اذا لم تلتفت هذه القيادات والأحزاب لنفسها، وتصحح أخطاء من سبقها، وتدرك حجمها ودورها في إيصال بلدها وشعبها الى شاطئ الأمان، فإنها تضع ديمقراطيتها الهشة امام خيارين وخيمي العواقب: اما فوضى سياسية مدمرة واما دكتاتورية جديدة حمقاء ومتطرفة
يعد الحديث عن الديمقراطية بدون أحزاب سياسية حديثا غير مستقيم ولا موضوعي، فالأحزاب السياسية ركيزة أساسية من ركائز الديمقراطية، وبدونها لن يكون للحكم الديمقراطي وجودا حقيقيا، بل ان دورها فاعل-أيضا- في ترسيخ المسار الديمقراطية لأي دولة، وقيادة عملية التحول من مرحلة التفرد والاستبداد بالسلطة الى مرحلة المشاركة السياسية فيها، وبما يسمح للشعب بالتعبير عن خياراته في التصويت لصالح الحزب او الجهة الأقرب لتحقيق مصالحه.
ويبرز الدور الإيجابي للأحزاب عند قبولها الحاسم بالديمقراطية كنظام حكم ونظام حياة، وعدم انقلابها على نتائج الخيار الديمقراطي المعبر عنها بالانتخابات سواء ربح فيها الحزب ام خسر، طالما ان الانتخابات جرت بطريقة نزيهة وشفافة، وتمت في ظل تصويت شعبي حر تتساوى فيه فرص الأحزاب المتنافسة بصرف النظر عن وجودها داخل السلطة ام خارجها، مما يفضي الى تبادل سلمي للسلطة بين الأحزاب الرابحة والخاسرة.
فضلا على ما تقدم، للأحزاب أهمية لا غنى عنها في توطين منظومة القيم المدنية الديمقراطية، من خلال مساهمتها الفاعلة في نشر روح الحوار وتبادل الرأي والرأي الآخر عبر الفضاء الوطني، مما يشيع روح المواطنة المتساوية، ويكسر اسوار التخندقات الضيقة حول الولاءات الفكرية والاثنية المختلفة، وهذا بدوره يساعد على رفع مستوى الوعي المجتمعي بضرورة الاهتمام بالشأن العام، والمشاركة في القرارات التي تصب في مصلحة الوطن والمواطن، ناهيك عن التنبيه بالتهديدات والمخاطر التي قد تواجه المجتمع، وتتطلب تكاتف افراده للخلاص منها، ووضع تصورات رصينة فيما يتعلق بالمستقبل الأفضل الذي يصبو اليه الجميع، وما يتطلبه من سياسات واستراتيجيات وبرامج، وما يرتبط بها من قوانين وقرارات وتكييف في المؤسسات الدستورية.
وكل هذا البناء الديمقراطي للدولة والمجتمع يصبح مجرد سراب بدون أحزاب فاعلة وحياة حزبية سليمة، ولكن التجربة التاريخية للأحزاب تكشف انها لا تلعب دائما دورا إيجابيا في عملية التحول الديمقراطي، بل على العكس تلعب -أحيانا- دورا سلبيا للغاية في اجهاض تجربة الديمقراطية واسقاطها في حالة الفوضى السياسية او في فخ الانتكاس والتقهقر لمصلحة الاستبداد والحكم الشمولي، وذلك لأسباب عديدة، منها:
- عدم ايمان الأحزاب السياسية – كلها او بعضها- بالديمقراطية، وتشكيكها بجدواها، واتخاذها أحيانا غطاءً للوصول الى السلطة، ومن ثم الانقلاب عليها وتصفية مظاهرها لمصلحة حكم دكتاتوري مستبد، كما هو الحال مع الحزب الوطني الألماني (النازي) سنة 1934 حيث استغل الديمقراطية للوصول الى السلطة، وبعدها شرع في تشكيل أبشع حكم فردي استبدادي عرفه القرن العشرين.
- وجود أيدولوجيات حزبية متباعدة بشدة سواء الى اقصى اليمين ام الى اقصى اليسار، في ظل غياب شبه كامل للقيم المدنية التي تقرب فيما بينها، فالقيم في هذه الحال تلعب دور السمنت الذي يشد الأحزاب الى بعضها ويمنع تباعدها وتصارعها وتهديمها للبناء الديمقراطي، ومع وجود الأيديولوجيات المتباعدة وغياب القيم الرابطة تختفي التنافسية الإيجابية بين الأحزاب، وتحل محلها التصارعية السلبية، فتتجاهل الأحزاب دورها كفلاتر سياسية لتنقية وتطوير الأفكار والمواقف في الحياة السياسية لتتبنى دور المليشيات العسكرية التي يقاتل بعضها البعض طمعا بالسلطة والثروة والنفوذ.
- ذوبان وتلاشي المصلحة العامة في الحياة الحزبية، وتغول المصالح الخاصة الفردية والفئوية والحزبية، وعندها لا يكون هدف الحزب السياسي تحقيق مصلحة وطنه ومواطنيه وانما تحقيق مصلحة حزبه ومناصريه، فتتراجع قيم النزاهة والأمانة والكفاءة والحوار وقبول الرأي الاخر وغيرها لتحل محلها قيم المحسوبية والانتهازية والولاء والتطرف وتسقيط الخصوم بمختلف الحجج...فيكون ثمن ذلك هو تدمير منظومة القيم الديمقراطية، وغياب الشعور بالمواطنة.
- عدم احترام سيادة القانون، واتخاذه لعبة بيد الأحزاب المتنفذة توجهه وفقا لما تقتضيه مصالحها، فتصبح مقولة الناس سواسية امام القانون فكرة جوفاء غير قابلة للتطبيق الا على الفئات الهشة والضعيفة من المجتمع، وهذا الامر سيترك تأثيراته الخطيرة في اضعاف دور المؤسسات الدستورية، وفقدان ثقة الناس بها، وتجاهل احترام حقوقهم وحرياتهم.
- تحول السلطة من اداة تطلبها الأحزاب لتطبيق برنامجها السياسي واثبات ارجحيته على غيره من البرامج الى هدف بحد ذاته، اذ يطمح كل حزب في السيطرة عليها لتوظيفها في تهميش او تصفية معارضيه، بصرف النظر عن الوسيلة، وهذه العقلية بحد ذاتها تدفع الأحزاب الى تجاهل دور صندوق الاقتراع في الوصول الى السلطة، وتستعيض عنه بمدفع الرشاش، مما يخلق الفوضى السياسية تارة، والانقلابات العسكرية الدموية تارة أخرى.
مشكلة الحياة الحزبية في العراق
بدت الحياة الحزبية في العراق واعدة وعقدت عليها الآمال بعد تأسيس دولته الحديثة سنة 1921، اذ ظهرت الكثير من المنتديات والصالونات السياسية كنادي المثنى وجماعة الأهالي، كما ظهر عدد من الأحزاب السياسية المعتدلة كالحزب الوطني الديمقراطي... وكان هناك تداول سلمي مسيطر عليه للسلطة، ولكن الديمقراطية العراقية التي احتضنت هذه الأحزاب والفعاليات السياسية كانت هشة قيميا ومؤسساتيا، بسبب أخطاء كثيرة ارتكبتها السلطة الحاكمة، ونتيجة التدخلات الخارجية السيئة، فضلا عن غياب منظومة القيم المدنية الرابطة... فكانت النتيجة ان الأحزاب العراقية لم تستطع لعب دورها الإيجابي في تطوير وترسيخ الحياة الديمقراطية في بلدها، بل على العكس كان دورها سلبيا للغاية، ولذا لا عجب ان يجري اول انقلاب عسكري في المنطقة العربية في العراق سنة 1936 بتواطئ بعض القيادات السياسية مع الفريق بكر صدقي قائد الفرقة الثانية في الجيش وعدد من زملائه العسكريين.
لقد عجزت أحزاب العهد الملكي عن إبقاء العلاقة بينها محصورة في حدود التنافس الحزبي الإيجابي وفقا لما تقتضيه روح الديمقراطية، فاخذت تدريجيا تتوسل بالاستقواء بالعسكر للوصول الى السلطة والبقاء فيها، وحبذت كثيرا الحلول السريعة (الانقلابات العسكرية) على طاولة الحوار والتفاهمات السياسية (السبل الديمقراطية)، وهذه العقلية قصيرة النظر جعلتها تختط لنفسها مسارا معوجا اوصلها الى اسقاط النظام الملكي برمته سنة 1958 على يد الزعيم الركن عبد الكريم قاسم ورفاقه في تنظيم الضباط الاحرار.
ولم يحاول من جاء بعد العهد الملكي الحفاظ على افضل مكتسباته وهو وجود الديمقراطية، فالأخيرة على عللها ومثالبها كان ينبغي النظر اليها كمكسب ثمين لنظام الحكم في العراق يتوجب رعايته وصونه وبث الروح فيه، الا ان الشيء المؤسف هو ان العهد الجديد ضحى بهذا المكسب مع الاستمرار بنفس العقلية التي عصفت بنظام الحكم السابق ، وزاد الطين بلة بروز وتطور دور الأحزاب التي تحمل أيدولوجيات شمولية متصارعة ومتقاطعة بشدة فيما بينها كالشيوعية والقومية والإسلامية، وتآمرها بعضها على البعض الآخر مستقوية بولاءات خارجية تارة، ام بالعسكر تارة أخرى، ام بالسلطة وادواتها الاكراهية تارة ثالثة...
وفي ظل هذه الأجواء ضعف احترام القانون والمؤسسات الدستورية، واهتزت الثقة بين السلطة والشعب، وجزرت القيم المدنية الحضارية فيما تمددت قيم المحسوبية والولاء والتطرف والتفرد والتركيز على المصالح الضيقة، ولذا لا غرابة ان تعصف بالبلد سلسلة متتالية من الانقلابات العسكرية الدموية، وتمتلئ السجون بعشرات الالاف من السجناء السياسيين وغير السياسيين، وتسود الحياة السياسية ثقافة التآمر بين طلاب السلطة، فيما يتم التضحية بالمبادئ والايديولوجيات على مذبح الطموحات السياسية...وقد بلغ هذا الانحدار الحزبي ذروته بعد انقلاب البعث في تموز سنة 1968، اذ يقال انه بعد هذا الانقلاب تم تسريح اكثر من ثلاثة الالاف ضابط عراقي بحجة التآمر او عدم تأييد الانقلاب مما جعل المؤسسة العسكرية تخسر خيرة كفاءاتها، كما تم زج اكثر من ثلاثمائة شاب بعثي في دورة ضباط سريعة مدتها ثلاثة اشهر من اجل توزيعهم على الوحدات العسكرية كمسؤولين للتنظيم الحزبي البعثي في هذا الوحدات، مما جعل كبار ضباطها يخضعون للمراقبة وتوجيه الأوامر لهم من هؤلاء الضباط المؤدلجين الصغار، ناهيك عن القرارات المدمرة الخارجية والداخلية التي اتخذها نظام البعث الشمولي، لاسيما في حقبة صدام حسين كقرارات: الحرب العراقية -الإيرانية، وغزو الكويت، والتهجير القسري، والمقابر الجماعية، والتصفية السياسية...وصولا الى حرب الخليج الثالثة التي انتهت باحتلال العراق وتدمير ما تبقى من قدراته على يد الأمريكان وحلفائهم سنة 2003.
وبعد الغزو الأمريكي انطلقت مرحلة سياسية جديدة في تاريخ العراق تشبه كثيرا مرحلة العهد الملكي (1921-1958) من حيث وجود ديمقراطية هشة تحتاج الى من يرعاها ليقوى عودها: قيميا ومؤسساتيا، ولتتطور وتترسخ كتجربة عراقية ناجحة في الحكم الديمقراطي السليم، ولكن الشيء المؤسف هو ان عقلية القيادات والأحزاب السياسية لا زالت تحمل الكثير من سلبيات الحياة الحزبية التي سادت في العهدين الملكي والجمهوري السابقين، واذا لم تلتفت هذه القيادات والأحزاب لنفسها، وتصحح أخطاء من سبقها، وتدرك حجمها ودورها في إيصال بلدها وشعبها الى شاطئ الأمان، فإنها تضع ديمقراطيتها الهشة امام خيارين وخيمي العواقب: اما فوضى سياسية مدمرة واما دكتاتورية جديدة حمقاء ومتطرفة.
اضافةتعليق