من القواعد الثابتة في فقه القانون العام إن السلطة التشريعية تعد صاحبة الاختصاص الأصيل في سن التشريعات ومع ذلك ولاعتبارات عملية فقد أعطيت السلطة التنفيذية حق التشريع في بعض المسائل استثناءً بواسطة الأنظمة التي تسمى في بعض الدول "اللوائح".
والأنظمة عبارة عن قرارات إدارية تنظيمية تضع بموجبها الإدارة قواعد قانونية جديدة عامة ومجردة تطبق على عدد غير محدود من الحالات والأفراد ، وتصدرها الإدارة وفقاً للدستور، لان التشريعات الفرعية (الأنظمة) هي سلطة استثنائية تتمتع بها الإدارة في ميدان التشريع ، لذا فلا بد أن تستند إلى أساس دستوري أي يجب أن ينص عليها الدستور بانها ممكنة الاصدار من السلطة التنفيذية ، وهذه الانظمة منها ما يصدر في ظل الظروف الاعتيادية الطبيعية كالأنظمة الخاصة بتنفيذ القوانين وتلك الخاصة بإنشاء وإدارة وتنظيم المرافق العامة في الدولة . ومنها ما يصدر في ظروف غير اعتيادية استثنائية ومنها أنظمة الضرورة والأنظمة أو اللوائح التفويضية. وعادة ما تكون هذه الانظمة متمتعة بقوة القانون رغم انها صادرة من السلطة التنفيذية ولكن بشرط أن ينص على ذلك الدستور نفسه، فلا يمكن افتراض هذه القوة القانونية لها افتراضاً ( ).
وفي خضم ما يمر به العراق من ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية بالغة الصعوبة اتجه رئيس مجلس الوزراء "د. حيدر العبادي" وتحت الضغط الشعبي بقيادة المرجعية الدينية الحكيمة ، إلى اطلاق جملة الاصلاحات التي يفترض لها أن تشمل جوانب الحياة برمتها ، وتحت الضغط المذكور صادق إعلامياً مجلس النواب عليها مع تقديمه حزمة اصلاحات أخرى لتطبيقها كما يدعى. ومن بين تلك الاصلاحات قيام الحكومة بتقديم نظام، أي قرار إداري تنظيمي، لإصلاح رواتب موظفي الدولة وكان من أهم ملامح هذا الاصلاح المزعوم الغاء وتقليل مجموعة من المخصصات المساندة لرواتب موظفي الدولة، مع زيادة وتقليل الرواتب الأساسية (الإسمية) الواردة في سلم الرواتب النافذ منذ عام 2008 بموجب قانون تعديل رواتب موظفي الدولة والقطاع العام رقم (22) وقانون الخدمة الجامعية رقم (23) لسنة 2008 المعدل ( ). والاستعداد لإرساله إلى وزارة المالية الاتحادية لتطبيقه منذ 1/11/2015، وهذا الاتجاه الاصلاحي يحتاج منا وقفة لتحليله من الناحيتين الدستورية والقانونية. وتحقيقاً لذلك سنبين مفهوم التفويض التشريعي وفق أصوله الدستورية العامة في الفرع الأول، ثم سنبحث في تحليله وفق الدستور العراقي في الفرع الثاني.
الفرع الأول
التفويض التشريعي وفق أصوله الدستورية العامة
أولاً: مفهوم وتنظيم التفويض التشريعي: قد يقوم البرلمان بتفويض رئيس السلطة التنفيذية –رئيس الدولة أو رئيس الوزراء-ممارسة وظيفته التشريعية، فيحل بذلك رئيس التنفيذية محل البرلمان في مباشرة هذه الوظيفة في الحدود التي يبينها قانون التفويض ويترتب على ذلك ان تكتسب قرارات رئيس السلطة التنفيذية خصائص وقوة العمل التشريعي الصادر من البرلمان، أي القانون، وتكون لها ان تنشئ أو تعدل أو تلغي قواعد قانونية قائمة تعالج موضوعات معينة منصوص عليها في قانون التفويض ( ). وبذلك فان التفويض التشريعي يمكن أن نعرفه بأن "يعهد البرلمان بممارسة بعض اختصاصاته التشريعية الى السلطة التنفيذية لمدة زمنية محددة وبموضوعات محددة في قانون التفويض".
وقد اتجهت الدساتير التي تبنت فكرة التفويض التشريعي صراحة إلى تنظيمها في ثناياها ومن بين تلك الدساتير نجد الدستور الفرنسي لعام 1958 قد نص في المادة (38) بان (للحكومة في سبيل تنفيذ برنامجها ان تطلب من البرلمان تفويضها بان تتخذ عن طريق الاوامر خلال مدة محدودة تدابير تدخل عادة في القانون ، ويتم إقرار الاوامر في مجلس الوزراء بعد اخذ رأي مجلس الدولة وهي تسري بمجرد نشرها ولكنها تصبح لاغية إذا لم يقدم مشروع قانون التصديق عليها إلى البرلمان قبل انتهاء التاريخ المحدد في قانون التفويض ، ولا يمكن إقرارها الا بشكل صريح وبانتهاء المدة المذكورة في الفقرة الأولى لهذه المادة لا يمكن تعديل الاوامر في المواد الداخلة في مجال التشريع الا بقانون وذلك في المواد التي تدخل في النطاق التشريعي) . ونص الدستور المصري لعام 1971 الملغي في المادة (108) بان (لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الاحوال الاستثنائية وبناءً على تفويض من مجلس الشعب بأغلبية ثلثي اعضائه ان يصدر قرارات لها قوة القانون ويجب ان يكون التفويض لمدة محددة وان تبين فيه موضوعات هذه القرارات والاسباب التي تقوم عليها ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء مدة التفويض فاذا لم تعرض أو عرضت ولم يوافق المجلس عليها زال ما كان لها من قوة القانون) . وذهب الدستور المغربي لعام 2011 إلى تبني التفويض التشريعي أيضاً في المادة (70) التي نصت على أن (يصوت البرلمان على القوانين .... للقانون أن يأذن للحكومة أن تتخذ في ظرف من الزمن محدود، ولغاية معينة، بمقتضى مراسيم ، تدابير يختص القانون عادة باتخاذها ويجري العمل بهذه المراسيم بمجرد نشرها ، غير انه يجب عرضها على البرلمان بقصد المصادقة ، عند انتهاء الأجل الذي حدده قانون الإذن بإصدارها ....) .
ثانياً: شروط صحة التفويض التشريعي: واذا كان ما تقدم هو موقف الدساتير من تبني فكرة التفويض التشريعي صراحة، فلا بد لنا من بيان أهم شروط التي هي في حقيقتها قيود لممارسة السلطة التنفيذية لاختصاصها في اصدار اللوائح التفويضية وهي كالاتي:
البند الاول: الشروط المتعلقة بظروف ممارسة التفويض التشريعي: تشترط لممارسة التفويض التشريعي ان توجد ظروف غير اعتيادية تسوغ ممارسة هذا الاختصاص وإن لم يشترطه الدستور صراحة ( )، فالوضع الدستوري يقضي بان يكون التفويض لمدة محددة، والتأقيت لا يكون في الظروف العادية وانما يرتبط بالظروف الاستثنائية وعليه فان تطبيق التفويض التشريعي لابد ان يكون في ظل ظروف غير عادية (استثنائية)( ).
البند الثاني : الشروط المتعلقة بالمفوض والمفوض اليه : هنالك شروط لا بد من تحقيقها في المفوض أي البرلمان فلابد ان يكون هذا الاخير منعقدا وانعقاد البرلمان هو ما يميز حالة اللوائح التفويضية عن غيرها من اللوائح التي تصدرها السلطة التنفيذية لممارسة الوظيفة التشريعية في ظل الظروف الاستثنائية ، غير ان هذا لا يعني ضرورة استمرار انعقاد البرلمان طول مدة التفويض( )، وفضلاً عن انعقاد البرلمان فلابد ايضاً من صدور الاذن من البرلمان بالتفويض التشريعي هو يصدر بشكل قانون يسمى قانون التفويض تتبع في اصداره الإجراءات التشريعية ذاتها المعمول بها( ) ، فالبرلمان لا يفوض الحكومة من تلقاء نفسه لتنظيم المسائل المختص بها وانما لابد ان يتم ذلك بطلب من الحكومة( ) . أما بالنسبة لما يتعلق من شروط بالمفوض اليه أي رئيس السلطة التنفيذية فلابد من حصوله على اذن من البرلمان لممارسة سلطته في اصدار اللوائح التفويضية، وقد يتوجب على رئيس الدولة استشارة جهات معينة ( ).
البند الثالث: الشروط المتعلقة بمدة وموضوع التفويض: وتنقسم هذه الشروط إلى نوعين احداهما يتعلق بالفترة الزمنية التي يمكن خلالها لرئيس السلطة التنفيذية ان يصدر اللوائح التفويضية بناءً على تفويض البرلمان له ، والاخرى تتضمن بيان الموضوعات التي يجوز له ان يتناولها بالتنظيم بموجب قانون التفويض :
ان يكون التفويض لمدة محدودة : لابد تحديد المدة الزمنية للوائح التفويضية تحديداً دقيقاً ويرجع السبب في ذلك إلى حرص المشرع الدستوري على عدم استمرار التفويض لأجل غير مسمى كونه امرا استثنائيا عارضا فهو يعد خروجا على مبدأ الفصل بين السلطات، ولذلك فان عدم تحديد القانون مدة التفويض يجعله باطلا( )، لذا فلا يجوز للبرلمان ان يجعل تحديد مدة التفويض من تقديرات السلطة التنفيذية وذلك عن طريق ربطها بتحقيق الهدف من التفويض وهو (تنفيذ برنامجها)( )، وانما يجب ان يحدد قانون التفويض تحديدا دقيقا، المدة التي تؤهل خلالها الحكومة في اتخاذ تدابير تعود لمجال القانون( ). ومما يلاحظ ان مدة التفويض يجب ان لا تستغرق المدة الباقية لنيابة البرلمان لأن ذلك يعد نزولا فعليا عن سلطته التشريعية ومن باب اولى الا تمتد هذه المدة إلى ولاية المجلس الجديد ( )، فاذا خلا قانون التفويض من تحديد هذه المدة اصبح باطلا لفقده أحد شروطه الأساسية ويجوز الطعن بعدم الدستورية( ) ، وهذا التشديد في ضرورة تحديد مدة قانون التفويض متأتٍ من كون التفويض التشريعي يعد امراً استثنائياً عارضاً وخروجاً على مبدأ الفصل بين السلطات ولذلك يتعين ان يكون هذا الخروج مؤقتا حتى لا يختل التوازن بين السلطات( ) .
ان يكون التفويض محدد الموضوعات: ان موضوعات قانون التفويض يجب ان تكون محددة الغرض وبالتالي الموضوعات ( ). فلابد ان يحدد قانون التفويض وبدقة ماهية الموضوعات التي سيتناولها قانون التفويض وبالتالي ما ستنظمه الحكومة في لوائحها التفويضية فاذا لم يكن قانون التفويض محدد الموضوعات الداخلة فيه عد ذلك سلطة مطلقة للسلطة التنفيذية في التشريع ( ) .
وهو ما أيده المجلس الدستوري الفرنسي في العديد من احكامه فقد قضى في
11 /1/1977 بان (عندما تطلب الحكومة إلى المجلس النيابي الاذن بالتشريع عن طريق اوامر تشريعية يجب عليها ان تبين بدقة ماهية التدابير التي تنوي اتخاذها ويجب ان تتخذ هذه التدابير من اجل تنفيذ برنامجها) وكذلك قضى في عام 1986 بان (على الحكومة ان تبين مجال تدخلها غير انها ليست ملزمة ببيان فحوى الاوامر الاشتراعية) ( ).
يتضح انه لابد من تحديد الموضوعات التي تصدر فيها اللوائح التفويضية ، فالتفويض يجب ان يكون جزئيا ينصب على موضوعات محددة أما التفويض الكلي فانه غير جائز لأنه يعد بمثابة تنازل من البرلمان عن اختصاصاته التشريعية وهذا ما لا يملكه ، ولابد ايضا من توضيح الاسس التي تقوم عليها اللوائح التفويضية وتتضح هذه الاسس في ضوء الاسباب الدافعة إلى صدور التفويض التشريعي ذاته( )، وعدم تحديد الموضوعات الداخلة في قانون التفويض يعني التفويض المطلق لرئيس السلطة التنفيذية في اصدار اللوائح التفويضية في أي موضوع ، وهذا يعني تخلي البرلمان عن اختصاصه في التشريع ، وهو امر غير جائز دستورياً( )، ويلاحظ انه لابد من استحصال هذه الموضوعات المحددة في قانون التفويض وعلى سبيل الحصر اتصالا وثيقا بالضرورة والاحوال الاستثنائية( ).
البند الرابع: الشرط المتعلق بعرض اللوائح على البرلمان: لقد تطلبت الدساتير المذكورة وجوب عرض مشروع قانون التصديق على القرارات التفويضية الصادرة عن الحكومة على البرلمان قبل نهاية مدة التفويض ويترتب على عدم عرضها زوال ما كان لها من قوة القانون ومن ثم انهاء اثارها واعتبارها لاغية( ). فاذا تم عرض هذه القرارات على البرلمان فان هذا العرض في ذاته لا يغير من طبيعتها القانونية – كقرارات ادارية – مما يجعل باب الطعن مفتوحا تجاهها بالإلغاء( )، وهو ما ايده المجلس الدستوري الفرنسي في أحد احكامه الصادر في 27/2/1972 بان (... اثر ايداع مشروع قانون التصديق هو الحفاظ على نفاذ الاوامر الاشتراعية ، وهو لا يتناول على الاطلاق طبيعتها القانونية،... وبذلك تظل قابلة للمراجعة لتجاوز حد السلطة والدفع بعدم قانونيتها)( ).
فلابد من الرجوع إلى البرلمان صاحب الاختصاص الاصيل في التشريع في نهاية مدة التفويض ليقول كلمته في تلك اللوائح( )، وهذا يتطلب بطبيعة الحال ان يكون البرلمان موجودا أما إذا انتهت مدة التفويض ولم يكن البرلمان قائماً يجب عرض هذه اللوائح (القرارات بقوانين) على المجلس الجديد في أول اجتماع له( ). فاذا عرضت هذه اللوائح على مجلس النيابي فقد يرى الموافقة عليها وذلك بان يصادق عليها ويسبغ عليها قوة القانون، وقد يرفض صراحة الموافقة عليها وفي هذه الحالة يزول ما كان لها من قوة القانون ( ) .
ثالثاً: الرقابة القضائية على اختصاص رئيس السلطة التنفيذية في اصدار اللوائح التفويضية:
لقد استقر قضاء مجلس الدولة الفرنسي على ان اللوائح (الاوامر) التفويضية هي قرارات ادارية لها قوة القانون قبل تصديق البرلمان عليها وعلى ذلك اخضعها لاختصاصه للتحقق من مدى مشروعيتها ( )، وعلى ذلك قضى مجلس الدولة في 8 ديسمبر عام 2000 في الدعوى المقامة من السيد (هوفر واخرين) بشان طلب الغاء الامر رقم 525 لسنة 1998 الصادر في 24 يونيه عام 1998 والمتعلق بالرقابة على ترحيل الاموال الى الخارج بالنسبة للأراضي فيما وراء البحار مع ايقاف تنفيذ هذا الامر فجاء في الحكم بان (الامر المطعون فيه صدر اعمالا للمادة 38 ، وان اللوائح الصادرة اعمالا لهذه المادة تعتبر اعمالا ادارية تخضع لرقابة المشروعية من جانب مجلس الدولة ، وذلك قبل تصديق البرلمان عليها بينما تصبح هذه اللوائح ذات قيمة تشريعية من وقت توقيع البرلمان عليها ومن ثم لا تخضع لرقابة القضاء الاداري)( ).
وأما في ظل النظام المصري فان هذه اللوائح قد استقر القضاء على عدها مجرد قرارات ادارية قبل تصديق البرلمان أما بعد ذلك فتختص بنظرها المحكمة الدستورية العليا لكونها تضحى قوانين( )، وعلى ذلك قضت محكمة القضاء الاداري في مصر بان (يتعين على رئيس الجمهورية اثناء ممارسته لما فوض فيه من اصدار قرارات وقوانين اعمالاً لنص المادة 108 من الدستور الا يتجاوز الحدود المرسومة له دستوريا ويمس الحقوق والحريات العامة بادعاء بانه يهدف إلى تحقيق المصلحة العامة الا بالقدر القانوني الذي يتناسب مع الضرورة والظروف الاستثنائية والا كان تصرفه مشوبا بعيب عدم المشروعية مستوجبا الطعن فيه ...)( ).
الفرع الثاني
التفويض التشريعي في دستور العراق لعام 2005
وسنبحث مدى وجود فكرة التفويض التشريعي وفقاً لنصوص الدستور "أولاً" ثم وفقاً للتفويض البرلماني "ثانياً" .
أولاً: التفويض التشريعي وفقاً لنصوص الدستور: كما أشرنا سلفاً فان قدرة السلطة التنفيذية ممثلة برئيسها على إصدار قرارات إدارية تنظيمية (لوائح أو أنظمة تفويضية) لها قوة القانون أي تستطيع بقراراتها المذكورة أن تعدل وتلغي نصوص القانون النافذ أو أن توجد قواعد قانونية جديدة، يحتاج إلى النص عليها بصورة صريحة في الدستور، وكما نظمتها الدساتير المذكورة في أعلاه. فما هو موقف دستورنا من هذه المسألة مدار البحث؟
ان استقراء نصوص الدستور العراقي تبين لنا بوضوح عدم أخذ دستور العراق بفكرة التفويض التشريعي للحكومة وهذا يعني عدم قدرة الحكومة الاتحادية العراقية على إصدار قرارات تفويضية لها قوة القانون ( ). وبالتالي لا يستطيع رئيس مجلس الوزراء العراقي من الناحية الدستورية أن يصدر أي قرار يتعارض مع القوانين الاتحادية النافذة لا بالإلغاء ولا بالتعديل ولا بالإنشاء. ذلك لان القرارات التي تصدر من السلطة التنفيذية بمستوياتها جميعا ما هي الا قرارات إدارية وكما هو معروف فإن القرار الإداري ل ايمكن له أن يخالف القانون مطلقاً لأنه أقل منه قوةً وآثراً، بل ان القانون يستطيع أن يلغي قرارات السلطة التنفيذية. وعليه لا يمكن الاستناد إلى أي نص في الدستور لتبرير قيام الحكومة بإصدار نظامها "الاصلاحي" بشأن رواتب موظفي الدولة وبضمنهم الأساتذة الجامعيون الذين يحكمهم قانون آخر وهو قانون الخدمة الجامعية رقم (23) لسنة 2008 المعدل.
ثانياً: التفويض التشريعي وفقاً للتفويض البرلماني: قد يقال بأن البرلمان فوض رئيس مجلس الوزراء باتخاذ الاجراءات الاصلاحية كافة وبضمنها تعديل القوانين ذوات العلاقة برواتب موظفي الدولة والخدمة الجامعية وبالتالي يكون له أن يعدل ويلغي القواعد القانونية النافذة بل وينشئ قواعد أخرى جديدة.
ان هذا القول مردود للأسباب الآتية:
1. انعدام السند الدستوري لقيام مجلس النواب الاتحادي بتفويض الحكومة العراقية تشريعياً لأنه كما لاحظنا اختصاص استثنائي للحكومة لان فيه تنازل صاحب السلطة التشريعية عن اختصاصه الاصيل بالتشريع ، وإيكال هذه المهمة للحكومة ، ولذلك فهي تحتاج إلى نص صريح بصددها ، وإلا كان التفويض التشريعي فاقداً لسنده الدستوري وبذلك يخالف مجلس النواب الدستور ويتنصل عن التزاماته الدستورية .
2. لو سلمنا بان هذه الفكرة غير منظمة في الدستور العراقي ولكن يمكن الاخذ بالأعراف الدستورية المكملة للنقص الدستوري، كما حدث في ظل الدستور الفرنسي لعام 1875. فلا بد لنا من ملاحظة ان هذا العرف كان محل انتقاد شديد في فرنسا في وقتها لعدم دستوريته هذا من جانب ومن جانب أخر فانه لم يحدث أي تطبيق للتفويض التشريعي في ظل أحكام الدستور حتى يمكن القول بان عرفاً قد نشأ في ظله.
3. ان مجلس النواب العراقي لم يفوض الحكومة تفويضاً تشريعياً بالمعنى الصحيح المتعارف عليه في بقية الدول الأخرى، ذلك لأن شروط صحة التفويض التشريعي التي بحثناها في أعلاه غير متحققة في مجملها، وأهمها لم يصدر مجلس النواب العراقي قانون بالإجراءات ذاتها المتبعة في سن القوانين، يفوض فيه الحكومة العراقية بالتشريع في مسائل محددة ولمدة زمنية محددة. بل كل ما حدث أن تم التصويت على "برنامج إصلاحي" تقدمت به الحكومة كمنهج عمل مستقبلي لها ولم يكن محدد المبادئ والمسائل التي سيتناولها. ولم تكن تلك الموافقة نابعة من رغبة صادقة في الاصلاح بل هي نتيجة للضغط الشعبي المذكور ومحاولة للتهدئة فكانت موافقة اعلامية أكثر من كونها فعلية. وهنا لابد لنا من الإشارة إلى ان ليس كل ما يوافق عليه البرلمان يعد قانوناً، ذلك لأن الدستور قد بين بأن من اختصاصات مجلس النواب اصدار قوانين كما ان له اصدار قرارات لا ترقى إلى مستوى القانون وقوته( ) ، وبعضها يصدرها كسلطة تأسيسية مشتقة( ) .
نخلص من ذلك إن الاستناد إلى التفويض الاعلامي للحكومة العراقية من مجلس النواب لا يكون سنداً دستورياً سليماً لإلغاء ما قررته القوانين ذوات العلاقة من رواتب ومخصصات الخدمة الجامعية وبقية فئات الموظفين، ويكون بالتالي عمل الحكومة مخالفاً للقانون وللدستور.
وأخيراً قد يقال بأن قانون رواتب موظفي الدولة والقطاع العام رقم (22) لسنة 2008، قد منح لمجلس الوزراء صلاحية تعديل الرواتب المنصوص عليها في القانون استناداً للمادة (3/ثانياً). على إن هذا القول غير دقيق وذلك لأن المادة المذكورة تنص على (لمجلس الوزراء تعديل مبالغ الرواتب المنصوص عليها في جدول الرواتب الملحق بهذا القانون في ضوء ارتفاع نسبة التضخم لتقليل تأثيرها على المستوى المعيشي العام للموظفين.).
ونص المادة غاية في الوضوح بان لمجلس الوزراء صلاحية تعديل الرواتب في الأحوال التي يكون هناك تضخم في اسعار السوق مع بقاء الرواتب على حالها لذلك يستخدم مجلس الوزراء هذه الصلاحية فيقوم بزيادة مبالغ الرواتب وليس تقليل مقدار الرواتب، وهو ما عمد إليه مجلس الوزراء في الولاية السابقة حينما أصدر قراره المرقم (352) في عام 2013( ). إذن فالحالة معكوسة تماماً في ظل هذا الكلام المتقدم. وبالتالي فاذا أصدر مجلس الوزراء الحالي نظامه استناداً إلى هذه المادة فان قراره سيكون مخالفاً مخالفة صريحة لقانون رواتب موظفي الدولة وخصوصاً المادة (3/ثانياً) منه ويكون قابلاً للطعن به، بوصفه قرار إداري، أمام الجهات القضائية المختصة لمخالفته المشروعية القانونية. فعلى مجلس الوزراء إذا استند الى هذه المادة القانونية أن يزيد من الرواتب لا أن ينتقص منها.
المأمول من مجلس الوزراء ورئيسه أن يدقق كثيراً قبل اتخاذ قرارات ارتجالية متسرعة لا تحقق المصلحة العامة بل تصيبها بالضرر، وأن يستند رئيس مجلس الوزراء إلى أناس ذوي خبرة واختصاص في القانون ولاسيما القانون العام، بحسبان ان القوانين التي تنظم المركز التنظيمي للموظف في العراق هي من أهم مفردات هذا القانون. وأن لا يركن إلى تلك الآراء التي تخالف القانون ولا تجد فيه سنداً فيكون قراره معيباً من الناحية القانونية ، فضلاً عن توابعه الاجتماعية والتي منها ان "حزمة الاصلاحات" أريد لها أن تطبق ابتداءً على موظفي الدولة ولاسيما اساتذة الجامعات ، بعد أن فشلت في أن تأخذ طريقها تجاه المفسدين الحقيقين ، فهل هؤلاء الاساتذة والعلماء هم أبواب الفساد الاداري والمالي في العراق، أم إنهم قناديل العلم يستضيء بها كل من يسلك طريق العلم ؟؟؟؟