكل صحيح، لاسيما وأننا نعيش خيبة عدم العمل بها وتجرع نتائج ذلك الوخيمة.
عزيزي القارئ الكريم، لقد سطر الشيرازي في كتيبه أعلاه ما اعتقده مرتكزات بناء الدولة في العراق في حال قيام حكم إسلامي فيه، ولكن هذه المرتكزات مناسبة لبناء أي دولة تخرج من ربقة الظلم والاستبداد، ولا يقتصر أمرها على العراق فقط، بل هي مناسبة لبناء أي دولة حتى لو لم يستند حكمها بالكامل على احكام وقواعد الإسلام، نعم مع بعض الاستثناءات القليلة التي يحكمها منهجية الإسلام في فكر الرجل، والتي ربما تحتاج الى إعادة نظر او تطوير لتنسجم تماما مع هدف بناء دولة حديثة معاصرة، ويمكن تحديد هذه المرتكزات بما يلي:
1-عدم الخوض في دماء الناس، وقد سماه الشيرازي بـ عدم تلويث الثورة بالدماء؛ لأنه اعتقد في وقته أن زوال حكم صدام حسين ممكن ان يتم بثورة شعبية ، وقد بين فلسفة هذا المرتكز بقوله: فالحكم الذي يوغل في قتل الناس ويتورط في دمائهم يبدأ العد العكسي لسقوطه، فان الناس لا يصبرون على قتل أولادهم واخوانهم وآبائهم وذويهم وأصدقائهم فيأخذون في ذم القاتل وترصد عثراته وينصرفون الى هدم كيانه واسقاط شرعيته واثارة الرأي العام ضده، فالحكم الذي لا يقوم على ولاء الشعب يفقد مقومات البقاء (اذا قام الإسلام في العراق: 21-22)، ويتضح من هذا المرتكز أهمية بناء الحكم على الثقة بين الحاكم والمحكوم، وهذه الثقة لا يمكن ان تتحقق بدون احترام حياة الناس ومنع إراقة دمائهم.
2-العفو العام عن كل من ارتكب خطيئة او جرم قبل سقوط النظام عند تشكيل الحكم الجديد، فالعفو العام عند الشيرازي يسبب اطمئنان الناس الى الحكومة القائمة مما يؤدي الى تعاونهم مع الحكومة، وهذا يعني انتشار الاستقرار والأمن، والحكومة خصوصا في أول أمرها بحاجة الى التعاون الواسع من الناس ( اذا قام الإسلام في العراق:26)، وهذا المرتكز يذكر القارئ بسياسة المناضل الافريقي الكبير نيلسون مانديلا التي سماها بـ ثقافة النسيان بمعنى ان يقوم الحكم الجديد بقلب صفحة كاملة عما حصل في ظل الحكم القديم، وقد ساعدت هذه السياسة دولة جنوب افريقيا في التخلص من ميراث حكم الابارتيد (الفصل العنصري) الذي جرى تطبيقه من قبل الحكام البيض، وبالفعل استطاعت هذه الدولة في وقت قياسي تحقيق منهج صحيح للعدالة الانتقالية انتهى بتحقيق نسبة كبيرة من الاستقرار والتعايش الاجتماعي، وهذا للأسف ما فشل في تحقيقه نظام الحكم في العراق بعد سنة 2003، فكانت نتيجة الاعمال الثأرية والانتقامية اتجاه الافراد والمؤسسات التي تعود الى حقبة البعث حصول حالة كبيرة من الخوف والتمرد شكلت قاعدة صلبة وحاضنة اجتماعية للتنظيمات الإرهابية التي تغولت بعد سنة 2005 ووصل بها الحال الى سقوط ثلث مساحة العراق الجغرافية بيد تنظيم داعش الإرهابي بعد سقوط الموصل سنة 2014. لقد خسر العراق -دولة ومجتمع-الكثير لعدم الاخذ بهذه القاعدة.
3-الحرص على السمعة الدولية للدولة وحكامها، وقد سماها الشيرازي حسن السمعة، ويقصد بها ان الحكم الجديد عليه ان يحرص أشد الحرص على ان يكون له سمعة دولية جيدة من خلال التركيز على ترسيخ بناء المؤسسات الديمقراطية والحرص على خدمة المجتمع ونزاهة الموظفين، وقد عبر عنها بكونها استشارية وشعبية ومتواضعة وخدومة ومتدينة، بعيدة عن العسكرة والدعايات الإعلامية الكاذبة. ان السمعة الدولية للدولة هي ما يطلق عليه المتخصصون في السياسة اليوم اسم القوة الناعمة والتي تشكل مع قوة الدولة الصلبة العسكرية والاقتصادية المرتكز الأساس لقدرة الدولة وتأثيرها في الميدان الدولي، وللأسف تجد ان حكم ما بعد 2003 في العراق لم يولي الاهتمام الكافي لسمعة العراق الدولية، فلم يحرص على ترسيخ المؤسسات الدستورية الديمقراطية، ولم يحترم تماما النصوص الدستورية، وفشلت مؤسسات الدولة في القيام بدورها بكفاءة في خدمة المواطن، وغالبا ما جرى تغليب الولاء على الكفاءة في اختيار الموظفين والمسؤولين الحكوميين.
4-الأولوية للعمل لا للشعارات، وهذا المرتكز يعد من اهم مرتكزات بناء الدولة، فمشكلتنا في عالمنا العربي والإسلامي ان معظم قادتنا السياسيين هم ظاهرة شعاراتية، فهم يطلقون الشعارات الرنانة الفخمة التي يخيل لسامعها انهم باتوا قاب قوسين او ادنى من ملامسة النجوم، في وقت تجدهم غارقين في غياهب التخلف والقصور عن وضع شعاراتهم موضع التنفيذ، هذا ما فعله القوميون العرب، ومواطنيهم اليساريون، وهذا ما يفعله اليوم الكثير من الإسلاميين، وقد عبر عن هذا الوضع المعيب الشيرازي بقوله: التمسك بالشعار الفارغ وان كان يتصور فائدته على مستوى السطح، ولكنه يضر في العمق؛ لأنه يصرف الأنظار والأفكار عن حقيقة العمل وعمقه الى مجرد الكلام، وكذلك كونه وقتيا لا يستمر في تأثيره... (اذا قام الإسلام في العراق: 32). ان رفع الشعارات وجعلها ظاهرة صوتية لا يسندها التطبيق العملي، جعلها تفقد قيمتها، فلم تعد تؤثر في الناس، واظهر الرافعين لها على انهم مجرد عاجزين كاذبين يقولون ما لا يفعلون، وهذا دفع الناس الى فقدان ثقتهم بالشعارات وقائليها من جهة، وأضعف قدرة الحكومات وقادتها السياسيين في تعبئة شعوبهم خلفهم عند الضرورة، وعدم تفاعلها مع برامجهم، حتى لو كانت جيدة وحسنة النية، مما يقود الى فشلها، وهذا طبيعي جدا، فالقوانين والبرامج والمؤسسات عندما تخسر دعم الناس تخسر مع ذلك فاعليتها وقدرتها على النجاح.
5- وجود الدستور والتنظيم القانوني لعمل الدولة، على الرغم من ان الشيرازي عندما تحدث عن الدستور لم يكن يتحدث عن الدستور الوضعي بطريقته المتعارفة في البلدان الحديثة، وانما ربطه بمصادر التشريع المعروفة وهي الكتاب والسنة والاجتماع والعقل، وهذا مفهوم كون الرجل ينطلق من مرجعيته الفقهية الدينية، واعتقد ان وجود دستور مكتوب للدولة لا يتناقض مع الاخذ بمصادر التشريع أعلاه، طالما ان الغاية هو التنظيم القانوني لعمل مؤسسات السلطة، ولحقوق وحريات الافراد داخل الدولة، وهذا الامر ربما يتطلب مراجعة من قبل المفكرين الإسلاميين عندما يقدمون تصوراتهم عن بناء الدولة وفقا لمناهج حديثة ومعاصرة، ولكن ما نفهم من حديث الشيرازي حول هذا المرتكز هو ضرورة وجود التنظيم القانوني لعمل الدولة بما يتناسب مع تطورات الزمان ومقتضياته، فالقانون فوق الجميع، وان غياب القانون او ضعفه يهدد بناء الدولة ويخلخل ميزان العدالة فيها. وقد أدرك الشيرازي ان استيراد او صياغة القوالب القانونية الجاهزة غير مفيد، لذا طرح فكرة مهمة للغاية تتمثل في اعتماد التدرج في تطبيق النصوص القانونية، مبينا فلسفته في التدرج بالقول: فاللازم التدرج في التطبيق حسب الإمكان، بما لا يوجب اضطرابا في المجتمع يؤدي الى التحطم أو الى إشكالات مرفوعة من العسر والحرج والضرر، في بعض الموارد، حيث لابد أن تدرس إمكانية التطبيق حسب قانون الأهم والمهم (إذا قام الإسلام في العراق:40-41).
ان التطبيق للقوانين بما يتناسب مع استعداد الناس وقبولهم لها وادراكهم لقيمتها مهم جدا لاحترامها والتقيد بها، وغالبا ما كانت الحكومات الثورية او التي تأتي في اعقاب نظام حكم منهار تلجأ الى الفورية في طرح منظومة قانونية شاملة، وأحيانا غريبة عن فهم الناس ومقتضيات مصالحهم، مما يولد النفور منها والتمرد عليها وعدم احترامها، لذا فالتدرج منهجية جيدة في اكساب من يخضع للقاعدة القانونية القبول بها، ولعل ذلك هو السر الذي جعل الله عز وجل ينزل نصوص القرآن بما فيها من مبادئ وقواعد واحكام بطريقة متدرجة ليفهم المسلم كل واحدة منها ويعمل بها بشكل صحيح، ليكون مستعدا لتلقي غيرها.
فضلا على ما تقدم، تجد ان الشيرازي التفت الى أمر مهم وهو ان القوانين لا تتمتع بنفس الوزن والفائدة، وانما بعضها كثير الأهمية والفائدة، وبعضها الآخر أقل منها أهمية وفائدة، ولذا فقد طالب بالتركيز على ما سماه بالقوانين الحيوية – حسب وجهة نظره-تلك القوانين التي يترتب عليها مساعدة الطبقات الهشة والضعيفة، والتي تفسح المجال الكافي لحماية حقوق وحريات الافراد والجماعات، وتساعد على إطلاق طاقاتهم ومواهبهم في العمل، وتحمي روابط الاخوة والتعايش بينهم (إذا قام الإسلام في العراق: 43-47).
إضافة الى ذلك، من الواجب ان يكون نظام العقوبات في الدولة فاعلا، على ان تكون روح القانون لا نصوصه هي التي تحكم تطبيقه، ولذا تجد الشيرازي يدعو الى الاستفادة من قاعدة درء الحدود بالشبهات الى اقصى حد من اجل الحفاظ على سمعة الدولة أولا، وعدم وقوعها في فخ الإرهاب للناس ثانيا، وانه يجد ان تطبيق حدود الإسلام لا يكون بدون تطبيق عدالة الحكم وإعطاء الحقوق والحريات للناس بشكل كامل، معتبرا ذلك منظومة كاملة غير قابلة للتجزئة (اذا قام الإسلام في العراق:48-52)، وهذه الالتفاتة منه مهمة للغاية، وتبرز خطل واعوجاج منهج بعض القوى والتيارات الإسلامية التي ذهبت الى تفعيل نظام العقوبات الإسلامي، قبل ان توفر للناس حكما عادلا مؤهلا لتطبيقه، وقبل إعطاء الناس كامل حقوقهم وحرياتهم، متناسية ان غاية تطبيق القانون سواء كان مصدره سماوي او وضعي هو تحقيق العدالة ، والنظام الحاكم الفاشل في تحقيق العدالة في اختيار حكامه وتشكيل مؤسساته وإعطاء كل انسان ماله من حق وحرية، يكون فاشلا وغير مؤهل لتطبيق القانون جملة وتفصيلا.
6-حماية حقوق وحريات الافراد والجماعات، فقد انشغل الشيرازي بموضوع الحرية في كتاباته بشكل منقطع النظير، مبررا ذلك بقوله: الحرية أصل يعطي للإنسان الحق في ان يختار أي شيء أو يقول أي كلام، أو يفعل أي فعل ...كما تقرر ذلك في العقل والشرع. فعلى الدولة الإسلامية القائمة أن تطلق كافة الحريات للناس في كل الابعاد...من حرية العقيدة والرأي والزراعة والاكتساب والتجارة والصناعة والدخول في الوظائف والسفر والإقامة والعمارة وحيازة المباحات ونصب محطات الراديو والتلفزيون وإيجاد المطابع وانشاء الأحزاب والمنظمات وانشاء المصانع والمعامل وإصدار الصحف والجرائد والمجلات والانتقال من بلد الى بلد بنفسه او بكسبه... ( اذا قام الإسلام في العراق: 62)، وقد وصل طلب الحرية لديه الى حد الدعوة الى منع كل ما يكبح او يعيق تمتع الانسان بحرياته كالهويات الشخصية وجواز السفر واجازة الاستيراد والتصدير، ولعل هذا الرأي من المبالغات التي طرحها في وقت لا يتناسب مع حقائق وواقع العمل في الدول الحديثة والتي تتطلب إعادة مراجعة وتصويب، فمع عدم قيام حكومة عالمية واحدة، لا يمكن تصور الانتقال الحر للناس والبضائع بدون ضوابط رسمية تنظم هذا الانتقال. ولكن مع ذلك، يعد جعل الحقوق والحريات مرتكزا لبناء الدولة من الأسس الصحيحة لبناء الانسان فيها، ولذا تجد ان الشيرازي عد هذا الموضوع من متطلبات امتلاك الدولة للقدرة الحقيقية والواقعية في محيطها، فضلا على كونه منطلقا لتوزيع هذه القدرة بين الافراد والجماعات، فتكون الدولة قوية بنفسها، وقوية بمجتمعها، وحماية الحقوق والحريات في الدولة لا يكون لفئة دون غيرها، بل تشمل جميع الفئات وفي جميع الأماكن، وينعم بها المسلم وغير المسلم، وفقا لضوابط واحكام يراعى فيها الشرع والآداب العامة.
7-الإصلاح الأمني، والهدف منه تحقيق الاستقرار الأمني في البلد، وهذا يتطلب وجود أجهزة أمنية كفوءة تعمل في إطار القانون والمؤسسات الحرة لتحقيق مصالح الناس والدولة، ولا تكون أداة بيد السلطة لتحقيق مصالح افرادها وخنق حريات الناس بالمراقبة والتتبع والاعتقال، فضلا عن كفاءتها في مواجهة أعداء الدولة الخارجيين، سواء كانوا افرادا ام دولا، وهذا يتطلب الاستعانة بأفضل الأشخاص وأكثر وسائل التكنلوجيا تقدما في إدارة وتطوير عمل هذه الأجهزة (إذا قام الإسلام في العراق:66-68).
8-الإصلاح الإداري، ويكون بالاهتمام بالخبراء الاكفاء ووضعهم في المكان المناسب في الإدارة، لذا حذر الشيرازي من سياسة ما سماه بالاعتماد على الولاء الثوري للتوظيف وتسنم المناصب في الدولة على حساب الكفاءة؛ كونها سياسة خاطئة تزيد الأمر تعقيدا واعضالا، اذ معنى ذلك أن تقع إدارة الدولة بيد غير الاخصائيين، مما يتبعه أخطاء كثيرة وكبيرة (اذا قام الإسلام في العراق:69)، وانه لابد من الجمع بين الأمانة والخبرة في إدارة عمل مؤسسات الدولة، محذرا –في الوقت نفسه- من تضخم اعداد العاملين في مؤسسات الدولة، لما يشكله من خطر كبير عليها، وقد أشار الى ذلك بالقول: التضخم في جهاز الموظفين في الدولة هو اسوء من التضخم في الاقتصاد، بل قد يكون هو من أسبابه؛ لأن التضخم في الجهاز الوظيفي يجعل المنتجين مستهلكين، ويؤدي الى سيطرة البيروقراطية التي تحول دون حريات الناس، وحينئذ تتجه البلاد نحو الفقر والعوز بعد أن يستملك الجهاز الحاكم الأموال، ويمنع الناس من حرية العمل والإنتاج ( اذا قام الإسلام في العراق: 97)، ولذا تجده يطالب بتقليص فائض الموظفين العاملين في الأجهزة الحكومية، بتشجيع القطاع الخاص وزجهم للعمل فيه. علينا ان نتذكر ان الشيرازي يقول هذا الكلام سنة 1994، أي قبل سقوط نظام البعث بتسع سنوات، وقبل ان تعاني الدولة العراقية بعد هذا السقوط من مآسي تقديم الولاء على الخبرة في تولي وظائفها وتسنم مناصب المسؤولية فيها الذي انتهجته القوى السياسية التي تولت ادارتها، وكذلك قبل حصول التضخم المريع في الكوادر الوظيفية، الذي بات أمرا مرهقا للموازنة السنوية، ومعرقلا لخطط الحكومات المتعاقبة في الانطلاق بمشاريعها الاستثمارية، وهو ما بات يسميه الخبراء الاقتصاديون باستهلاك موارد الدولة في الموازنة التشغيلية (رواتب الموظفين ومتعلقاتها) على حساب الموازنة الاستثمارية. ولكن ما حذر منه الشيرازي في كتاباته، للأسف حصل في العراق بعد سنة 2003، وستبقى الدولة تعاني من تأثيراته الخطيرة، ما لم تمتلك استراتيجية ناجحة للقيام بإصلاح اداري شامل تسترشد في جزء منه بأطروحات الشيرازي ونصائحه.
9- الإصلاح الاقتصادي، فقد أولى السيد الشيرازي لموضوع الاقتصاد اهتماما كبيرا من اجل بناء الدولة على أسس صحيحة، رابطا تطور الاقتصاد الوطني بسمعة الدولة وقوتها في المحيط الدولي، وقد اطلق في هذا المجال مقولات مهمة، منها: من لا معاش له لا معاد له، و الاستقلال الاقتصادي يوجب الاستقلال السياسي، وطالب صناع القرار بالاستعانة بالخبراء والمتخصصين عند وضع سياسة الإصلاح الاقتصادي، فضلا على الاعتناء بإيجاد منظومة مساعدة من القوانين التي تدعم تطور الاقتصاد، وتفسح المجال امام النهوض الاقتصادي، وقد استعان في تحديد معالم هذه المنظمة بما اعتقده من قواعد موجودة في التشريع الإسلامي، كقاعدة لكم رؤوس اموالكم، وقاعدة الأرض الموات، وقاعدة السبق وغيرها . كما ركز على ضرورة تحقيق الدولة للاكتفاء الذاتي في جميع القطاعات، كالزراعة والصناعة والتجارة والخدمات وما شابه، ورأى ان تحقيق هذا الاكتفاء كفيل بالحفاظ على استقلال الدولة السياسي ومنع ابتزازها والتجاوز على سيادتها، لذا تجده يقول: ان بعض دول العالم الثالث تركز معظم مصروفاتها على الاستهلاك والاعتماد كليا على ما تستورده من الخارج لتغطية احتياجاتها الأساسية والكمالية، ولذلك فإنها تصبح تابعة وأسيرة للدول التي تعتمد عليها ، خاصة اذا كانت تستقرض منها، ولو انها صرفت هذه على تقوية بنيتها الاقتصادية لنالت اكتفائها (اذا قام الإسلام في العراق: 92)، وهذا للأسف الخطأ الذي وقع وما زال يقع فيه العراق.
10-الإصلاح الاجتماعي، لا يمكن وضع أي دولة على المسار الصحيح ما لم يتم الاعتناء بإصلاح وضع المجتمع فيها، فقوة الدولة الحقيقية ليست بجيوشها ومواردها الطبيعية، وانما قوتها بقوة مجتمعها – افرادا ومجموعات- ولذا تجد دولا ضعيفة الجيوش والموارد كسنغافورة واليابان وكوريا الجنوبية وغيرها أصبحت متقدمة بمسافات بعيدة على دولة أخرى اعظم منها جيوشا ومواردا طبيعية كالعراق وعدد كبير من البلدان الإسلامية وغير الإسلامية، والسر في قوتها هو قوة مجتمعها، فالموارد البشرية الكفوءة والمتقدمة ينتج عنها قيادات أفضل، ومؤسسات أقوى، واستثمار أمثل لبقية الموارد. لقد حرص الشيرازي اشد الحرص على وضع سياسات ناجحة للإصلاح الاجتماعي، فحث الحكومات على تعديل مواطن الانحراف وتوجيه الانحرافات الاجتماعية نحو الاعمال السليمة والشريفة...وانتشال الغارقين في الانحراف ومساعدتهم على ان يصبحوا افرادا صالحين ومفيدين في المجتمع. وهذا يعني أنه لا يصح المعاقبة...بدون إيجاد بديل وعمل صحيح يجنبهم السقوط في العمل المنحرف مرة أخرى (اذا قام الإسلام في العراق:110)، وهذه الرؤية في اصلاح الانحراف والمنحرف رؤية حكيمة للغاية، فمهمة الحكومات الأساسية ليست محاربة الانحراف بقدر ما هي اصلاح المنحرفين وتحويلهم الى أناس صالحين، بعيدا عن نزعة الانتقام والسخرية او الاتهام بالدونية، ولذا تجد انه يدعو الى إيجاد معالجات جذرية لمشاكل الفقر والبطالة في المجتمع كونها من المشاكل الخطيرة المدمرة لسلامة كيانه، فيقول: البطالة تجر العاطلين عن العمل نحو الانحلال الخلقي والسرقة والجريمة والمرض والانتحار والجهل والفوضى وغيرها...، ويربط ربطا محكما بين وجود البطالة ووجود الفقر، ويحض الحكومات على إيجاد شكل ما من الضمان الاجتماعي للفقراء العاطلين بما يوفر لهم الحد اللائق من الحياة الكريمة، الذي يضمن حاجاتهم الأساسية.
11-محاربة الفساد، فالفساد كما عبر عنه الشيرازي يوجب تأخر الامة وتدمير الشعب، بعد ان يسلب اطمئنانهم بالدولة، والفساد ينتج عنه النفور العام الذي ينتهي بـ سقوط الحكومة، ولا يختلف التأثير السيء للفساد في المجال الإداري والاقتصادي والسياسي، عن الفساد في المجال الاجتماعي، فجميع اشكال الفساد سيئة ويترتب عليها نتائج خطيرة (إذا قام الإسلام في العراق: 107-109). ان آفة الفساد التي حذر من مخاطرها السيد الشيرازي، هي اليوم الآفة المستحكمة بالدولة العراقية ما بعد سنة 2003 وتنذر جميع الكتابات، داخل العراق وخارجه، بكوارث جمة ما لم يتم إيجاد حلول جذرية سريعة وحاسمة لها، ناهيك عن انها تسببت في ضياع الكثير من الموارد والجهود، وصادرت الكثير من الحقوق الفردية والجماعية، فضلا عن الحاقها ضررا بالغا بسمعة العراق في محيطه الإقليمي والدولي.
12-السلام في العلاقات الدولية، حيث يقسم الشيرازي دول العالم الى صنفين: إسلامية، وغير إسلامية. وهو يدعو ان ارتكاز العلاقة مع الدول الإسلامية على قواعد الاخوة الإسلامية، والأمة الواحدة، والحرية الإسلامية، بل انه يشجع المواطنة الواحدة داخل هذه الدول، وهي فكرة متقدمة جدا يأملها معظم المسلمين، ولكن واقع الدول الإسلامية-للأسف-غير مستعد لها في الوقت الحاضر، لأسباب كثيرة. اما بالنسبة للدول غير الإسلامية فيجب ان ترتكز العلاقة معها على قواعد القانون الدولي، التي سماها بـ “الالزام، وعلى المصالح المتبادلة، وتجنب اثارت النزاعات التي تقود الى الحرب، بل انه يدعو الى تسوية هذه المنازعات بالطرق السلمية، والابتعاد عن الغرور والكبرياء والانانية في تنظيم العلاقات الدولية، من اجل استبدال العداء بالتعاون بين الدول، والتأسيس لعلاقات يسودها السلام وتبادل المصالح فيما بينها (إذا قام الإسلام في العراق:75-82).
يتضح من خلال هذه المرتكزات الاثني عشر المقترحة لبناء الدولة العراقية بعد زوال حكم البعث طبيعة الرؤية الاستراتيجية البعيدة للسيد الشيرازي، تلك الرؤية التي لم يستفد منها صناع القرار والمجتمع في العراق بعد سنة 2003، فارتكبت الحكومات والقوى السياسية بعد هذا التاريخ أخطاء جمة، هددت –ولا زالت-بنية الدولة، وحرفت العملية السياسية عن مسارها الصحيح الذي كان يحلم به المواطن العراقي الذي اكتوى بنار الظلم والاستبداد والفساد. نعم قد تكون الفرصة لا زالت سانحة لأجراء مراجعة صادقة وامينة في هدي هذه المرتكزات، ولكن في مطلق الأحوال فان اهمالها سابقا الحق اضرار لا يمكن إصلاحها بسهولة، والاستمرار بإهمالها –كليا ام جزئيا-ينذر بمشاكل كثيرة تهدد مستقبل الوجود السياسي للعراق، والسلم الأهلي لنسيجه الاجتماعي القائم.