بدأت الأزمة السورية عام 2011، حالها حال ثورات الربيع العربي بمطالب معروفة للجميع وهي الحرية والديمقراطية، وإنهاء حكم النظام الحالي ، إلا إن الوضع الدولي والإقليمي كان متربصا بسوريا من كل جهة، فقد أراد كل الأطراف إن تحقق أهدافها وغاياتها في سوريا، وبدأت هذه الأطراف الدولية والإقليمية تقدم الدعم سواء للنظام أو للمعارضة السلمية منها والمسلحة، بل وصل الأمر ببعض الدول إن تقوم بمد المجموعات المسلحة الإرهابية ( داعش، والقاعدة، والنصرة) وغيرها من المسميات، بالسلاح والأموال علنا، فمع انطلاق الأزمة في سوريا عام 2011، بدأت دول الخليج تقدم الدعم العسكري والأموال وإرسال الجهاديين إلى سوريا عبر تركيا والأردن، وبدأت دول الخليج بطرح مشاريع قرارات في مجلس الأمن ضد النظام في سوريا بغية استصدار قرار للقيام بعمل عسكري ضد سوريا على قرار ليبيا، إلا إن الموقف الروسي والصيني في مجلس الأمن والمعارض لأي قرار بشن حرب على سوريا وقف ضد هذه المشاريع الخليجية، كذلك الدعم العسكري والمالي الإيراني المتواصل لسوريا، ودخول حزب الله الحرب إلى جانب الجيش السوري الذي كان السبب الرئيسي لإفشال المشاريع الأمريكية الخليجية والتي حاولت إسقاط النظام السوري، وبعد مدة أكثر من ست سنوات هذه الأزمة التي لازالت والمهجرين داخل سوريا وخارجها)، إضافة إلى اقتصاد منهك ومدمر، وبنا تحتية شبه معدومة، وموارد كالنفط وغيره أصبحت نهبا للمجموعات المسلحة والمافيا الدولية، وجيش مستنزف، بعد إن كان من الجيوش التي أعدت لمواجهة الكيان الصهيوني، ومجتمع مقسم طائفيا وقوميا.
إن حال سوريا يختلف عن ثورات الربيع العربي الأخرى، وبصفة خاصة من حيث مصادر التهديد الأخطر لأمنها القومي، ففي سوريا وجود عسكري سياسي ملحوظ ومؤثر لقوة دولية عظمي، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو كبري مثل روسيا الاتحادية، بغض النظر عن اختلافات مهمة من حيث الشكل والمضمون، بل وربما الأهداف بين حال سوريا توجد بها قوى عسكرية مهمة وكبيرة ومستخدمة، بالتأكيد بسبب أن أكبر وجود لتنظيم الدولة الإسلامية، أو "داعش" موجود فيها، والأهم أنه مؤثر بفعالية علي الحالة في سوريا منذ عام 2011، وإن كان الوجود والتأثير الكبير والملحوظ تم منذ سبتمبر 2015، وأنه مهم ومؤثر بسبب نوعية وتقدم منظومات التسلح الجوي والدفاعي المستخدم بكثافة يومية من جانب روسيا الاتحادية، التي تعد سوريا أهم حلفائها الإقليميين في المنطقة العربية، ولذلك يصبح لها مصلحة إستراتيجية في استمرارية علاقتها الإستراتيجية - السياسية منها والعسكرية، والأهم في استخدام تلك المنظومات علي الأرض ضد "داعش"، التنظيم الإرهابي الذي وجد قبل ذلك، الدور الروسي الجديد، وبشكل أصبح يمثل مصدرا للإرهاب، ليس فقط للدولة السورية، وإنما لكثير من الدول والقوى الإقليمية العربية، والشرق أوسطية، والقوى الدولية، علي اتساع نطاق جغرافيته العالمية.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق الأحداث في سوريا، كان هدف كل طرف يختلف عن هدف الطرف الأخر، فقد كانت أمريكا تريد إسقاط نظام بشار الأسد وتشكيل نظام جديد مشابه لنظام الحكم في العراق من حيث الضعف، وتقسيم المناصب بين طوائف الدولة السورية، وكان هذا الاتجاه مدعوما من قبل جهات إقليمية أهمها دول الخليج العربية ( السعودية، وقطر، والإمارات)، كذلك تركيا، في مواجهته كان هناك مشروعا أخر تقوده روسيا وهو الحفاظ على النظام السوري، وعدم سقوطه، مع احتفاظ روسيا بمصالحها في سوريا، وهذا الاتجاه مدعوما من قوى إقليمية لها وجود عسكري فعلي على الأرض السورية، وهم إيران وحزب الله اللبناني، استمر الصراع في سوريا وبدا كل طرف بدعم أنصاره في سوريا بطريقة الحرب بالوكالة، وكان هناك عمليات كر وفر، وسقطت عدة مدن بيد الجماعات التكفيرية، التي ظهرت على الساحة السورية وبكل قوة، وهم ( النصرة، وداعش) وغيرها، وقد سقط قناع الجيش الحر الذي كان واجه لأمريكا في سوريا، ولم يعد له وجود وسط حشود الإرهابيين من مختلف الدول، حتى إن أمريكا بدأت بإعطاء شهادات حسن سلوك لبعض المجموعات المسلحة المرتبطة بالقاعدة من اجل جعلها معتدلة، لأجل دعمها عسكريا، وبعد تسارع الحرب في سوريا، ووصولها إلى مرحلة الخطر، تدخلت روسيا بشكل مباشر في الحرب إلى جانب النظام السوري، من خلال استقدام قوات عسكرية برية وجوية، وصواريخ مقاومة للطائرات، واستخدام الصواريخ بعيدة المدى ضد مواقع الإرهاب في سوريا، عندها بدأت الحرب تتحول من الحرب بالوكالة إلى حرب مباشرة بين الطرفين بحجة مكافحة الإرهاب، فقد أنزلت أمريكا قواتها في شمال سوريا، في المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، وبدأت بتنفيذ مهمات عسكرية، حتى أنها هددت الجيش السوري من قصف مواقع للمسلحين في الحسكة، وقد استهدفت الجيش السوري لأكثر من مرة، ومن خلال دعم صيني واضح بقصف الجيش السوري لعدة مرات في دمشق وجنوب سوريا، وقتل العديد من قادة المقاومة، ومنهم (سمير القنطار)، ورغم وجود تعاون عسكري بين الطرفين الأمريكي والروسي حول مكافحة الإرهاب في سوريا، وعقد وزيري خارجية الدولتين عدة لقاءات واتفاقيات حول التعاون في سوريا، إلا إن المؤسسات العسكرية الأمريكية لم تكن ترضى بها إطلاقا، لهذا تم ضرب كل الاتفاقيات بين الدولتين في سوريا، وإعلان فشل الهدنة في حلب التي لم تستمر لعدة ساعات، وبدأت أمريكا وحلفاءها بالبحث عن ذرائع لإيقاف تقدم الجيش السوري في حلب، من خلال الدعوات لإيقاف الحرب في حلب فقط، هنا لابد من القول إن هناك عدة نقاط مهمة تطرح لبيان إن الخلاف الروسي الأمريكي في سوريا عميق جدا، ومعقد إلى درجة التشابك، وانه سوف يؤثر بشكل كبير على أي بادرة لحل الأزمة في سوريا، ومن هذه التأثيرات على الحل هي:
1- وجود تاريخ من الصراع بين الدولتين على الاستحواذ والهيمنة في الشرق الأوسط، فقد حاولت كل من روسيا وأمريكا التدخل المباشر وغير المباشر في المنطقة لضمان مصالحهما الحيوية، فمنذ الحرب العالمية الثانية إلى ألان لم تترك أمريكا وسيلة إلا وجربتها لضمان مصالحها، من دعم القوى الدكتاتورية، إلى دعم الانقلابات العسكرية، والمجموعات المسلحة بأسمائها المختلفة، ومنها المجموعات الأصولية والجهادية، حتى وصل الأمر إلى احتلال دول بعينها مثل أفغانستان والعراق بحجج واهية لا أساس لها من الصحة، أما روسيا فقد كان لها نفوذ أيضا في الشرق الأوسط إلى انه تقهقر إلى درجة لم يبقى منه سوى نفوذ مباشر في دولة واحدة هي سورية، التي لا زالت الحرب مستعرة فيها، وهنا تحاول أمريكا إنهاء النفوذ الروسي كليا في المنطقة، بينما روسيا ترمي بكل ثقلها لبقاء نفوذها ومصالحها هناك.
2- أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية غير فعال ولم يكن هدفه الأساس إنهاء الإرهاب، بل استخدام الإرهاب لتحقيق أهدافها، فقد كان تحالفا وهميا، فلا توجد معاهدة بين أمريكا والدول الأخرى لإنهاء الإرهاب، أو اتفاقية لضمان فعالية التحالف، بل إنه لا توجد قائمة بأسماء الدول الأعضاء في ذلك "التحالف" الذي تصفه الدولة القائد -الولايات المتحدة الأمريكية- بالائتلاف الدولي، وكل هذه مؤشرات علي عدم فعالية مثل ذلك الكيان، وأكبر دليل علي ذلك هو أن ذلك "التحالف"، أو "الائتلاف"، موجود علي الورق، ولكن من دون أن يوجد علي أرض الواقع. وإذا أخذنا بمؤشرات مهمة، مثل عدد الضربات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها علي "داعش"، وما حجم الخسائر والأضرار التي ترتبت عليها، فربما لا تقاس بما قامت به روسيا من ضربات ضد التهاب التي أكثر بكثير من الضربات الأمريكية، لهذا فان الجانب الروسي وحلفاء سوريا الآخرين قد كشفوا اللعبة الأمريكية منذ لحظتها الأولى، ولكنهم اثروا التعاون لسحب البساط من تحت إقدام أمريكا وكشف مخططها في المنطقة.
3- منذ اندلاع الأحداث في سوريا عام 2011، كان واضحا أن روسيا لن تتنازل عن سياسات ثلاث، الأولى: الدفاع عن استمرار بشار الأسد رئيسا لسوريا، رغم الإقرار -من حيث المبدأ- بضرورة إصلاح النظام السياسي السوري، وقد كان ذلك واضحا في الموقف الروسي منذ مؤتمر جنيف-1 وحتى الآن، أما الثانية، فتتمثل في ضرورة المشاركة الروسية، وبفاعلية، في ضرب الإرهاب، لأن استمراره، أو تصاعده، ونموه، وزيادة خطورته يمكن أن يؤدي إلي امتداد خطر الإرهاب إلي آسيا الوسطي، وإلي الجوار الروسي، أو -وهذا هو الأخطر- إلي الداخل الروسي، من خلال تصعيد الإرهاب مجددا في منطقة الشيشان، أما السياسة الثالثة والأخيرة والمهمة، فتتمثل في استهداف تطوير، وليس إضعاف، القوة العسكرية الروسية الموجودة في اللاذقية وطرطوس، أو في المناطق المتواصلة مع حلب، وحماه، وحمص، وغيرها من المواقع المهمة للوجود الروسي داخل سوريا، ويلفت النظر أن أحد خطوط السياسة الروسية يتمثل في العمل بشكل منظم علي زيادة تطوير الوجود العسكري الروسي داخل سوريا، مقارنة بما كان عليه الوضع في العقود والسنوات السابقة علي الثورة، وهذا خلاف ما تريده أمريكا.
4- كانت أمريكا تعتقد إن في وقت ما سوف تصل الأطراف المتصارعة في سوريا إلى مرحلة الإرهاق، وهنا تبدأ بمهمتها الأساسية وهي الدخول بأمان إلى سوريا، إلا إن هذا التوقع الأمريكي اثبت فشله فقد استمرت كل الأطراف في القتال، خاصة الجيش السوري وبدعم من الحلفاء، بل ما زاد من الطين بل هو دخول روسيا المباشر في الحرب، مع دخول بعض حلفاء أمريكا في معارك جانبية مثل تدخل السعودية في اليمن، وتراجع الدور القطري، وانشغال تركيا بأمورها الداخلية بعد الانقلاب، كل هذا جعل الأهداف الأمريكية غير موفقة في حساباتها، لهذا بدأت أمريكا بالتدخل المباشر بالأزمة ورفض أي تعاون مع روسيا، مما جعل الأخيرة هي الأخرى تدخل بقوتها وتزد النظام بالأسلحة المختلفة ومنها صواريخ ضد الطيران، التي استطاع النظام السوري إسقاط طائرتين إسرائيليتين وهو نطور جديد في الأزمة.
5- الخلاف الروسي الأمريكي سوف ينعكس على كل الأطراف الداخلية وهم (النظام والمجموعات المسلحة بشقيها المتطرف والمعتدل)، إذ سوف تتشدد هذه الأطراف في مواقفها تبعا لمواقف الدول الكبرى الداعمة لها، كذلك الأطراف الإقليمية سوف تستفاد من هذا الخلاف من اجل محاولة الهيمنة أكثر على مجريات الأمور في سوريا، طبعا بدعم من الدول الكبرى، فقد بدأت أمريكا وبشكل علني بدعم المعارضة بالأسلحة وخاصة القوات الكردية، بل وتتواجد بشكل مكثف بريا في شمال سوريا، وبالمقابل بدأت روسيا بتزويد النظام بمختلف الأسلحة، بل وصل الأمر إلى التهديد بان إي استهداف للقوات السورية في مناطق تواجدها سيواجه بقوة من قبل روسيا، إضافة إلى التلويح بالسلاح النووي بين الطرفين.
6- سيقود الخلاف الروسي الأمريكي إلى إطالة أمد النزاع في سوريا، فكل طرف من الأطراف له أجندته الخاصة بالأزمة السورية، ويريد تحقيق أهدافه من خلال إقصاء كل طرف للأخر، ومع ازدياد الخلافات والصراعات الدولية والإقليمية، فان فرص الحل السياسي سوف تتضاءل، ويبقى الصراع والحل العسكري هو سيد الموقف في الميدان.
خلاصة القول، وان صح قول السياسيين، في السياسة لا توجد عداوة دائمة ولا صداقة دائمة وإنما مصالح دائمة، وانه يمكن إن يكون هناك تعاون بين روسيا وأمريكا لحل الأزمة في سوريا، خاصة وانه كان لهم مواقف سابقة في حلحلة العديد من القضايا في المنطقة والعالم، إلا إن ما نراه في سوريا يختلف عن قضايا المنطقة الأخرى، لان هدف كل طرف هو إقصاء الطرف الأخر، فأمريكا تسعى إلى تمزيق سوريا وإنشاء دويلات موالية لها في أقسام من سوريا، بينما روسيا تريد وتدعوا إلى وحدة سوريا، فأمريكا تريد سورية خالصة لها في المنطقة من اجل السيطرة على الشرق الأوسط الجديد الذي تنظر له، بينما روسيا تدافع عن أخر معاقلها المتبقية في المنطقة وهي سوريا، فهي لم يبقى لها من نفوذها الذي كان سابقا سوى سوريا، حتى إيران وان كانت علاقاتها مع روسيا متميزة إلا أنها تنظر إلى الغرب باعتباره امتدادا لها، وتحاول بكل قوة تحسين علاقاتها معه، كل الدلائل تشير إلى خطورة الصراع الأمريكي الروسي حول سوريا، ولكن لا يمكن لهما خوض نزاع بينهما لأنه لن يقف عند حدود الدولتين فالعالم سوف ينتهي بهذا الصراع، لهذا فان تصعيد الأمور إلى نقطة الصفر هو محاولة لكسر العظم لكل طرف من الطرف الأخر.
إن كل المؤشرات في سوريا تدل على إن الحل في هذا البلد هو حل رضائي للأطراف الدولية والإقليمية، قبل إن يكون حلا لازمة الشعب السوري الأساسية، كما إن هناك تناقض بين الإطراف السورية نفسها على طريقة الحل في سوريا، ففي الوقت الذي يحاول فيه النظام السوري تجميع ما يمكن تجميعه من الشعب السوري، وتحرير بعض الأراضي من المجموعات المسلحة، والمحافظة على وحدة البلاد، فان المعارضة السورية المعتدلة هي الأخرى تنتهج تقريبا نفس ما يسعى إليه النظام وهو بناء نظام موحد ديمقراطي يجمع كل الشعب السوري تحت سلطته، وهذا شيء طبيعي لان اغلب عناصر المعارضة السورية المعتدلة هم كانوا مسؤولين سابقين ضمن الدولة السورية، أو من العناصر اللبرالية المتنورة، وخاصة معارضة الداخل والأعضاء في الائتلاف السوري المعارض، ولكن المشكلة هي مع العناصر المرتدية عباءة الدين، مثل الإخوان المسلمون وبعض المجموعات المسلحة الأخرى والمدعومين من جهات كانت ولا زالت همها تقسيم سوريا، كذلك المسلحين الأكراد الذين حصلوا على الدعم الدولي والإقليمي، وأصبحوا قوة موجودة على الأرض، ويسيطرون على أراضي في شمال سوريا.