جرى العرف في البلدان الديمقراطية طرح المرشحين لبرامجهم الانتخابية للجمهور للتعريف بتوجهات الاحزاب السياسية والملامح المتوقعة لشكل الحكومات المستقبلية. وفي العادة تختلف مناهج وبرامج الاحزاب السياسية باختلاف المبادئ والتوجهات والعدسات التي ينظر بها كل حزب للمشاكل والتحديات القائمة وايضا للأدوات والسياسات الناجعة للتغلب على تلك التحديات. ففي الولايات المتحدة الامريكية كانت توجهات الحزب الديمقراطي في توجيه السياسات الحكومية نحو الداخل والتركيز على اصلاح نظام الرعاية الصحية وامتصاص البطالة ورفع المستوى المعيشي للأفراد والحد من التلوث الصناعي وتحسين المناخ، فضلا على تضمين سياسات رقابة حكومية في بنية نظام السوق تضمن استقرار الاقتصاد وتامين النمو الاقتصادي المستدام. في حين ركزت سياسات الحزب الجمهوري على تفعيل السياسة الخارجية لضمان السيادة العالمية للولايات المتحدة وتفعيل سياسات مكافحة التضخم والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد ومنح السوق المزيد من الحرية والدعم فضلاً على خفض معدلات الضرائب على الاعمال.
وبالفعل يلتزم كل حزب، حال فوزه، بالبرامج الاقتصادية المعلنة بشكل كبير، وتترجم تلك البرامج الى السياسات لتحقيق الاهداف المثبتة والمعلنة سلفا. ويفصح التاريخ الاقتصادي للولايات المتحدة عن تلك الحقيقة بوضوح، حتى كادت الاهداف الاقتصادية لتلك الاحزاب تكرر باستمرار مع تباين الادوات والسياسات وبما يلائم تحديات المرحلة.
برامج الموسم الانتخابي في العراق
يعيش العراق هذه الايام موسما انتخابيا ساخن بسبب ظروف وتحديات المرحلة الامنية والسياسية والاقتصادية، فلا زالت كوابيس الانهيار الامني في حزيران 2014 تطارد سكان المحافظات التي تعرضت لاحتلال داعش، وتسببت بتهجير وافقار الملايين منهم. في حين يشكل ملف ضعف الخدمات هاجسا يؤرق كل العراقيين نظرا لضخامة الثروات التي تدفقت على العراق خلال السنوات الماضية وضعف المنجز المتحقق على مستوى الحكومة المركزية او الحكومات المحلية، اما ملف الفساد المالي والاداري فقد استفحل وتسلل لمعظم الحلقات الادارية في المؤسسات الحكومية وباعتراف الحكومة ذاتها.
تثير تلك التحديات وغيرها حيرة وتوجس الشعب العراقي بمختلف الوانه واطيافه واعراقه، في الانخراط مجددا في العملية الانتخابية وما ستفرزه من وجوه جديدة تخفي خلفها ذات الوجوه والتوجهات القديمة للأحزاب المهيمنة على السلطة منذ العام 2004. خصوصا مع ترويج تلك الاحزاب والتيارات لبرامج انتخابية وردية لأجل الاستحواذ على اصوات البسطاء والمتفائلين بالأداء السياسي المستقبلي وامكانية تحقيق المعجزات الاقتصادية على يد النخب الصاعدة.
في سياق ذلك، ينبغي تحليل وتمحيص أبرز البرامج الاقتصادية التي تبنتها الاحزاب السياسية في العراق في حملات الترويج والتثقيف الانتخابي خلال الاسابيع القليلة الماضية، والتحقق من مدى امكانية تحقيق الوعود المقطوعة، وكما يلي:
1- توفير فرص جديدة للعاطلين عن العمل
يتصدر توفير فرص جديدة للعمل قائمة الوعود الانتخابية في كل دورة انتخابية (نيابية او محلية) نظرا لاتساع ظاهرة البطالة في العراق وضعف اليات السوق عن امتصاص الفائض من الايدي العاملة وبمختلف التخصصات والمهارات. ومن المعروف للمختصين وصناع القرار استحالة الايفاء بهذه الوعود ولعدة اسباب منها ضخامة عدد الموظفين لدى الحكومة وبما يفوق الطاقة الاستيعابية بأضعاف، وايضا عدم وجود تخصيصات بالموازنة لدرجات وظيفية جديدة، وان وجدت فالأفضلية لتثبيت اصحاب العقود. فضلا عن التزام العراق باتفاقات مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بإيقاف التوظيف في المؤسسات الحكومية.
2- توفير سكن لكل مواطن
لا يزال تامين السكن الملائم مشكلة تواجه جزء كبير من السكان في العراق نظرا لارتفاع اسعار العقارات والاراضي والتكاليف العالية لتشييد الدور والمساكن. وقد روجت بعض القوائم الانتخابية بإمكانية بناء وحدات سكنية تغطي حاجة الشعب العراقي، او على الاقل منح قطع اراضي وقروض اسكان للموظفين لأجل بناء الدور والمساكن. وفي الحقيقة لا يملك العراق القدرة المالية او الفنية على انشاء مجمعات سكنية جديدة. وقد عانت معظم المجمعات السكنية التي انجزت من لدن الحكومة سابقا من طول مدة الانجاز وضعف جودة التشييد فضلا على قلتها بالمقارنة مع الحاجة الفعلية. من جانب اخر، لن تتمكن الحكومة القادمة من توزيع قطع اراضي على الجمهور، كما يعد عدد كبير من المرشحين في كل موسم، نظرا لارتباط ذلك بتامين البنية التحتية والخدمات اللازمة لهذه الاحياء وهو ما تعجز الحكومة عن تحقيقه، بالإمكانات الحالية، للمدن والأحياء المقامة فعلاً.
3- النهوض بمستوى الخدمات
لم تشهد البلدان النفطية كافة ما شهده العراق خلال الـ (15) عام الماضية من مفارقة في الوفرة المالية، فعلى الرغم من توفر الامكانات المالية الضخمة واتساع القدرة المالية للحكومة في تلبية متطلبات التنمية والاعمار، اخفقت الحكومات السابقة في توفير الحدود الدنيا من الخدمات العامة، فلا يزال ملف الطاقة الكهربائية هاجسا يؤرق العراقيين كافة، خصوصا مع اقتراب مواسم الصيف. اما المدارس والمستشفيات والمراكز الصحية فهي في تدهور مستمر كونها لا تناسب التزايد السكاني الحاصل في العراق. ولا تختلف خدمات الماء والصرف الصحي والطرق العامة وغيرها من الخدمات كثيرا، فهي الاخرى في تدهور مستمر. وبالأرقام، وبحسب موازنة العام 2018 لا يملك العراق فرصة مالية جيدة لمعالجة تحدي الخدمات بالشكل الذي تروج له الاحزاب السياسية في برامجها الانتخابية لجذب الجمهور.
4- رفع المستوى المعيشي
لا يمكن انكار تحسن المستوى المعيشي لبعض فئات المجتمع (الموظفين بشكل خاص)، وهو امتياز لا يحسب اطلاقا الى الحكومات السابقة بل هو نتيجة لتحسن اسعار النفط وتدفق الايرادات النفطية بما يفوق النفقات الاساسية للحكومة. وهذا حق كافة شعوب البلدان النفطية (دول الخليج على سبيل المثال)، كون النفط هو ملك الشعب وتوزيع إيراداته بعدالة على الجمهور مهمة تقع على عاتق الحكومة. مع ذلك، لم تنجح الحكومات السابقة في ايصال الريع النفطي لكافة فئات المجتمع رغم اعتماد بعض البرامج (كالضمان الاجتماعي وشبكة الحماية الاجتماعية وغيرها)، نظرا لما تخلل تلك البرامج من شبهات فساد ومحسوبية افرغتها من محتواها وقوضت الاهداف الاجتماعية من انشائها.
5- محاربة الفساد والمحسوبية
لم يعد سرا تسلل الفساد المالي والاداري والمحسوبية الى معظم المؤسسات الحكومية، وقد دأبت الحكومات السابقة على استحداث هيئات وجهات رقابية للحد من هذه الظاهرة مثل هيئة النزاهة ومكتب المفتش العام. لكن ما حدث هو انخراط هذه الهيئات ضمن موجة الفساد المتفشية في البلد. ويبدو ان هناك خيوطا تحرك ملف الفساد بالشكل الذي يوجه الاحداث، بعيدا عن المصلحة العامة.
متطلبات المرحلة القادمة
تزيد التحديات السياسية والامنية وتقلبات اسعار النفط من عمق الاختلالات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد العراقي منذ عقود. ولا توجد وصفة سحرية قادرة على امتصاص واستيعاب تلك التحديات والاختلالات في الامد القصير، وانما يتطلب ذلك منظومة خطط استراتيجية مرحلية تستوعب كافة المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البلد بالاستفادة من الموارد المتاحة والتعافي المستمر في اسعار النفط وعودة الامن والاستقرار في معظم انحاء البلد. لذا يمكن للحكومة القادمة البدء بما هو موجود فعلا من نحو تفعيل السياسات التي توصلت لها الجان المتنوعة والمشكلة في مجلس الوزراء ولكافة القطاعات الاقتصادية. واعادة صياغة المنهج الاقتصادي للبلد ضمن خطط استراتيجية مرحلية تنتهي ببلوغ الاهداف الاقتصادية العليا والمتمثلة بالقضاء على البطالة وتنشيط القطاع الخاص ورفع المستوى المعيشي وتحقيق التنمية والاستقرار الاقتصادي. من جانب اخر، لا بد من اعادة النظر في القطاع العام المتعثر عبر زجه في شراكات مع القطاع الخاص بدلاً من تصفيته بالكامل كما تدعوا لذلك بعض الاطراف. ويمكن لمجلس اقتصادي اعلى يُؤسس من لدن رئاسة الوزراء القيام بهذه المهمة، على ان تكون قراراته مُلزمة وغير قابلة للنقض والتعديل من لدن مجلس النواب لتجنب تكرار المشهد السابق بين الحكومة والبرلمان.