على الرغم من الانتصار الكبيرة الذي حققته الحكومة العراقية على تنظيم داعش، إلا أن من غير الممكن كسب الحرب ضد التنظيم الإرهابي دون ملئ الفراغ السياسي والأمني الموجود في العراق
إن تنامي تنظيم داعش السريع وتطور قدراته العسكرية والتكتيكية، لاسيما مع النجاح الذي حققه في سوريا والعراق بعد اجتياح محافظة الموصل في حزيران/ يونيو 2014، يعود إلى الاستراتيجيات التي اعتمدها التنظيم منذ بداية تأسيسه وحتى إعلان دولته. وقد تجاوز التنظيم في بناءه الحالي الاستراتيجيات البدائية التي اعتمدتها التنظيمات الإرهابية السابقة، تلك المتمثلة باستراتيجية التحرك العسكري بمراحلها الثلاثة (مرحلة البناء ومرحلة القتال ومرحلة التمكين)، واعتمد على استراتيجيات مختلفة في تطوير قدراته العسكرية. إذ تمكن التنظيم من الدمج بين الرؤى العسكرية والاستراتيجية التي يشتمل عليها قادة البعث، وبين خبرة الجهاديين المخضرمين، وهو ما اعطاه أفضليةً على خصومه من التنظيمات الإرهابية الأخرى.
إن نقطة الارتكاز الاساسية لهذه الاستراتيجيات التي اتبعها تنظيم داعش في العراق لا تعود لأسطورة التنظيم وذكاءه وتطور قدراته الاستراتيجية بشكل خارق، وإنما تعود لسببين رئيسيين:
1. البيئة الخصبة أو الحاضنة السنية التي ترعرع فيها التنظيم، والتي أعطته قدرة كبيرة على التحرك والمناورة وبناء قواه بعيداً عن أنظار وسيطرة قوات الأمن العراقية، لاسيما مع اتساع دائرة التقاطعات بين الحكومة المركزية وسكان المحافظات السنية، مستفيدا من تصاعد حركة الاحتجاجات السورية والعربية بشكل عام بعد احداث الربيع العربي.
2. ضعف منظومة الدولة العراقية بجميع مفاصلها، لاسيما مع استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي التي اضعفت القدرة القتالية لقوات الأمن العراقية. وهذا ما ترجمه التنظيم على الأرض بعد أن بسط سيطرته على محافظة الموصل وبعض المدن العراقية.
وعلى الرغم من فاعلية هذين السببين في تطوير قدرات تنظيم داعش، إلا أن تحرير الموصل وأنهاء تواجده من الأراضي العراقية، لاسيما مع تزايد معاناة المكون السني بسبب سيطرة التنظيم على مناطق سكناه، قد أضعف القاعدة الاساسية التي ارتكز عليها تنظيم داعش منذ بداية تأسيسه في العراق.
وعلى الرغم أيضاً من أن تنظيم "داعش" استطاع أن يبلغ ذروته "مرحلة التطور" بعد العام 2014، إلا أنه عاد إلى "مرحلة الانحطاط" والانهيار بعد تحرير مدينة الموصل في تموز يوليو 2017 وانهياره في سوريا. وهذا السيناريو يتشابه كثيراً مع سيناريو صعود وهبوط تنظيم القاعدة في العراق بين الأعوام 2005-2008، خلال الحرب الطائفية، ثم رجع ليتلاشى بعد تجربة الصحوات. ولهذا ربما يكون سيناريو تنظيم "داعش" شبيه بسيناريو التنظيمات الإرهابية السابقة، وسيكون أمامه عدة سيناريوهات يمكن أن يلجأ إليها بعد طرده من العراق وسوريا. من هنا تظهر لنا أهمية المقال وفرضيته الأساسية، وذلك من خلال بعض التساؤلات التي تثار بشأن استراتيجية تنظيم "داعش" والتكتيكات التي من الممكن أن يلجأ إليها بعد تحرير مدينتي الموصل العراقية وملاحقته في الأراضي السورية؟
من خلال تجارب التنظيمات الإرهابية السابقة، ربما نكون إمام أكثر من سيناريو، يمكن أن يعتمده تنظيم داعش في بناء استراتيجيته المقبلة، سواء كانت هذه السيناريوهات منفصلة عن بعضها البعض أو متكاملة بشكل آني من خلال الجمع بين هذه السيناريوهات في آنً واحد. وأكثر هذه السيناريوهات ترجيحاً هي:
1. سيناريو ارتداد داعش: إن تحرير الموصل من قبضة تنظيم داعش وانهياره في سوريا، قد يجبر مقاتلي التنظيم على العودة إلى بلدانهم، وهذا سيؤدي إلى تنامي حالات التطرف، وتزايد عمليات القتل والدهس أو ما تسمى باستراتيجية "الذئاب المنفردة"، لاسيما وأن أغلب المقاتلون العائدون من العراق وسوريا إلى أوطانهم يحملون رغبة كبيرة في الانتقام وسيسببون ارباك كبير لبعض الانظمة السياسية. وهذا السيناريو ربما يتشابه مع سيناريو انسحاب مقاتلي تنظيم القاعدة من افغانستان بعد الانسحاب السوفيتي، والعودة إلى أوطانهم، ليتنامى بعد ذلك عملهم الداخلي بشكل سري والقيام ببعض العمليات الإرهابية.
2. سيناريو التركيز على مناطق الصراع: إن هزيمة تنظيم داعش في العراق وسوريا قد يجعل وجهة مقاتلي التنظيم إلى بلدانهم بشكل مؤقت قبل أن يختاروا مناطق أخرى للصراع، وقد يفضل أفراد داعش الهروب إلى مناطق صحراوية شاسعة أو جبلية وعرة، في دول تشهد نزاعات داخلية واضطرابات أمنية، وأكثر هذه المناطق خصوبة هي اليمن لصعوبة تضاريسها وليبيا بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني وتصاعد وتيرة النزاعات المسلحة وكذلك جزيرة سيناء المصرية، فضلا عن افغانستان لطبيعتها الجغرافية والصومال وجنوب الفلبين وجبال القلمون؛ لكونها سلسلة من الجبال الوعرة ذات التضاريس الجبلية وقربها من المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والأردن، مما يسهل على عناصر التنظيم القيام بعمليات إرهابية نوعية من خلال التواصل مع خلاياهم النائمة في هذه الدول؛ لكونها دول غير مستقرة وتعاني من حالة عدم الاستقرار السياسي بشكل دائم.
3. سيناريو الانحياز أو التراجع المؤقت: هذا السيناريو يعتمده تنظيم داعش بشكل دائم، وقد اعتمده في العراق بين الأعوام 2007-2013، بعد فشل مشروع تنظيم القاعدة. وهي استراتيجية بدائية يعتمدها التنظيم لإعادة بناءه الداخلي وهيكلته المؤسساتية بعد خسارته للأراضي التي يسيطر عليها، لاسيما وأن عقيدة التنظيم العسكرية تعتقد بأن خسارة الأراضي لا تعني الهزيمة بل هي تكتيك من أجل بناء التنظيم داخلياً. ووفقاً لهذا السيناريو فأن عناصر التنظيم سيلجؤون إلى الصحراء بشكل مؤقت من أجل استجماع قواهم وهيكلة قواعدهم وعناصرهم مرة أخرى، وستتخلل هذه الاستراتيجية تكتيكات هجومية إرهابية على بعض الاهداف سواء كانت اهداف عسكرية تتعلق بضرب القوات الأمنية أو اهداف بشرية مدنية تتعلق بضرب المدنيين والتجمعات البشرية والمراكز الحيوية، والتي من شأنها أن تربك الوضع الأمني بشكل عام وتزعزع ثقة المواطن بالحكومة والأجهزة الأمنية. ويعد هذا السيناريو من أكثر السيناريوهات الذي اعتمدتها التنظيمات الإرهابية في السنوات السابقة، ومن المرجح أن يعتمده التنظيم بعد خسارته في العراق وسوريا، وتمثل الصحراء والأراضي الواقعة بين العراق وسوريا ملاذاً أمنا لمقاتليه، لاسيما مع استمرار حالة عدم الاستقرار السياسي في البلدين والمنطقة بشكل عام.
ربما تكون هذه السيناريوهات الثلاثة أبرز الاستراتيجيات والتكتيكات التي يلجأ إليها التنظيم بعد أنهاءه في العراق وانهياره في سوريا؛ لأن تحرير الموصل والرقة لا يعني بالضرورة نهاية التنظيم، فالخشية ان يكون السياق السياسي والامني الذي أحيا التطرف وأنعشه وسيّده على مناطق شاسعة، لا يزال قائماً في العراق وسوريا والمنطقة بشكل عام. ولهذا فأن الانحسار الجغرافي للتنظيم ربما يقابله تمدد أيديولوجي في مناطق ودول تشهد صراعات سواء كانت في الشرق الأوسط أو جنوب شرق اسيا في (الفلبين وبنغلادش وإندونيسيا) أو في غرب أفريقيا (سرت وبوكو حرام وغيرها من المناطق) أو في أوروبا من خلال استراتيجية (الذئاب المنفردة) والخلايا النائمة.
وعلى الرغم من الانتصار الكبيرة الذي حققته الحكومة العراقية على تنظيم داعش، إلا أن من غير الممكن كسب الحرب ضد التنظيم الإرهابي دون ملئ الفراغ السياسي والأمني الموجود في العراق وأنهاء حالة الصراع السياسي والاتفاق على مشروع وطني يضم الجميع بعيداً عن التدخلات الإقليمية والدولية. وبموازاة ذلك لابد من تكثيف الجهود الإقليمية والدولية لحل الأزمة السورية وإيجاد تسوية سياسية للازمة اليمنية والعمل على حل النزاع المسلح في ليبيا؛ لأن استمرار هذه الأزمات يعني خلق بيئة مناسبة وحواضن خصبة للتطرف والإرهاب.
اضافةتعليق