ان الوضع الجديد يتطلب طرح العواطف والتزمت المبدئي والمواقف الفوقية المستعجلة بعيدا، والتركيز فورا وبلا تأخير على متطلبات حفظ مصالح البلدين بحيث لا يشكل كل منهما تهديدا غير مقصود للآخر، وعدم ربط مصالحهما ببعضها بشكل صارم الى درجة تجعل أي تهديد لمصالح طهران يعني بالضرورة والتلازم تهديد مصالح بغداد
توجد قاعدة في العلاقات الدولية تقول: ان الدول تحكمها المصالح لا المبادئ. وهذه القاعدة صحيحة الى حد بعيد، فالإيمان بالمبادئ، والعمل وفقا لما تمليه من متطلبات على الافراد والمؤسسات والقرارات يحصل-غالبا- داخل الدولة، ومن الخطأ محاولة فرضها على الدول الأخرى التي لكل منها مبادئها الخاصة، ومن يفعل ذلك يوصف تصرفه بالعدائية وانه تدخل سافر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وربما تقود مثل هذه التصرفات-أحيانا- الى وصول الدول الى الحرب المباشرة فيما بينها.
ان المصالح وحدها هي ما يجب ان توجه بوصلة العلاقات العراقية-الإيرانية في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها البلدان نتيجة التطورات الإقليمية المترتبة على تداعيات حرب غزة، ووصول ترامب الى البيت الأبيض. وعليه، ينبغي ان لا تنساق السياسة الخارجية العراقية وراء بعض الدعوات المطالبة بقطع العلاقات مع طهران، وتجاهل مصالحها ودورها الإقليمي، اذ لا يمكن لبغداد القيام بذلك مع جار تربطها به حدود مشتركة طويلة تمتد لأكثر من 1400 كم، إضافة الى روابط الثقافة والدين والتاريخ والمصالح الاقتصادية المتبادلة، فالتجربة التاريخية اثبتت ان كل سياسة عدائية بين العراق وإيران تنتهي الى تهديد أمنهما واستقرارهما المشترك، هذا من جانب. ومن جانب آخر، لا يمكن-أيضا- غض النظر عن المخاطر المحتملة التي تواجه البلدين، نتيجة تغيير موازين القوى في المنطقة بالضد من محور إيران وحلفائها، ومجيء إدارة أمريكية معادية لطهران تتوعدها وانصارها بالويل إذا لم تستجب لمطالبها، مما يعني الدخول في مرحلة متوترة من العلاقات الامريكية-الإيرانية ستترك بلا شك تداعياتها على دول المنطقة، وفي مقدمتها العراق.
وفي ظل هذا الواقع من الخطأ لقادة البلدين عدم اجراء مراجعة شاملة لعلاقاتهما وقواعد العمل التي تربطهما ببعضهما، فالاستمرار بنفس نمط العلاقات والقواعد التي سبقت حرب غزة ينطوي على قِصر نظر كبير للغاية ربما تكون نتيجته خسارة طهران لبغداد كما خسرت دمشق مؤخرا، وبذلك تكون قد خسرت أفضل وأهم اصدقائها، بل وعمقها الاستراتيجي الإقليمي الذي يحفظ أمنها واستقرارها.
ان الوضع الجديد يتطلب طرح العواطف والتزمت المبدئي والمواقف الفوقية المستعجلة بعيدا، والتركيز فورا وبلا تأخير على متطلبات حفظ مصالح البلدين بحيث لا يشكل كل منهما تهديدا غير مقصود للآخر، وعدم ربط مصالحهما ببعضها بشكل صارم الى درجة تجعل أي تهديد لمصالح طهران يعني بالضرورة والتلازم تهديد مصالح بغداد، وإدراك حقيقة مهمة هي ان وجود عراق قوي ومستقر وقادر على حماية مصالحه مرتبط بعلاقة صداقة وتعاون مع إيران سيعود بالنفع على الأخيرة حتى لو تعرضت مصالحها وأمنها للتهديد من واشنطن وحلفائها.
وإدراك هذا الامر يقتضي تشكيل لجان مشتركة لتنظيم علاقات ومواقف وخيارات البلدين يشرف عليها قادة وخبراء استراتيجيون، ويبُعد من التأثير عليها المثاليين والارتجاليين وقصيري النظر من الساسة والقادة، ففي المواقف الصعبة على الدول ان تسلم امرها الى أفضل خبرائها وقادتها لإيصالها الى بر الأمان، وبخلاف ذلك تكون كل خطوة تخطوها الى الامام، او قرار او موقف تتخذه ما هو الا تعجيل بوصولها الى الهاوية.
ان مصالح العراق في المرحلة القادمة ستواجه الخطر نتيجة مواقف واشنطن وحلفائها اتجاه طهران في أربع ملفات مهمة، هي:
- الفصائل المسلحة العراقية: أي تلك التنظيمات العسكرية المرتبطة بطهران والتي ترفض العمل ضمن منظومة الامن والدفاع العراقية، كما ترفض طاعة سلسلة القيادة والسيطرة فيها.
- الطاقة والاقتصاد: وهو من أخطر الملفات التي ستترك تداعياتها المؤثرة على بغداد نتيجة العقوبات الاقتصادية الامريكية المتوقعة على طهران.
- الانتخابات العراقية القادمة: فكما هو معروف سيجري العراق انتخاباته البرلمانية الاتحادية أواخر هذه السنة، ومن المحتمل جدا ان تدفع الصراعات الناجمة عنها بين القوى السياسية الى محاولة بعضها الاستعانة بدعم طهران لفرض نفسها بالقوة على خصومها السياسيين، وهذا التصرف سيجر في حال الاستجابة له من قبل طهران الى التدخل الخارجي في الشأن الداخلي العراقي من أطراف إقليمية ودولية مختلفة.
- سياسة العراق الخارجية: فالوضع الجديد ربما يتطلب تعديلا ما في بوصلة العلاقات والمواقف المتخذة من قبل السياسة الخارجية العراقية، بما يتناسب مع المتغيرات الإقليمية والدولية، وهذا الامر قد يفسره البعض داخل إيران او من بعض اصدقائها داخل العراق على انه عداء لطهران او تهديد لمصالحها، فيحاول الضغط على الحكومة العراقية لتقييد وتحديد خياراتها الخارجية.
اما إيران من جانبها فقطعا ستواجه -أيضا- تهديدا لمصالحها في ملفات عديدة، مثل: الملف النووي، ملف الصواريخ الباليستية وبرامج التسليح التقليدية المتقدمة، الملف الاقتصادي، وملف السياسة الخارجية الإقليمية والدولية... الخ.
وهذا التهديد لمصالح البلدين، يقتضي دراسته بتأني من قبل اللجان المشتركة المقترحة في أعلاه، على ان يقوم كل طرف بتفهم حاجات الطرف الاخر في تذليل العقبات التي تهدد مصالحه، وان لا ينظر كل لطرف لمصالح الطرف الاخر من منظار مصالحه الخاصة، او من منظار مبادئه المعلنة. فعمل بغداد على حماية مصالح طهران لا يعني التضحية بمصالحها لحساب الأخيرة، والعكس صحيح. كما لا يعني احتمال تعرض طهران لسيناريو الحرب او الضربة العسكرية من قبل اعدائها بالضرورة تعرض بغداد لمثل هذا السيناريو، والعكس صحيح أيضا. ولذا على حكومتي البلدين القيام بخطوات جادة وحكيمة لتعزيز التعاون المشترك بينهما، بما يحفظ لكل دولة مصالحها الخاصة، وسيكون لهذا التعاون نتائجه الإيجابية على الطرفين.
اضافةتعليق