يشكل التاريخ ميدانا رحبا للعقل البشري؛ لأن العقل يخضعه للتحليل والمراجعة، التفسير والمحاسبة، من اجل استجلاء الحقائق، واكتساب العظة، ومحاولة تجنب الوقوع في أخطاء الماضين، بهدف التقدم بخطوات واثقة نحو الامام.
ان احداث التاريخ المهمة لا يجوز التقليل من شأنها أو اهمال أسبابها ووقائعها ونتائجها، فهذه الاحداث ليست محدودة بزمانها ومكانها، وانما تتجاوز تأثيراتها حدود الزمان والمكان –سلبا ام إيجابا – فتترك انعكاساتها على طول مسيرة الانسان في الأرض. وقد حدثت في الماضي حوادث مؤلمة كثيرة لو امتلكت البشرية الوعي الكامل بأسبابها وعوامل نجاحها او اخفاقها، لاكتسبت المناعة وقوة الإرادة للحيلولة دون حدوثها مرة أخرى، ولما شهدنا آلام بني آدم تتكرر عبر اجيالهم الكثيرة المتلاحقة، حتى ليبدو للمتابع أنهم لم يتعلموا شيئا من معاناة اسلافهم، لاسيما عندما ترتبط هذه الحوادث بمصلحين عظام وثوار كبار دفعوا حياتهم في سبيل مبادئهم الثورية ومناهجهم الاصلاحية.
من هذا المدخل التوضيحي نحاول الولوج الى قضية ثورة الحسين بن علي عليه السلام، تلك الثورة الفاجعة التي حدثت في العاشر من محرم سنة 61 هجرية، الموافق للعاشر من تشرين الأول-أكتوبر سنة 680 ميلادية، والتي انتهك بها قوم يزعمون انتسابهم الى الدين الاسلامي الذي جاء به جد الحسين صلوات الله عليهما كل ما حرمه هذا الدين من كبائر، وحث عليه من مواعظ وقيم، وشرعه من احكام. والسؤال المحير حقا اليوم هو ليس كيف قتل الحسين عليه السلام، بل لماذا قتل؟ ولماذا بقي مع ثلة قليلة من اهل بيته وانصاره وهو حفيد النبي الذي اعتنق دينه الملايين؟ بمعنى لماذا لم تقف هذه الملايين الى جانبه لتنصر ثورته وتطبق مشروعه الاصلاحي في الحكم والإدارة والحياة؟
هذه الأسئلة وغيرها تقذف بنا الى جوهر المشكلة الثورية لأي ثورة على مر التاريخ، تلك المشكلة التي تتجلى في نهوض الثائر أو المصلح لتغيير واقع الظلم والبؤس الذي يعيشه الناس، ليجد نفسه وحيدا امام طاغية زمانه، نتيجة التخلي عنه من قبل من هب لنجدتهم وتخليصهم من الطغيان وحياة الذل التي يكابدونها، بل ووقوفهم –أحيانا-كما هو الحال مع الحسين عليه السلام مع الطاغية الذي يأنون من سياط ظلمه، ويحلمون بزوال حكمه، ويدعون الله ان ينصرهم عليه. وبسبب هذه المشكلة تجد معظم الثوار والصلحين يهزمون عسكريا على يد الطغاة، وهي مشكلة كانت حاضرة بقوة كبيرة للغاية في الصراع بين الحسين المصلح الثائر ويزيد الظالم الطاغية، وتركت نتائجها المأساوية على النتائج العسكرية المباشرة لهذا الصراع.
لقد كتُب وقيل الكثير عن أسباب الإخفاق الاجتماعي والعسكري لثورة الحسين عليه السلام، وقد تنوعت التفسيرات بين من ربط الموضوع بالقدر والمصير، أو بالأمور الاعجازية، أو بجهل العامة، او بعدم توفر الظروف الملائمة للثورة، وبين من ربطه بقوة الطاغية وسطوته وكثرة اعوانه. ومع احترامنا لهذه التفسيرات واتفاقنا مع الكثير مما ذهبت اليه، فانه ومن خلال البحث والتحليل لتفسير ما حدث في المواجهة بين الحسين الثائر، ويزيد الطاغية لفت انتباهي نصا مثيرا في كتاب (الخوف من الحرية) الذي ألفه عالم النفس الأمريكي الجنسية والألماني الاصل أريك فروم، ففي هذا الكتاب يرى فروم أن انتصار الطغاة لا يعود الى جنونهم او خداعهم للجمهور، بل هو يعود الى وجود " ملايين شغوفة بأن تسلم حريتها بالقدر نفسه الذي كان آباء هذه الملايين يقاتلون من أجلها، وأنهم بدل أن يريدوا الحرية بحثوا عن الطرق للهرب منها، وأن هناك ملايين أخرى غير مكترثة ولا تؤمن بأن الدفاع عن الحرية جدير بالقتال والموت من أجله" (أريك فروم، الخوف من الحرية، ص 12-13).
هذا النص أزعم أنه مهم للغاية في تفسير الإخفاق الاجتماعي والعسكري لثورة الحسين، فالمسلون سنة 61 هجرية كانوا يعدون بالملايين، ولكنهم في الحقيقة كانوا منقسمين الى قسمين: قسم تخلوا عن المبادئ والقيم التي جاء بها دينهم، والتي قاتلوا هم أو آبائهم من اجلها في بداية الدعوة، فلم يعودوا يقيمون وزنا لها أو للأشخاص الداعين الى صيانتها وتطبيقها، لذا لم يتردد هذا القسم في قبول شخص نزق داعر فاجر ورعديد كيزيد أن يكون حاكما (خليفة) عليهم. اما القسم الآخر، فقد آثروا حياة الدعة والسلامة في الصراع الدائر، فوقفوا غير مبالين بما يحصل: أما لأنهم يرونه صراعا على السلطة بين أبناء العمومة من قريش، أو لجهلهم بالموضوع، أو لاعتقادهم بإمكانية الاستفادة من المنتصر أي كان. مع التنويه الى اننا لا نزعم اطلاقا بأن القسمين كانا بلون واحد او على قلب رجل واحد، بل ان فيهما تنوع واسع للغاية، كشأن البشر في أي قضية سياسية او اجتماعية، تنوع ممتد من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، لكن ما يجمعها هو وحدة الإطار الثقافي والعقلي، الذي يجعل الاختلاف في المستوى غير مؤثر على النتائج النهائية المتوقعة.
من المؤسف حقا وصول حال المسلمين –آنذاك-الى هذه الدرجة من التردي في الوعي، فكلا الجانبين ارتكب خطأ قاتلا، فمن تخلوا عن مبادئهم لم يدركوا انهم انما تخلوا عن احترام الناس والتاريخ لهم، كما تخلوا عن شرفهم وانسانيتهم. اما الذين آثروا السلامة، فلم يدركوها ابدا، بل أدركوا القهر والذل والعبودية الدائمة، تلك العبودية التي جسدتها بعد سنة من مقتل الحسين عليه السلام حادثة الحرة في المدينة، وما اعقبها من حوادث مفجعة في مكة والعراق وغيرها من المدن الإسلامية.
صفوة القول: أن التاركين لمثل الإسلام واحكامه وقيمه، والطالبين للسلامة والدعة كلاهما شاركا في قتل الحسين عليه السلام ووئد ثورته؛ الاولون بصولتهم عليه، والأخرون بتركهم له بين يدي اعدائه، وكلاهما شاركا-عن قصد أو جهل-في تأسيس حكم الطغيان والظلم والاستبداد في التاريخ الاسلامي. وبهذا الفهم للموضوع نرى خطأ المقولة التي يرددها البعض من أن الحسين عليه السلام قتله أهل العراق، فالحقيقة أن كل البلاد الإسلامية –آنذاك-كانت شريكة في قتله، والدليل على ذلك هو أنه على الرغم من انتقاله في مسيرة ثورته الطويلة من مدينة جده الى مكة وصولا الى العراق، الا أن كل هذه البلدان الإسلامية خذلته تماما وتجاهلته وسلمته الى مصيره المأساوي المحتوم، ولم يقف معه في النهاية الا بضعة وسبعون رجلا. فضلا على ما تقدم، لم تقتل الحسين قريشا لوحدها، انما شاركتها في الاثم، بشكل أو آخر، معظم القبائل والعشائر العربية المسلمة آنذاك.
لقد كان الحسين الثائر ضحية الجهل والانحراف والتهاون واللامبالاة من مجتمعات لم تعرف كيف تحافظ على حريتها ومُثلها وقيمها وانسانيتها، مجتمعات كانت مستعدة تماما لتسليم نفسها طواعية لسيف الطاغية، ولو لم تكن هذه المجتمعات بهذا المستوى المتردي من الوعي بالحرية، لاجتمعت لهذا الثائر العظيم أسباب النصر (اجتماعيا وعسكريا) ولما كان حال البلاد الإسلامية كحالها عبر التاريخ، حيث أصبحت مسرحا لأبشع الطغاة من الذين ساموا الناس ألوان العذاب (قتلا ونهبا واغتصابا وتعذيبا ونفيا).
وما يؤسف له حقا، انه خلال هذا التاريخ الطويل لم تقف هذه المجتمعات طويلا لمراجعة حساباتها واعادة النظر بما حدث؛ لتمنع تكراره، وتجرد الطغاة من ادواتهم سطوتهم الرئيسة: انسان تخلى عن حريته ومبادئه، وآخر وقف لا مباليا بها طالبا للسلامة. فكانت النتيجة هي بقاء الطغاة عبر العصور ماسكين بعوامل القوة والنصر والغلبة، فيما بقي الثوار مجردين منها، وعاجزين عن وضع حد لاستهتار الظالمين واستبدادهم.
الحسين عليه السلام والتغيير السياسي في العراق
عند قراءة تاريخ العراق، هذا البلد الذي أراده الحسين عليه السلام منطلقا لثورته وقاعدة لبناء دولته يبدو أنه قد أدركه حبا وحماسة عاطفية لا يمكن انكارها، الا أنه لم يدركه ثورة ومنهجا وسلوكا، فبقي لأربعة عشر قرنا بعد مقتل الحسين عليه السلام مسرحا يتفنن بعذاب أهله الطغاة، فيستبيحون دمائهم، وينهبون أموالهم، ويسترقونهم بأبشع صورة. لذا ساد فيه نمط الحكم الظالم على طول مسيرته التاريخية حتى وصل في الوقت الحاضر الى أن يكون بين الأسوء من بلدان العالم في مستوى فساد حكامه، وضياع حقوق وثروات شعبه.
ومشكلة العراق اليوم مع قضية الإصلاح والسعي لبناء نظام حكم أكثر استقامة وعدالة لا تختلف كثيرا عن مشكلة الحسين الثائر في وقته، فالناس – أيضا-منقسمون الى قسمين: قسم تخلوا عن مبادئهم وقيمهم التي حاربوا من اجلها الطغاة السابقين، فلم يترددوا عند وصولهم الى السلطة من التحول الى طغاة وفاسدين. أما القسم الاخر، فقد جلسوا لا مبالين بما يحصل، وكأن الامر لا يعنيهم. وبين القسمين وقف كل طالب اصلاع وتغيير عاجزا مذهولا مجردا من أدوات النصر، وكما تم اتهام الحسين عليه السلام وانصاره في وقتهم من قبل السلطة المستبدة بأنهم خوارج، تجد اليوم كل مطالب بالإصلاح في العراق يجري اتهامه بكل ما يمكن تصوره من تهم العمالة والخيانة والالحاد والكفر والفسوق.
ان استمرار وضع العراق بهذا الشكل يقود الى استمرار تراجيديا المغامرة بضياع الحرية والاستسلام لسلطة الفساد والانحراف التي الفها العراقيون طويلا، ولن تنفع في اصلاح الحال الدعوات الفردية لثائر هنا أو هناك، أو كاتب من هنا أو هناك، فالحقيقة التي لا مواربة فيها هي أن الحرية والعدل إذا لم يصبحا مطلبا اجتماعيا عاما فان بلوغهما يبقى مجرد احلام شبيهة بأحلام الحرية التي تراود العبيد في المنام، والتي عند استيقاظهم يواجهون حقيقة أنهم لا زالوا مجرد عبيد يرزحون تحت اغلال الاسترقاق والظلم. فالحرية والحكم الصالح الرشيد هي استحقاقات لشعوب ومجتمعات حرة واعية، لا تخشى حريتها، ولا تخون مبادئها، ولا تقف متفرجة غير مبالية فيما يقرر مصيرها. اما الشعوب التي اعتادت على سلاسل الاستعباد فليس امامها الا الركوع والخضوع للفاسدين والطغاة وان زعمت خلاف ذلك.
العراقيون من بين أكثر شعوب العالم حاجة –في الوقت الحاضر-الى فهم ثورة الحسين عليه السلام فهما صحيحا؛ لإدراك أسباب اخفاقها الاجتماعي والعسكري، من اجل وضع حد لعبوديتهم الطويلة، وانتزاع حريتهم الحقيقية، حتى لا تضيع عليهم فرصة الاستفادة من هذه الثورة العظيمة كما ضاعت على اسلافهم من قبلهم، فالتاريخ لا يرحم الاغبياء والجهلة الذين لا يريدون الاستفادة من تجاربه.
أن النصر في الصراع، أي صراع بشري، ليس أمنيات تطلب، بل هو وعي يرتقي الى مستوى الحدث، وجهد يبذل بإرادة صلبة لا تلين، وعوامل قوة تحتاج الى من يوفرها ويحافظ عليها، ومن يكون مستعدا لتحقيق ذلك سينتصر سواء كان ثائرا حرا ام ظالما فاجرا.