يبدو ان واشنطن لم تتفهم الأمر. فالشعب العراقي مشغول بصراعاته المحلية، وهو ليس مع التدخل الايراني او الدول الاجنبية الاخرى، الا ان البعض من العراقيين رحبوا بالمساعدة الخارجية ضد منافسيهم المحليين
بقلم: روبرت فورد (ROBERT FORD)
الناشر: مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية نقلا عن موقع
Defense One / واشنطن
ترجمة: وحدة الترجمة في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
لقد انتهى الحلم الامريكي بوجود عر اق ديمقراطي فيدرالي، وبالتالي فأن تصوير إيران كمصدر تهديد لدول المنطقة لن يساعدها.
بعد عدة أيام من قيام المنطقة الكردية في العراق باستفتاء الاستقلال المثير للجدل، قامت بغداد بإرسال القوات لفرض السيطرة على المواقع الكردية داخل وحول مدينة كركوك وفي المناطق المتنازع عليها. ان هذه الحركة السريعة كشفت اصرار رئيس الوزراء حيدر العبادي على بقاء اكراد العراق جزءاً من البلاد، وبأي شكل من الاشكال اللازمة لتحقيق ذلك. وفي الوقت الحاضر، نرى اول النتائج حين قام الرئيس الكردي مسعود البارزاني، الذي تسنم الحكم طويلاً، بإعلان تنحيه عن رئاسة الاقليم في 29 تشرين الاول الماضي، مما اثار الاضطرابات في العاصمة الكردية، اربيل، وتبادل الاتهامات بين الاكراد أنفسهم وبين العرب والكرد.
أما بالنسبة لأمريكا، فقد كشفت العملية قصيرة الامد في شمال العراق حقيقة قاسية. اذ انتهى حلمها في ايجاد عراق ديمقراطي وفيدرالي. والمثير للسخرية ان هذا الحلم قد مات في الوقت الذي كان فيه الامريكان وحلفائهم يحققون الانتصارات في مواقع المعركة ضد تنظيم دولة الخلافة الاسلامية في سوريا والعراق. لقد سقطت مدينة الرقة، عاصمة التنظيم بإيادي التحالف السوري العربي والكردي الذي تسانده الولايات المتحدة الامريكية. وفي هذه الاثناء، قامت القوات العراقية – التي تساندها القوات الامريكية، بالسيطرة على مدينة الحويجة التي تعتبر من اقوى معاقله. وفي الوقت الذي تزايد فيه القتال في العراق والذي القى بظلاله على سوريا، لم يكن لواشنطن خطة للتعامل مع الصراعات العرقية والطائفية التي فسحت المجال في السابق لولادة دولة الخلافة الاسلامية في العراق والشام.
وبصفتي المسؤول السياسي الاقدم في السفارة الامريكية في بغداد خلال الفترة 2004-2006، شاهدت بدايات الخلافات التي اعيد احياؤها في الدولة العراقية. لقد كان وقتاً عصيباً: المتمردون في غرب ووسط وجنوب العراق كان يهاجمون القوات الامريكية وحلفائهم الذين كانوا يحاولون تحقيق جزء صغير من الاستقرار. وفي ربيع 2005، شرع البرلمان العراقي المنتخب في سن الدستور الجديد – وهي محاولة حاولنا المشاركة فيها كخط وسط – فقد أردنا حكومة دائمة جديدة قادرة على مسك زمام الامن بسرعة حتى نستطيع سحب القوات الامريكية من العراق.
ومنذ البداية، كان المفاوضون الاكراد في مسألة الدستور العراقي يشعرون بالقلق. فمنذ فرض منطقة حظر الطيران في عام 1992 خلال زمن حكم صدام حسين، كان للأكراد حكومتهم الخاصة بهم التي تقوم قوات البيشمركة بالدفاع عن اراضيها. وفي عام 2005، أكد البرزاني لنا ان المنطقة الكردية يجب ان تكون قادرة على اختيار استقلالها، الا انه رغم ذلك، سينضم الى الجمهورية العراقية الجديدة.
وفي العام 2005 والسنوات اللاحقة، أكد البارزاني انه إذا احترمت بغداد بدقة التزامات الدستور، فإن كردستان العراق ستبقى ضمن جمهورية العراق. ويشمل هذا تنفيذ المادة 140 من الدستور التي دعت الى تقرير مصير مدينة كركوك المتنازع عليها وبقية الاراضي الحدودية التي تفصل المنطقة الكردية عن بقية اجزاء العراق. وادعى الاكراد ان هذه الاراضي هي كردية حتى قام صدام حسين بطرد اعداد كبيرة من الاكراد منها واحلال العرب بدلاً منهم من خلال المزارعين الذين قدموا من جنوب العراق. وبما ان الولايات المتحدة كانت راغبة في اكمال الانتخابات الجديدة وتسهيل وضع الحكومة الدائمة، قمنا بالوعد بالاحترام الدقيق للدستور.
وبالطبع، لم نحقق ذلك وربما لن نستطع، فخلال اربع سنوات ونصف من الخدمة في السفارة، قمنا بحماية اجراءات الانتخابات في التوصل الى توافق بين السياسيين المتصارعين، وهدأنا من المواجهات بين قوات البيشمركة البرزانية والجيش العراقي وحققنا ادراج العرب السنة في الحكومة الوطنية. وعلى قمة ذلك، تمكنا من السيطرة على التمرد وحملات الارهاب بين ايدينا.
كنا نعرف ان فشلنا في مواجهة مسألة الاراضي المتنازع عليها والادعاءات المتصارعة بين العرب والاكراد في مسألة مثل كركوك كان امراً خطيراً. وعندما عدت للعمل في العراق خلال الفترة 2008-2010، تنبأ السفير رايان كروكر في اجتماع للموظفين الكبار في السفارة انه إذا تركنا مسألة كركوك بدون حل سيدمر العراق. ونظراً لتشتت افكارنا في كل ازمة جديدة، لم نبذل جهوداً في جمع بغداد واربيل للوصول الى حل المشكلة المستعصية الخاصة بالأراضي المتنازع عليها.
تبين الاحداث الحالية حول المناطق المتنازع عليها كيف يتعامل الساسة في العراق مع الصراعات السياسية الكبيرة. ففي عام 2014، استفادت المنطقة الكردية من الضعف العسكري لبغداد في مواجهة داعش وارسال قوات البيشمركة في السيطرة على كركوك وابار النفط المحاذية لها. لم تكن هناك نقاشات سياسية او حوار بين الاكراد وحكومة بغداد المركزية الضعيفة، وانما استخدم الاكراد قوة السلاح فقط. ولنكن عادلين في التقييم، لو لم يفعل الاكراد هذا الامر، لسيطر داعش على تلك الاراضي ونفطها. لقد كان الامر تجاوزاً حقيقياً بالنسبة للأكراد، وأدى امر السيطرة على الحقول النفطية وعلى مدينة كركوك ذات الاعراق المتعددة الى تسميم العلاقات الكردية مع العديد من الاطراف السياسية في بغداد. ولم يتفوه الامريكان بأي شيء، وانما أصروا انه على العراقيين تجنب الصراعات القديمة من اجل مواجهة داعش والقضاء عليها.
الا ان حكومة بغداد لم تنس ما سيطر عليه الاكراد. ففي شهر كانون الاول 2016، اقسمت احدى المليشيات البارزة المؤيدة لإيران ان تقلب موازين القوى بالنسبة للأكراد وتعلن ان الاكراد سيكونون – بعد الانتهاء من قتال داعش – أكبر مشكلة في العراق. ولكن، بعد اعلان استفتاء الاستقلال الكردي في 25 ايلول 2017، طالب البرلمان العراقي الغاضب من رئيس الوزراء ارسال القوات لاستعادة كركوك، الا ان رئيس البرلمان العراقي سليم الجبوري ساند الموقف الكردي في تجنب السلاح واللجوء الى الحوار.
الا ان رئيس الوزراء العبادي وحكومة بغداد – التي اصبحت أكثر قوة بسبب الاسناد الايراني والامريكي – رفضت المقترحات والنداءات من اجل الحوار وهدد باستخدام القوة العسكرية. وفي 19 تشرين الاول 2017، تراجع الاكراد بألم عن مدينة كركوك والحقول النفطية بدون قتال. ومن جديد رفضت بغداد المطالب الكردية من اجل الحوار بين الجانبين، وأصر العبادي على الغاء الاستفتاء وتسليم المطارات والمناطق الحدودية للسلطة المركزية. وتحركت القوات العراقية وألوية الحشد الشعبي الشيعية التي تساندها إيران الى مناطق اخرى في المناطق المتنازع عليها والى النقاط التي تلتقي بها تركيا وسوريا مع العراق. واخيراً، اتفقت القوات العراقية وقوات البيشمركة الكردية على وقف إطلاق النار المؤقت في 28 تشرين الاول 2017، الا انه لا يوجد قرار للحل بالنسبة للمناطق المتنازع عليها ومستقبل اكراد العراق.
في الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء العبادي واخرين في بغداد يدينون التصويت الكردي باعتباره غير شرعي، لا يوجد اي شيء في الدستور العراقي يمنع مثل هذا الاستفتاء غير الملزم. إضافة الى ذلك، فأن النتائج اكدت ما يعرفه كل عراقي مسبقاً في ان اكراد العراق لا يريدون البقاء ضمن دولة العراق، على الاقل ليس في هذه المرحلة.
ويثير هذا السؤال مسألة الديمقراطية في العراق في وقت يرغب فيه جزء كبير من العراق ان يكون خارج النظام. كما انه من الممكن ان تؤدي عوائد النفط الى ارتباط المجتمعين العربي والكردي، رغم انهما متباعدين سياسياً واجتماعياً. وإذا اراد العراق الحصول على الاستقرار يجب عليه الوصول الى حل سياسي لدمج كردستان العراق في العراق الواسع، وهو امر لا يمكن تجنبه.
آملت الولايات المتحدة الامريكية دائماً ان يقوم العرب والاكراد بمشاركة الحكم في الحكومة المركزية، وقد عملت على ذلك. وفي الوقت الذي أصبح فيه رئيس العراق الشكلي كردياً، فإن السلطة الحقيقية موجودة بأيدي الاسلاميين الشيعة الذين يقودهم رئيس الوزراء. والاكثر اهمية في دولة ضعيفة مثل العراق، فإنه من الاهمية السيطرة على الوضع الامني هناك (وليس مجلس الوزراء المتفكك الذي به وزير الثقافة كردياً مجرد رمز). ورغم ان الدستور العراقي نص على المشاركة في الحكم، الا ان الشيعة يسيطرون على المراكز القيادية العليا في الدولة. ويذكر ان جنرال في قوات البيشمركة الكردية أصبح رئيساً للأركان في الجيش العراقي، الا انه ترك منصبه في عام 2015 قائلاً ان الاكراد يمثلون 1% من الجيش العراق، كما اشتكى من تدخل بغداد في عمله بحيث أصبح لا يستطيع استخدام صلاحياته القيادية.
وتضاءلت فرص المشاركة الحقيقية في شهر ايلول 2016 عندما سيطر الاسلاميون الشيعة على البرلمان العراقي وابعاد وزير المالية الذي كان اعلى قيادي كردي في مجلس الوزراء. والان بعد مرور سنة كاملة، من المستحيل تصور ان الشراكة في السلطة في عراق موحد تمكن العرب السنة والاكراد من السيطرة على المواقع الرئيسة في الدولة. كما أصبح الحشد الشعبي أكثر قوة في بغداد بحيث لم يعد يتلقى اوامره من الدولة.
وعلى هذا الاساس، ليس من المفاجئ ان الشباب الكرد لا ينظرون الى بغداد كمنارة لولائهم، كما ان الكثير منهم لا يعرف اللغة العربية، وانما يركزون على اللغتين الكردية والانكليزية. وكشف الاستفتاء، الذي حاز على 93% من الاصوات، ان الاكراد العراقيين لا يريدون البقاء كجزء من العراق الى الابد.
في هذه الاثناء، كرهت الولايات المتحدة الامريكية ان تترك نسختها من عراق ديمقراطي موحد ينهض شعبه ضد داعش الضعيفة، رغم ان كل من بغداد واربيل كانا يتطلعان لمرحلة مستقبلية لما بعد داعش. ويبدو ان خطة واشنطن هي التبادل مع خصم جديد.
وخلال زيارة للعراق في 24 تشرين الاول 2017، أكد وزير الخارجية الامريكي ريكس تيلرسون على ضرورة عودة الميليشيا التي تساندها إيران الى اوطانها، في محاولة لاستمالة الوطنيين العراقيين ولكن ادى هذا الى غضب رئيس الوزراء العراقي العبادي الذي أعلن ان مقاتلي الميليشيا هم من الوطنيين العراقيين وانه على الولايات المتحدة الامريكية عدم التدخل. وبعد يومين، حث تيلرسون العراقيين على مقاومة الضغوط الايرانية لأن العراقيين هم عرب – وهي ملاحظة اثارت انزعاج الاكراد العراقيين والاقليات الاخرى. ويذكر ان الاكراد قد رفضوا، خلال مفاوضات الدستور لعام 2005، التوقيع على النص الذي قال ان العراق دولة عربية، وبالتالي لم يحتو الدستور العراقي على مثل هذا الاعلان.
وبعد مرور كل هذا الوقت، يبدو ان واشنطن لم تتفهم الأمر. فالشعب العراقي مشغول بصراعاته المحلية، وهو ليس مع التدخل الايراني او الدول الاجنبية الاخرى، الا ان البعض من العراقيين رحبوا بالمساعدة الخارجية ضد منافسيهم المحليين. كما ان العديد من المؤسسات الامريكية المعنية بالسياسة الخارجية تحث الولايات المتحدة على التوسط في الخلاف بين بغداد واربيل. ومن اجل تحقيق ذلك، فإنها تحتاج الى تجنب حالات الالهاء والتصرف بحساسية ووعي في مسالة التطور العراقي.
اضافةتعليق