الميكافيلية هي نظرية حكم وتصرف وسلوك تسعى للوصول إلى السلطة ، نظرية سياسية طرحها نيقولا ميكيافليي في كتابه الأمير ، ركيزتها الأساسية هي الغاية التي تبرر الوسيلة ، مهما كان نوعها ، نظامها وقاعدتها الحكمية حكم لا أخلاقي اخطر قاعدة من قواعده هي إمكانية أن يصبح المحظور مباحا ، فتتحول وفق ذلك القسوة والوحشية في صراع الحكام على السلطة هدف إستراتيجي، فتغدو ممارسة التصرفات الدموية واللا أخلاقية مباحة ووسيلة لابد منها للوصول إلى دفة الحكم، الإشكالية المعاصرة تكمن في : تحول بعض النظريات الحكمية الإسلامية نحو الميكافيلية بشكل تدريجي نتيجة ضعف نخبوي وأيديولوجي سياسي ، لأن الميكافيلية بما تحملها من مواصفات تتعاكس بالأصل مع الأيديولوجيا السياسية الإسلامية ، فهي كناية عن فعل الساسة الذين يعمدون إلى تحقيق مآربهم بالدهاء والمكر والقوة ، فهي مؤشر لا أخلاقي نحو التوجه الأيديولوجي الجمعي السلوكي ، وفق هذه المواصفات تنتفي العلاقة بين هذه النظرية والإسلام السياسي ، لوجود علاقة عكسية بين الأيديولوجيا السياسية التي تحكم مسار الميكافيلية التي تقود نحو الـلا أخلاقية ، وبين الثوابت القيمية الاجتماعية التي من المفترض أن تكون منتجة للإسلام السياسي في الوقت الحاضر ، تلك الثوابت المنبثقة بالأصل من قيم الفرد وقيم الجماعة ذات النهج التكاملي الذي يقود إلى التطور والرقي الاجتماعي المنتج للنظرية السياسية، هذه النقطة بحد ذاتها تمثل تعاكس سلبي ، ولا يمكن أن تندمج في المجتمع الإسلامي لوجود قطيعة فكرية بين النظريتين ، ففي بناء أي قاعدة فكرية أو نظرية سياسية أو اجتماعية يجب أن تنسجم مع طبيعة العصر ، لغته ، ومفاهيمه ، أوضاعه العامة، ووفق هذا المنطلق إذا حللنا زمان ومكان ظهور الميكافيلية لوجدنا مايلي : إن زمانها ومكانها ولغتها ومفاهيمها تتسم جميعها بالفرقة والتشرذم بين الدويلات الصغيرة ، ويسود هذا الخصام بين حكامها المتصدين للحكم والسلطان ، وكان ميكافيلي وهو يراقب المتغيرات توصل إلى أن الفضيلة والنوايا الطيبة ليست كافية للبقاء ولا تمثل قانونا من قوانين الحياة السياسية ، لذا أصبحت نزعته للحكم ومفاهيمه مجردة من العاطفة ، قاسية مؤلمة في نهجها وخطتها للاستحواذ على السلطة ، والقصد إن البناء الجيو سياسي والأيديولوجي المعاصر للميكافيلية يختلف عن النظرية السياسية الإسلامية ، لأن الثوابت والمتغيرات الزمكانية ماهي إلا جزء من الأيديولوجيا الإسلامية التنويرية المنبثقة من الواقع الاجتماعي ، ومجرد مجيء نظرية الميكيافلية بتطبيقاتها على المجتمع الإسلامي يرتسم لنا خط انحرافي في الفكر الإسلامي المبني على نقائض الميكافيلية ويحدث هلع فكري منقطع النظير وازدواجية تدريجية بين النظرية والتطبيق ، هذا الوضع يدفع باتجاه متغيرات أيديولوجية قابلة للتطبيق تتضارب وحقيقة الإسلام فيقود ذلك إلى الانحراف المجتمعي الظاهري والباطني لأنه سوف يخلق ازدواجية اجتماعية ناتجة عن تطبيق سياسي وتربية سياسية خارجة عن مفاهيم المجتمع وأيديولوجية الدين الإسلامي ، فالطلاق التام بين الأخلاق والسياسة ، من وجهة النظر الأخلاقية الميكيافلية ، يتعاكس مع التمازج التام بين الأخلاق والسياسة من وجهة النظر الإسلامية ، ثم الثابت الآخر للميكيافلية ونقصد قاعتها بان يكون الشخص وصولي ويتسلق على أكتاف غيره ليصل مهما كان الثمن ولكن بتخطيط ودراسة ، يتعاكس مع الثابت الإسلامي وقاعدة "لا ضرر ولا ضرار" فضلا عن الرؤية الجمعية المشتركة للمسلمين وانعكاس القاعدة الحكمية والرؤية الجمعية على المجتمع في توجهه نحو النظرية السياسية والاجتماعية ، بمعنى أدق إن القيم اللانسانية التي تستعملها الميكافيلية للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها تخلف ورائها سلوك اجتماعي منبثق من تربية سياسية هزيلة ، فتخترق التربية السياسية سلوك المجتمع وتحرفه عن مساره الصحيح ، لأن سلوك الأب السياسي والقائد السياسي محل تقليد للمجتمع المحكوم ، فيحدث تناقض قابل للترجيح من جهة الحاكم فيتعمم سلوكه على مجتمعه فيصبح السوء مباحا والمكيدة جزء من الخطط المستقبلية ، والإضرار بالآخرين مبررا ، ويصبح سلوك المجتمع سلوكا منحرفا مما يؤثر سلبا على حقيقة الإسلام التنويري المنطلق من أسس سليمة ، وإذا ما استعرضنا مقولات ميكيافيلي في كتابه لوجدناه يقول:"حبي لنفسي دون حبي لبلادي" ، و " من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك" ، و "الغاية تُبرر الوسيلة" ، و "أثبتت الأيام أن الأنبياء المسلحين احتلوا وانتصروا، بينما فشل الأنبياء غير المسلحين عن ذلك" ، و " إن الدين ضروري للحكومة لا لخدمة الفضيلة ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس" ، و" من واجب الأمير أحيانا أن يساند ديناً ما ولو كان يعتقد بفساده" ، و " ليس أفيد للمرء من ظهوره بمظهر الفضيلة" ، و" "لا يجدي أن يكون المرء شريفاً دائماُ" ، و "الطلاق قائم بين السياسة والأخلاق " ، و " الناس يثورون على الحاكم إذا كانت الأضرار تافهة ، ولا يثورون عليه إذا كانت الأضرار التي لحقت بهم جسيمة " ، و " ينبغي أن يسفك الحاكم الدماء ، شريطة أن لايظهر هو بمظهر المسفك للدم " هذه المرتكزات الميكافيلية وتطبيقاتها الكارثية على سلوك الفرد والجماعة أوصلت مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إلى حالة معقدة من الازدواجية المنافية للكمال الإنساني الذي يعتبر الهدف الأسمى للنظرية السياسية الإسلامية تلك النظرية النقية الصافية الخالية من شوائب الأوضاع العامة ولغة العصر ومفاهيمه .
المشكلة اليوم تكمن في إن هذا الاتجاه الفكري والسياسي المستهين بفضائل الأخلاق الإنسانية لتحقيق غايات الأفراد والجماعات، يسودُ سلوك الناس في الشرق والغرب، بل ويحكم سلوكياتهم ويحدد توجهاتهم الفكرية ويغزو الأجيال بهدوء في كل الأمم ، والشعوب الإسلامية تحديدا عانت الأمرين لأنها عاشت الازدواجية الفكرية بين النظرية والتطبيق ، إذ غدا شمول الانحراف في الأخلاق السياسية نذير دمار عام لكل الشعوب التي أخذت تنعدم فيها فضائل الأخلاق الفردية والجماعيةُ ، وهنا مكمن الإشكال وجذر المشكلة التي يعاني منها المسلمون بسبب عقلية حكامهم الميكافيلية وتصرفاتهم المنبثقة منها ، فوفق الميكيافلية مهما كانت الوسيلة منافية للدين والأخلاق والقواعد الاجتماعية المتجذرة والمعاصرة تكون مباحة اذا كانت تحقق الفائدة ، وقد استند صاحب هذه النظرية في رأيه هذا إلى الواقع المنحرف للأكثرية من الناس في عصره ، لا إلى مبادئ الحق والعدل والخير والفضيلة التي تعتبر أسس إسلامية راسخة ، فرأى أن أكثر الحكام لم يكونوا شرعيين، ولم يكونوا ملتزمين بـالمبادئ الأخلاقية الفاضلة، ورغم ذلك استطاعوا أن يصلوا إلى الحكم، وأن يضمنوا استقرار الحكم في أيديهم إلى حين ، بخلاف الحكام الشرعيين ، والذين كانوا يلتزمون المبادئ الأخلاقية الفاضلة المستندة إلى الحق والعدل والخير، فإنهم لم يحققوا لأنفسهم النجاح المطلوب ، ولا المحافظة على الحكم، كمحافظة الساسة الخائنين الغدارين المرائين المنافقين الكذابين ، حتى الباباوات رآهم في كثير من الحالات يضمنون الانتخاب لنفسهم بوسائل فاسدة، لا تتفق مع الفضائل الخلقية ، وإذا ما تتبعنا هذا النسق والترابط الفكري نجد إن النظرية ينقصها التكامل لأنها نتيجة ظرف استثنائي لا ثابتا فكريا ، لأنها حصيلة نهائية لبيئة ضاغطة حرفت مسار الأحداث وأنتجت مجتمعا يتقبل المكر والخديعة والغدر والتسلط ، ومن هذا المنطلق جاء نقدنا للميكافيلية في الإسلام السياسي لأنها أنتجت وستنتج سلوكا غريبا عن روح الإسلام التنويري المعتدل الذي يعتبر قانونا ودستورا للبشرية اجمع.
وفي مقولته التي نجد تطبيقاتها اليوم على الساحة السياسية الإسلامية المعاصرة القائلة:"من الضروري أن يكون الأمير قادرًا على إخفاء هذه الشخصية وأن يكون دعيًا كبيرًا، ومرائيًا عظيمًا، والناس يصلون في السذاجة وفي الاستعداد للخضوع للضرورات الحاضرة، إلى الحد الذي يجعل ذلك الذي يخدع يجد دائمًا أولئك الذين يتركون أنفسهم ينخدعون فالإسكندر السادس لم يفعل شيئًا إلا أن يخدع الناس، ولم يخطر بباله أن يفعل شيئًا آخر، ووجد الفرصة لذلك، ولم يكن من هو أقدر منه على إعطاء التأكيدات، وتوثيق الأشياء بأغلظ الإيمان، ولم يكن أحد يرعى ذلك أقل منه، ومع ذلك فقد نجح في خُدعاته، إذ كان يعرف هذه الأمور معرفة طيبة من هذا أنه لا يلزم الأمير أن يكون متحليًا بفضائل الأخلاق المتعارف عليها ، ولكن يجب عليه أن يتظاهر بأنه يتصف بها وينبغي له أن يبدو فوق كل شيء متدينًا".
تخيلوا هذه السلوكيات المدمرة التي تعتبر اليوم ركيزة من ركائز كثير من حركات الإسلام السياسي كم هي محطمة لسلوك المجتمع ، وكم هي مدمرة لأخلاقيات الناس وقيمهم وكم هي تمثل ازدواجية منقطعة النظير بين الواقع والتطبيق ، ازدواجية تؤثر في صميم المجتمع فتحيل ثوابته ركاما ، لذلك علينا كباحثين أن نحدد التوجهات الميكيافلية المطبقة في الإسلام السياسي ، ثم نشخص الأمراض السياسية والاجتماعية والفكرية الناتجة عن السلوك السياسي للحاكم ، ونحاول ترميم التدمير الأخلاقي الذي تحدثه تطبيقات هذه النظرية ، لأن الفلسفة التدميرية التي تنطلق منها الميكيافلية لا تتناسب وحقيقة الإسلام ، فلا نستغرب إذا وجدنا شعب يجوع ويتضور جوعا لقاء إشباع رغبة الحاكم وهو يستمتع بذلك لأن الغاية تبرر الوسيلة ، ثم لا نستغرب أن يقتل العلماء والفلاسفة والمفكرين أو أن لا يعتد لأمرهم ولا يؤخذ بفكرهم لبناء شعوبهم لأن الغاية تبرر الوسيلة او في رأي احد الباحثين : لا نستغرب من إلقاء مخطوطات علمية عظيمة نادرة ، في نهر كبير، لتكون بمثابة جسر مؤقت تعبرُ عليه جيوش الغزاة وليس من المهم بعد ذلك أن تخسر الإنسانية ذخائر المنجزات العلمية والفكرية الحضارية، التي خلفتها القرون الأولى، فالغاية تبرر الوسيلة ، وأن لا يروا مانعًا من تجويع الألوف من البشر، وسرقة خيراتهم، ليستمتع مجرم واحد بمظاهر الترف والرفاهية، فالغاية تبرر الوسيلة ، وأن لا يروا مانعًا من أن يقطع إنسان يد آخر، ليجعل من عظم ساعدها عصبًا لمكنسته ، وأن يسلخ جلد إنسان حي ليصنع منه طبلاً أو دفًا، يتسلى بالنقر عليه في جلسات السمر ، وأن يحرق مدينة كاملة ليتمتع بمشاهدة لهيب نار عظمى عن بعد، ثم يدين بها براء ويعاقبهم بهذه الجريمة النكراء، كما فعل «نيرون » إمبراطور روما وأن يقذف إلى حلبة المصارعة وحشًا ضاريا جائعًا، وإنسانًا بريئًا ليتمتع بمشاهدة ظفر الغالب منهما ومصرع المغلوب، وقد مارست روما في أوج سلطان إمبراطوريتها من ذلك الشيء الكثير كل هذا ونظائره ينبغي أن يكون مقبولاً لدى «المكيافيليين » كل هذه الحقائق الفكرية نجدها سلوكيات ميكيافلية لها تبريرها الأول أن الغاية تبرر الوسيلة.
والإسلام كفكر تنويري يتربع على قمة الشرائع في مراعاة الحق والعدل والخير والفضيلة والقيم الإنسانية لماذا ؟ لأنه خاتم الأديان السماوية فهل من المعقول تحول الدين الإلهي الأخير إلى دين ميكيافيلي ؟ ، لكن الميكيافلية أثرت سلبا على سلوكيات الناس والحكام في مجتمع إسلامي، ابرز ما فيه أمر بمعروف ونهي عن منكر ، ولا ضرر ولا ضرار ، والحاكم أب وراعي للناس اجمع لا يؤذيهم ولا يروعهم ولا يفسد أفكارهم ، ومن فعل ذلك فرسول الله حجيجه يوم القيامة ، هذه الإشكالات بين النظرية الميكيافلية وتطبيقاتها بالتحديد داخل المجتمعات الإسلامية ذات نتائج كارثية على السلوك الفردي والجمعي لأنها تلوث الثوابت الفكرية والسياسية الإسلامية التي تحددها القواعد الفقهية والسلوكية الذاتية الإسلامية التي أروع ما فيها مبادئ تلتزم بالحق والعدل والخير والفضيلة ، ولا تقترب من أضدادها وتلتزم بكل ما أمر الله به من خير، ونهى عنه من شرّ وتفسح صدرها لاتخاذ بعض الوسائل التي يوجب المنطق السليم اتخاذها، احتمالا لأخف الضررين، ووسيلة لدفع أشدهما، فعلينا إذن عندما ننقد الميكافيلية وتطبيقاتها في المجتمعات الإسلامية أن نحدد أولا كيف تكون غايات الإنسان في حياته مقيدة بما أذن الله به في شريعته لعباده؟ ، فما كل غاية تبدو للإنسان يجوز له السير خلفها ، ما لم تكن غاية مأذونًا بها شرعا وفق قاعدة لا ضرر ولا ضرار ، وحتى الضرر السلوكي الناتج عن ممارسة الحاكم مشمول بهذا القول ، والمعنى أن يكون سعي الإنسان الحثيث إلى غاياته المشروعة ، ضمن الوسائل التي يحددها العقل وحاجة المجتمع ، وضرورة الظروف الآنية المحيطة به دون إخلال بفضيلة أخلاقية أو واجب إنساني ، ودون تبرير وتدمير أو إسراف وتبذير في قيم أخلاقية عالية سامية لتحقيق أو رسم نهج سياسي أو فكري ممهد لظرف سياسي جديد مأزومة قيمه وقواعده السلوكية ، فتترك مؤشرات خطيرة للغاية على سلوك المجتمع ، وهذا ما نخشاه من تطبيق القواعد الميكيافلية على الإسلام السياسي والمجتمع الإسلامي لأنه يغير البنية الفكرية والأخلاقية للمجتمعات الإسلامية .
اضافةتعليق