تبقى عملية إقرار الموازنة العراقية العامة محاصرة بين طبيعة التجربة البرلمانية العراقية "المتعثرة" وإرادة القوى والأحزاب السياسية، التي لم تصل بعد إلى الوعي السياسي وفكرة بناء الدولة، بقدر ما تطمح إلى تحقيق مكاسبها (السياسية والمالية)، ولعل العرف السياسي الذي اعتمدته القوى السياسية على مستوى العقديين الماضيين، سيكون عامل اجهاض لكل عملية تغيير أو تقويم لهذه التجربة
تُعَّرف الموازنة العامة للدولة: "بأنَّها خطة مالية لفترة زمنية محددة توضح أطر لسير العمل خلال هذ المدة من خلال المبالغ المخصصة لهذا العمل، فهي تعتمد على تقديرات ماليّة يتم وضعها من قبل خبراء لتوقع الإيرادات التي سيتم تحصيلها خلال هذه الفترة بالإضافة إلى النفقات المقدر تكبدها خلال نفس الفترة، مما يسمح لأصحاب القرار معرفة ما إذا كانوا سيتمكنون من مواصلة العمل بالمستوى المتوقع لهم مع هذه الإيرادات والمصروفات المتوقعة". وعادة ما تخضع الموازنة العامة لحسابات وطنية ومصالح قومية عليا، لكونها تتعلق بعمل الحكومة المالي والاقتصادي؛ الأمر الذي من شأنه أن يؤثر على عملية الاستقرار العام في الدولة.
في العراق بعد عام 2003، دائماً ما كانت عملية إقرار الموازنة العامة، تمثل مرحلة مفصلية في طريقة إدارة التفاوض وتوزيع الحصص بين القوى السياسية العراقية المتخاصمة، وكأن بداية إقرار كل موازنة، هي مرحلة منفصلة عن سابقتها، إذ تتهيأ كل القوى والأحزاب السياسية على إدارتها بالشكل الذي يضمن مكاسبها المالية وصفقاتها، وتعدها فرصة كبيرة لفرض إرادتها وإعادة دمج نفسها في العملية الديموقراطية والنظام السياسي من جديد، وذلك من خلال فرض رغباتها المالية والاقتصادية والسياسية في الموازنة العامة، أو المقاطعة السياسية، كما يحصل بين المركز والإقليم، في عملية إقرار موازنات العراقية بالمجمل.
إنَّ عملية إقرار الموازنة، يمثل الهاجس الأكبر لدى الحكومات في تحديد عملها لمدة سنة كاملة، بما تزيد من فرص نجاحها وإعادة الثقة بها مرة أخرى، من خلال تصور الإيرادات والنفقات المتوقع تحصيلها وتكبدها خلال هذه السنة، أو لمعرفة الوضع المالي للدولة، وتوجهات هذه الدولة خلال هذه الفترة سواءً لفرض رسوم وضرائب أو لتقليل النفقات في حالة عجز الموازنة أو لزيادة الانفاق وتحسين سبل العيش في حالة وجود فائض في الموازنة. إذ تمثل الموازنات العامة رئة الحكومات الوطنية وعامل استقرار سياسي واقتصادي لكل دول العالم وفرصة كبيرة لزيادة ثقة المجتمع بالحكومات، ولاسيما اذا ما بُنيت على اسس صحيحة وتقديرات واقعية – وطنية، بعيداً عن المزاجات والمزيدات السياسية في السلطتين (التشريعية و التنفيذية). فما نعرفه ويعرفه العالم عن الموازنة العامة بأنها تصاغ في الدول الناجحة والمتقدمة على أسس وطنية ومصالح قومية عليا، سواء ما يتعلق منها بمشاريع التنمية ذات الطابع الوطني مثل (الكهرباء والماء والتعليم والصحة والطرق وغيرها)، او ما يتعلق بالاستثمار والانفاق الحكومي، بمعنى أنها تمتد على مستوى البلد وتخطط لها الحكومة وتنفذ على الأرض، برؤية حكومية مركزية متخصصة، بغض النظر عن شكل الدولة، هل هي بسيطة أم مركبة أو دولة ذات نظام فيدرالي أو كونفدرالي.
في العراق بعد عام 2003 كل شيء يخضع للتسيس ورشوة المجتمع، وأن إقرار الموازنة العامة لا يخضع إلى أسس اقتصادية – وطنية واقعية، بقدر ما يخضع لرغبات القوى السياسية ورشوة المجتمع وتسيسه، سواء من خلال التعينات وزيادة الانفاق الحكومي، أو من خلال الترويج الانتخابي وشراء ذمم المواطنين. ولعل طبيعة النظام السياسي في العراق وآليات إدارته، أسهمت بشكل خطير في إدارة عمليات الفساد وغسيل الأموال وطبيعة إقرار الموازنات العامة، وكانت الحجر الاساس لكل التعثرات السياسية وحالات عدم الاستقرار السياسي على مدار العقدين الماضيين.
التجربة البرلمانية العراقية وطبيعة إقرار الموازنة
يُعد النظام البرلماني أحد أشكال أنظمة الحكم الديمقراطية التعددية، ويقوم على التداخل بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ويتسم بفصل غير محدد بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، تشوبه بعض العيوب، إلا أن "بعضها" يتم تجاوزها من خلال التجربة العملية، فالكثير من الدول التي اخذت بهذا النظام، طورت تجربتها البرلمانية. ويمثل البرلمان أو مجلس النواب في هذا النظام "بشكل بسيط" الجهة التشريعية والرقابية، إذ يقوم بتشريع القوانين ومراقبة الحكومة. فعلى مدار العشرين سنة الماضية أو الدورات البرلمانية الخمسة في العراق، لم نجد دورة تشريعية "برلمانية" استطاعت أن تؤدي مهامها التشريعية بعيداً عن دكتاتورية زعماء الكتل السياسية، أو أن تتمكن من تشكيل حكومة بعيداً عن الإملاءات والمعادلات الخارجية، أو أن تتمكن "على أقل التقادير" من رأب حالة التصدع المجتمعي وتعزيز ثقة المجتمع بالسلطة التشريعية. لينتج لنا البرلمان العراقي في دورته الخامسة، اعضاء برلمان لا يجيدون القراءة بشكل صحيح، وأن قراءتهم المغلوطة وطريقة التهجي، التي شوهدت في عملية إقرار الموازنة، اعطتنا صورة واضحة عن هشاشة هذا النظام وطبيعته الصورية، وطريقة اخضاعه لسلطة الإملاءات الخارجية ودكتاتورية زعماء الكتل، وحالة التدني التي وصل لها هذا النظام، وما تفرزه الانتخابات من رثاثة تشريعية. فلم يكن البرلمان العراقي "بيت الشعب" طيلة العشرين سنة الماضية، بل كان منبراً للصراع السياسي الحزبي والمذهبي والقومي، وقد تجلى الصراع بكل صوره الماضية في الدورة الحالية، ولاسيما في جلسات إقرار الموازنة وتغيير قانون الانتخابات، ولعل آليات تمرير الموازنة كشف بالدليل عن العقم السياسي في التجربة البرلمانية وطبيعة النظام الاتحادي وعلاقة المركز بالإقليم، (نعم) المشكلة الاساسية ربما لا تكمن في النظام البرلماني بقدر ما تكمن في القوى السياسية، إلا أن اجتماع الاثنين معاً (التجربة البرلمانية والاحزاب السياسية الهشة) زاد من حجم الكارثة، وسيقود العراق حتماً إلى كوارث (سياسية واقتصادية وأمنية ومجتمعية). فالموازنات العراقية عبارة عن صفقات سياسية بين القوى والاحزاب الماسكة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، تبدأ من وزارة التخطيط ثم إلى وزارة المالية ومن ثم إلى مجلس الوزراء واللجنة المالية وتنتهي بالتصويت في السلطة التشريعية، وأن كل دائرة من هذه الدوائر تحصل على مغانمها المالية من الموازنة بآليات معينة، مرة من خلال تضمن بعض الفقرات ومرة في الحديث عن اطفاء سلف بمليارات الدولارات. فعلى الرغم من أن مجلس النواب ليس من صلاحيته اجراء تعديلات في قانون الموازنة العامة، إلا أنه يقوم بإعادة صياغة مسودة الموازنة كما يشاء ليضَّمن فيها رغبات زعماء الكتل السياسية وإرضاء الكتل الآخرى، فمجلس النواب يمتلك ثلاث صلاحيات بموجب الدستور في هذا الجانب، اجراء مناقلات، أو خفض الانفاق أو اقتراح رفع الانفاق. ما حدث للموازنة في مجلس النواب، ربما أُعيد تصميمها بالكامل من قبل اللجنة المالية ومن ثم بالتعديل أو الاضافة في مجلس النواب. فمثلا في المادة 62 نجدها تعطي الصلاحية لرئيس الوزراء في إضافة تخصيصات مالية لسد النقص الحاصل في حساب تعويضات الموظفين ومستلزمات الكهرباء ومفردات البطاقة التموينية والحنطة والمشاريع الاستثمارية وغيرها، باقتراح من وزير المالية والتخطيط الاتحادي. وهنا يجب أن نضع خطين تحت مفردة (غيرها) إذ نجدها جعلت الباب مفتوح في آلية الصرف، وعليه من الممكن أن تكون هناك اجتهادات شخصية ورغبات سياسية تقف خلف هذه التخصيصات وتبويبها ضمن هذا العنوان "غيرها". وهذا ما يثير الكثير من علامات الاستفهام حول الموازنة العامة وطبيعة إقرارها، بالشكل الذي يجعلنا نقول بأن هناك موازنة داخل الموازنة. فضلاً عن طبيعة الموازنة بشكل عام وآليات التضمين المالي التي تم حشرها من قبل القوى السياسية.
بالمجمل، تبقى عملية إقرار الموازنة العراقية العامة محاصرة بين طبيعة التجربة البرلمانية العراقية "المتعثرة" وإرادة القوى والأحزاب السياسية، التي لم تصل بعد إلى الوعي السياسي وفكرة بناء الدولة، بقدر ما تطمح إلى تحقيق مكاسبها (السياسية والمالية)، ولعل العرف السياسي الذي اعتمدته القوى السياسية على مستوى العقديين الماضيين، سيكون عامل اجهاض لكل عملية تغيير أو تقويم لهذه التجربة، ولاسيما في ظل ما يحققه هذا النظام من مكاسب سياسية واقتصادية للفواعل المحلية والإقليمية والدولية.
اضافةتعليق