أُسس هذا النظام بشكل رسمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة في جزء كبير منه، وقد طغت الهيمنة الأمريكية عليه تدريجيًا، ولاسيما بعد نهاية الحرب الباردة، وصوًلا إلى عصرنا الحالي، الذي افرز بعض الفرضيات القائلة بتهديد هذا النظام أو بعض اركانه، ولاسيما مع تصاعد الشعبوية العالمية وفوز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بالولاية الثانية
يشير وصف النظام الدولي الليبرالي في العلاقات الدولية إلى مجموعة من العلاقات العالمية، التي شاعت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، والعلاقات او الاتفاقات المهيكلة، المبنية على الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية، اللتان تشكلان "الليبرالية الدولية". ويقوم هذا النظام على تفاصيل (سياسية واقتصادية وأمنية) كثيرة، تستلزم الدفاع والتعاون الدولي بين اقطاب النظام الدولي؛ لمواجهة المخاطر التي تولد من النزاعات بين الدول والحروب والكوارث الطبيعية والمصطنعة، فضلًا عن الازمات الدولية، هذا التعاون والتعاضد يتم من خلال مجموعة مؤسسات متعددة الاطراف (مثل الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي)، التي تنطلق من شرعية اهدافها المعلنة في المساواة بين البشر والحرية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، والأسواق المفتوحة، والأمن المشترك، وتعزيز الديمقراطية الليبرالية والتعاون النقدي. أُسس هذا النظام بشكل رسمي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة في جزء كبير منه، وقد طغت الهيمنة الأمريكية عليه تدريجيًا، ولاسيما بعد نهاية الحرب الباردة، وصوًلا إلى عصرنا الحالي، الذي افرز بعض الفرضيات القائلة بتهديد هذا النظام أو بعض اركانه، ولاسيما مع تصاعد الشعبوية العالمية وفوز الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب بالولاية الثانية، فضلًا عن خطابه وسلوكه السياسي؛ الأمر الذي عزز من تلك الفرضيات، ودعا المتخصصين بشكلٍ عام، والامريكيين بشكلٍ خاص، الالتفات إلى هذا الأمر، الذي من شأنه أن يعرض الهيمنة الأمريكية والنظام الدولي والمؤسسات الليبرالية إلى الانهيار. إذ تواجه جوانب النظام الدولي الليبرالي تحديًا داخليًا، داخل الدول الليبرالية من قبل (الشعبوية والحمائية). وتحديات خارجية من قبل الدول السلطوية، والدول غير الليبرالية، والدول غير الراضية عن أدوارها في السياسة العالمية، وتأتي روسيا والصين في مقدمة تلك التحديات، فضلًا عن ذلك، يجادل بعض علماء السياسة والمتخصصين بأن النظام الليبرالي يحتوي على جوانب تقوِّض الذات – كالتي أشارت إليها الفلسفة الماركسية في طبيعتها الجدلية – يمكن أن تؤدي إلى رد فعل عنيف أو انهيار، انطلاقًا من ديالكتيك الانظمة وطبيعتها المتغيرة التي لا يمكنها أن تدوم إلى الابد، بموازاة التطورات الحاصلة في المجتمعات البشرية والمصالح الدولية المتغيرة، وفرضيات النظرية الواقعية.
وفي ظل هذه البيئة والتشابك في المصالح العالمية وتنامي الفلسفة الليبرالية وشيوع العولمة، استطاعت الولايات المتحدة تحقيق هيمنتها العالمية على النظام الدولي خلال العقود الماضية، مستفيدة من فلسفتها الليبرالية التي اطاحت بمنافستها الاشتراكية بشكل رسمي بعد نهاية الحرب الباردة، عبر صياغة أنماط من السياسات غير المباشرة لفرض السيطرة على البنى السياسية والاقتصادية داخل العديد من دول العالم. إذ تتحرك الولايات المتحدة الأمريكية لتعزيز مصلحتها المادية أكثر من الالتزامات المبدئية والمثل العليا النبيلة التي تتبناها تحت مظلة الليبرالية والديمقراطية، من خلال الحكم غير المباشر ومجموعة من الادوات الضاغطة، كالأدوات الاقتصادية، ودعم النخب الحاكمة، ولاسيما في منطقة الشرق الاوسط، وبناء السلام والتعاون المتعدد الأطراف، وهو إحدى الأدوات التي مارستها الولايات المتحدة في فرض هيمنتها العالمية، ولاسيما في الدائرة الأوروبية؛ إذ تم بناء السلام الأمريكي حول مجموعة من الأنظمة الدولية، ولاسيما في التجارة، والتمويل، وحقوق الإنسان، والأمن الجماعي، التي سهلت التعاون بين الدول المتشابهة في التفكير إلى حدٍ كبير. إلا أن ذلك لم يقف عائقًا أمام تنامي التحديات التي بدأت تتشكل "منذ بداية مطلع القرن الحالي" ضد النظام الليبرالي وعصر الهيمنة الأمريكية. ولعل أبرزها ظهور تيارات مناهضة أو معادية للسياسة الأمريكية في العديد من دول العالم، كتراجع الدعم داخل الدول التابعة، وبروز النيوليبرالية وصعود أقطاب أخرى، التي تعتقد بأن رفاهية الديمقراطية الأمريكية تتوقف على رفاهية الديمقراطيات التابعة لها أو المرتبطة بها. وفي خضم التطورات الراهنة المتمثلة في التحول النيوليبرالي في الولايات المتحدة وأوروبا والتآكل الناتج عن ذلك للأمن الاقتصادي؛ وصعود الصين وروسيا كأقطاب مؤثرة عالميًا، فضلًا عن تآكل التفوق العالمي للدولار، ولاسيما مع طبيعة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة الامريكية على الكثير من دول العالم، ولاسيما على روسيا والصين، سيكون لها تأثيرات من شأنها أن تؤثر في المصالح والهيمنة الأمريكية.
وفي ظل تلك الظروف والتحديات التي تواجهها الهيمنة الأمريكية منذ ما يقارب العقدين من الزمن على المستويين (الداخلي والخارجي) تبرز الشعبوية العالمية وسلوك الرئيس الأمريكي الحالي وخطابه السياسي كأبرز التحديات المعاصرة التي من شأنها أن تبدد النظام الدولي الليبرالي والهيمنة الأمريكية. إذ تناقش النخب الأمريكية تلك الفرضيات بجدية عالية، ولاسيما بعد تسنم الرئيس المنتخب دونالد ترامب، مقاليد الحكم والسيطرة في البيت الابيض، ومن تلك المناقشات العلمية المهمة، تأتي دراسة أستاذا العلوم السياسية والحكومة ألكسندر كولي ودانييل نيكسون لتسلط الضوء على تلك الفرضية بشكل مباشر في مقال لهما نشر على صحيفة الـ (فورين أفيرز) الأمريكية بعنوان (ترامب لن يدمر النظام العالمي.. لأنه ميت بالفعل!). باعتقادهما أن فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية مجددًا يمكن أن يُمثّل ضربة قاصمة لما يُعرف بـ"النظام الدولي الليبرالي"، ولاسيما في ظل ازدراء ترامب من المؤسسات والهيئات الرئيسية التي شيَّدتها واشنطن للحفاظ على هذا النظام والتربع على عرشه، مثل حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، والأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية. ويرى الكاتبان أن هذا النظام يتعرض لتهديد كبير بالفعل حتى قبل صعود ترامب، لكن السياسات القومية للرئيس المنتخب وفريقه، تهدد بتقويض هذا النظام بلا رجعة. فالقوة التي توفرها مؤسسات النظام الليبرالي الدولي للولايات المتحدة كبيرة جدًا؛ وأن الدول الكبيرة التي تنافس امريكا على النظام الدولي مثل روسيا والصين، لا تسعى إلى التعددية التي يوفرها النظام الدولي بقدر ما تريد أن توسع نفوذها في تلك المؤسسات أو إيجاد مؤسسات بديلة او مماثلة لها، وتتحين الفرص للانقضاض على هذا النظام؛ لهذا يعتقد انصار التعددية أو الأمميين الذي يختلفون مع توجهات ترامب الخارجية بضرورة الحفاظ على تلك المؤسسات، ولديهم مخاوف كبيرة من السياسة الخارجية القائمة على الانسحاب من تلك المؤسسات أو من مبدأ ترامب "أمريكا أولًا"، وإذا لم يتمكنوا من الحفاظ على تلك البيروقراطيات المكلفة عبر إدارة الالتزامات العالمية لأمريكا، ولم يتمكن البراغماتيون في إدارة ترامب من تعديل سياسته الخارجية القائمة على مبدأ "أمريكا أولا"، فإن الرئيس القادم سوف يتخلى طواعية عن أدوات القوة والمصالح الأمريكية؛ فهم يعتقدون بان أمريكا ستفقد تفوقها، بل وربما يتعرض أمنها القومي للخطر، نتيجة تخلّيها عن المقومات التي أسست للهيمنة الأمريكية على مدار أكثر من 50 عامًا.
اضافةتعليق