بعد أشهر قليلة سيتنفس العراقيون من جديد أنسام الحرية والديمقراطية عبر نافذة الانتخابات النيابية، ومعها ستهب رياح التغيير الدافئة لترفع قوى سياسية وتضع أخرى، وعندما يتحرك دولاب العملية السياسية في العراق لأن هذا هو ديدن الديمقراطية وسمتها البارزة.
غير إن الطريق الذي ستسلكه القوى السياسية إلى صناديق الاقتراع لن يكون سهلاً ومفروشاً بالزهور، بل وعراً وحافلاً بمطبات الحاجة إلى إثبات الوجود على الخارطة السياسية وفي القاعدة الشعبية من خلال توفير عناصر القدرة على الانجاز في ظل مناخ سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي ملبد بالأزمات والمحن، خاصة بعد تراجع حيز التأييد الشعبي الذي تولد عن تلاشي المصداقية بقدرة تلك القوى على الإيفاء بالتزاماتها ووعودها التي أغرقت بها ناخبيها في الانتخابات السابقة، وفي ذلك دليل على زيف تلك البرامج أو عجز تلك القوى عن ترجمتها إلى واقع تحت وطأة الجمود الذي يمسك بتلابيب العملية السياسية وانغماس أطرافها في مستنقع المصالح الذاتية. وما تقدم ينذر بحدوث الفصم بين افتراضات الشرعية الدستورية وبين حقيقة شرعية الانجاز، الأمر الذي سيفضي إلى تصدع بنية النوع الأول من الشرعية عند التصاقه بسقف السلطة وانفصاله عن الركائز الشعبية.
وما تبقى من مطبات ستشهدها المرحلة الانتخابية القامة، فسيتأتي من طبيعة وسياق المنافسة الانتخابية بطورها الجديد الذي يخضع –بأي حال من الأحوال- للقانون الانتخابي الحالي ذي القوائم المغلقة والدائرة الواحدة لاسيما بعد اعتماد نظام القائمة المفتوحة والدوائر الانتخابية المتعددة، والذي ينقاد –أيضا- بالمعايير والطقوس الطائفية السابقة، وإن خاضتها القوى السياسية ذاتها وزينتها الوعود والبرامج الانتخابية ذاتها.
وفي هذا السياق ينبغي على القوى السياسية التي ستشارك في الانتخابات القادمة أن تعيد مراجعة قائمة حساباتها بصورة شاملة وفقاً لرؤى ومواصفات تنسجم مع طبيعة التغيير المتجذر في المناخ الديمقراطي والمزاج الشعبي العام المحيط بهذه الانتخابات.
وأول ما يرد في تلك القائمة هو ضرورة تفريغ الخطاب السياسي من الشحنة الطائفية والفئوية أو حتى تخفيفها، مع العمل بالمقابل على تكريس المشتركات الوطنية تحت مظلة العمل المخلص والجاد لمصلحة العراق الواحد، والغاية من ذلك ليس استقطاب قواعد شعبية جديدة وإنما المحافظة على القواعد التقليدية وامتصاص النقمة الشعبية المستولدة –بصيغة رد الفعل السلبي- عن إرهاصات المرحلة السابقة التي شهدت اقتران الطرح الطائفي والقومي للكتل المتنافسة بالجمود والعجز الذين أصابا الجهاز الحكومي من جرّاء تكريس تلك النزاعات وتغليبها على مفردات ومتطلبات العمل الجماعي.
ويتفرع من المراجعة السابقة، بند ثان يستوجب ابتعاد الكتل المتنافسة عن استحضار الجوانب الخلافية في برامجها الانتخابية لأنها كانت المسؤولة عن إصابة العملية السياسية السابقة بالعقم، وكانت خاصرة رخوة تنفذ منها سهام النقد والاستياء الشعبي، وتتسلل عبرها المصالح الخارجية إلى قلب العملية السياسية الذي أصيب من جراء ذلك كله بانسداد في أوعية الثقة والتعاون بين شركاء العمل والوطن الواحد.
وينسحب ما تقدم على البند الثالث من المراجعة والذي ينبني على افتراض تجاوز الكتل المتنافسة لصيغ التعميم في وعودها الانتخابية الخاصة بمعالجة الأزمات المستعصية وعلى رأسها (الخدمات، والرفاه) واستبدالها بصيغ جديدة تأخذ شكل البرامج التفصيلية والخطوات العملية التي تحمل بين طياتها حيز واسع من القدرة على إقناع الناخبين، لأن العودة إلى القوالب القديمة من التعميم في الخطاب الانتخابي لن تجد طريقها إلى التطبيق الواقعي وبالتالي فإن القديم بكل علله سيحكم الجديد وبذلك سيتسع نطاق العزوف الشعبي عن اللحاق بمسار الانتخابات أو ستشهد ورقة الاقتراع –على أقل تقدير- تبدلاً جذرياً في أفق الخيارات والتفضيلات الشعبية عن طريق ترجيح كفة قوى سياسية أخرى غير تلك القابعة الآن تحت قبة البرلمان.
إن المراجعة السابقة لكشف حساب الكتل السياسية ستبقى على أي حال مجرد حبر على بطاقة الانتظار لقطار الانتخابات النيابية القادمة، وهو الأمر الذي لن يكفيها ضرورة المبادرة باتخاذ سلسلة من الإجراءات العملية اللازمة لحسم الملفات الساخنة والعالقة وتدارك التدهور في مستوى الانجاز والمكانة الشعبية، مع السعي لمد جسور الثقة والتعاون مع القوى الأخرى بضمنها القوى المنافسة وذلك لتحقيق ثلاث غايات أولها: إظهار رسالة الألفة والتجانس بين شركاء العمل السياسي الواحد، وثانيها: أماطة اللثام من نوايا الخصوم والتعرف عن كثب على توجهاتهم واستعداداتهم للمنافسة المقبلة، وثالثها: التمهيد لعهد جديد من التعاون في إزاحة العقبات عن طريق العملية السياسية المستقبلية.
بيد إن الاستدراك العملي لخطى الانجاز من قبل الكتل السياسية لن يغنيها عن ضرورة التهئ والاستعداد لاحتمالات المستقبل من خلال استشفاف إفاع وتسليط الضوء على الخارطة المحتملة لتوزيع القوى السياسية سواء على ضوء التفضيلات في القاعدة الشعبية أو على ضوء التغير في مراكز القوى والتحالفات في هرم السلطة.
وعند محاولة تحديد نطاق تأثير متغير التأييد الشعبي وتداعياته المستقبلية على تموضع الكتل السياسية من خلال استقراء معطيات الواقع وإفرازاته، سترتسم في الأفق صورة لا غبار عليها من انحسار التأييد الشعبي للقوى الدينية ذات النزعة الطائفية في مقابل تصاعد نجم القوى العلمانية ممثلاً بكتلة الوفاق بفعل إفادتها من اللعبة الصفرية بين القوى الدينية في استحصال مكاسب شعبية جديدة ارتدت على الأداء السلبي لتلك القوى، وينعطف على علة الامتداد الشعبي للقوى العلمانية، مسببات أخرى تتوارى خلف ستار الميل الشعبي التقليدي لأرث تأريخي يمجد القوة والحزم والكرامة تحت أعطاف الوحدة الوطنية وهذا ما لم تمنحه القوى الدينية لجماهيرها حتى الآن.
وعلى ضوء متغير الرصيد الشعبي وقريباً منه متغير التطلع إلى سدة الحكم ستتشكل خارطة التحالفات الجديدة استعدادا لخوض غمار المواجهة الانتخابية القادمة. وفي هذا السياق يشخص للعيان التفكك الذي أصاب كيان الائتلاف العراقي الموحد بين القوى التي ارتقت سلم السلطة والقوى التي أفلست منها. وليس ثمة ضمانة –مستقبلاً- من تسرب حمى الخلاف إلى داخل معسكر القابضين على السلطة من أنصار المعسكر الائتلافي الأول نتيجة لتأثير متغيرين، أولهما: التفاوت الشديد في رصيد التأييد الشعبي لأحزاب فريق السلطة، ومحاولة الطرف الرابح في هذا الرهان الشعبي التملص من أعباء الطرف المفلس شعبياً كقربان لخوض مارثون الانتخابات بخطى أكثر رسوخاً في قاعدة التأييد الشعبي وابتعاداً عن الوقوع في مطب الاتهامات الشعبية الذي وقعت فيه أحزاب أخرى. أما ثانيهما: فيتأتى من الاختلافات الناشئة عن محاولة بعض أحزاب السلطة إقحام مسألة عائدية مدينة كركوك في معترك المصالح التساومية السائدة في فلك الفدرالية وهو الأمر الذي لا يغري أحزاب أخرى مشاركة في السلطة، وأما فريق الأحزاب الخارجية من أعطاف السلطة والائتلاف فقد أدار بوصلة تحالفه –لدواعي تكتيكية- باتجاه كتلة المرشح العلماني الساخن للمنافسة الائتلاف في الانتخابات القادمة. غير إن مثل هذا النوع من التحالفات لن يتحمل طويلاً شدة التقاطعات في المواقف والاتجاهات الإستراتيجية، لذلك ليس مستبعداً أن تشهد المرحلة المقبلة بروز ائتلاف منسق جديد يظم الأحزاب الخارجة من الائتلاف. وعلى الجانب الآخر من الخارطة السياسية ذات البريق الديني يتراءى مشهد جبهة التوافق وقد طالتها –هي الأخرى- حمى الانقسام حول مغانم السلطة، واقتطعت صحوات العراق شطراً مهما من رصيدها الشعبي بعد ما خسرت آنفاً قسطاً مهماً من ذلك الرصيد تحت وطأة عجزها عن الإيفاء بأهم وعودها لجماهير ناخبيها، وتارةً أخرى يتوجه المتذمرون من أحزاب هذه الجبهة إلى التيار العلماني بحثاً عن مغانم لم تستحصل من تحالفهم السابق واستدراكاً للاستنزاف الشعبي الذي منيت به كافة الأحزاب الدينية (الطائفية).
ومما تقدم ترجح كفة الأحزاب العلمانية وعلى رأسها كتلة الوفاق بعد أن تحتضن الوافدين من باقي الكتل، وتستحصل هامش فاعليتها من إخفاقات وتناقضات غيرها من الكتل لاسيما وإن خيمتها السياسية قد أظلت قوى وشخصيات سياسية من مختلف الطوائف والاتجاهات، كما إنها أجادت عبر خطابها السياسي العزف على الوتر الذي طالما أشجى مسامع الناخب العراقي لفترة طويلة. وعلى الرغم من ذلك لا يمكن الجزم بإمكانية صمود شبكة التحالفات السياسية التي ترعاها قائمة الوفاق لأسباب مهمة منها: هيمنة زعيم الكتلة على توجهاتها ومواقفها، وغياب الأرضية الرصينة والمشتركة التي تجتمع عليها أطراف التحالف، فضلاً على الإشكاليات المزمنة والمتولدة عن تقسيم المغانم بين هذا الطيف الواسع من القوى السياسية.
أما الخلاصة التي يمكن استنتاجها كإطار لصورة المستقبل ، فتقوم على افتراض استمرار تقدم كتلة الائتلاف على سائر الكتل بفارق طفيف لن يمكنها من تشكيل الحكومة إلا باسترضاء كتل أخرى في مقدمتها كتلة التحالف الكردستاني الذي سيمعن هذه المرة في فرض شروطه واستنزاف حليفه طالما استقرت دالة التأييد الشعبي له بين ناخبيه على أسس قومية.
وبالمقابل ستواجه كتلة التوافق، بسبب تدني حصتها من التأييد الشعبي، مشقة الاختيار بين الانضواء تحت لواء الوفاق العلماني بحصة شحيحة من المقاعد النيابية، وبين الانخراط، من جديد، مع أنصار الائتلاف الذي سيتساهل هذه المرة لجذب أنصار وتقديم الإغراءات لهم.
وعلى العموم، إذا ما أجاد الوفاق إمساك خيوط المعادلة القادمة وإدارة مفاصلها الحيوية من خلال استقطاب قوى مهمة مثل التحالف الكردستاني والأحزاب المنشقة عن التيار الديني إضافة إلى القوى الليبرالية المتفرقة، فإنه عند ذاك قد يتمكن من تشكيل الأغلبية البرلمانية والحكومية القادمة....