الموازنة والسوق في العراق: العلاقة والتأثير

هناك علاقة وثيقة بين الموازنة والاقتصاد، في أي بلد من بلدان العالم، تختلف هذه العلاقة من بلد لآخر ومن وقت لآخر حسب طبيعة النظام الاقتصادي.

ما طبيعة العلاقة بين الموازنة والاقتصاد بشكل عام؟

تختلف طبيعة العلاقة بين الموازنة والاقتصاد من حيث الاشباع، ففي الوقت الذي يسعى الاقتصاد لإشباع الحاجات المتزايدة بشكل عام، تسعى الموازنة لإشباع الحاجات العامة بشكل خاص، مما يعني انها علاقة جزء من كل.

ما طبيعة العلاقة بين الموازنة والنظام الاقتصادي؟

حيث تختلف العلاقة بين الموازنة والنظام الاقتصادي السائد، من حيث الاتجاه؛ فإذا ما كان نظام التخطيط سائداً ستكون العلاقة طردية، واذا كان نظام السوق سائداً ستكون العلاقة عكسية.

لان نظام التخطيط يعني هيمنة الدولة على الاقتصاد برمته، مما يتطلب ان تعمل الموازنة توفير واشباع حاجات الاقتصاد برمتها، أي تتجه الموازنة مع اتجاه نظام التخطيط.

بينما نظام السوق يعني ترك الاقتصاد للقطاع الخاص ليقوم بإشباع حاجات الاقتصاد، مما يقلل من تدخل الموازنة في الاقتصاد، أي تتجه الموازنة بعكس اتجاه نظام السوق.

ما طبيعة العلاقة بين الموازنة والنظام الاقتصادي في العراق؟

 اتجه العراق بعد 2003 نحو اقتصاد السوق، بمعنى انه غادر نظام التخطيط، وانسحاب الدولة من الاقتصاد، وتركت الاخير للقطاع الخاص، مما يُفترض أن يكون اتجاه الموازنة بعكس اتجاه السوق. فهل تحقق ذلك على ارض الواقع؟

حيث أعلن العراق في دستوره - دستور 2005 - عن الانتقال في النظام الاقتصادي من نظام التخطيط  الى نظام السوق ، وذلك في المواد الآتية:

المادة 25 " تكفل الدولة اصلاح الاقتصاد العراقي وفق اسس اقتصاديةٍ حديثة وبما يضمن استثمار كامل موارده، وتنويع مصادره، وتشجيع القطاع الخاص وتنميته"

وفي المادة 24 " تكفل الدولة حرية الانتقال للأيدي العاملة والبضائع ورؤوس الأموال العراقية بين الأقاليم والمحافظات، وينظم ذلك بقانون"

والمادة 112 ثانياً " تقوم الحكومة الاتحادية والاقاليم والمحافظات المنتجة معاً برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق اعلى منفعة للشعب العراقي، معتمدة أحدث تقنيات مبادئ السوق وتشجيع الاستثمار".

اتجاه الموازنة

ومع ذلك الاتجاه والاعلان عن الانتقال الاقتصادي، من التخطيط الى السوق؛  إلا اننا نرى ان الموازنة تسير نحو الارتفاع، كما موضح في الشكل أدناه.

المصدر: من إعداد الباحث بالاعتماد على بيانات البنك المركزي العراقي

ان البلد الذي يتبنى نظام السوق، يُفترض أن تنخفض موازنته أو على أقل تقدير ان ترتفع بشكل طفيف جداً، على اعتبار ان القطاع الخاص سيحل محل الدولة وبالنتيجة ينخفض دور الموازنة وحجمها وتأثيرها في الاقتصاد، ولكن يبدو الواقع في العراق مختلف كما سيتضح أدناه.

وتجب الاشارة، إلى عدم وجود قانون للموازنة للأعوام الثلاثة وهي عام 2014، 2020 و 2022، ولذلك لم تظهر في الشكل أعلاه.

اتجاه الناتج 

نلاحظ من خلال الشكل أدناه، ان الاتجاه العام للناتج المحلي الاجمالي يسير بشكل مشابه لمسيرة الموازنة التي اتضحت في الشكل السابق، مما يعني ان اتجاه الناتج هو مساير لاتجاه الموازنة العامة.

المصدر: من إعداد الباحث بالاعتماد على بيانات البنك المركزي العراقي

نلاحظ من خلال الشكل أعلاه، هناك انحدارات واضحة في مسيرة الناتج خصوصاً ما بين 2013 و 2017 وذلك بسبب توقف النشاط الاقتصادي على خلفية دخول تنظيم داعش الارهابي في الموصل وغرب البلاد.

وإذا ما دمجنا كلا الشكلين في شكل واحد، سنحصل على الشكل أدناه، والذي يبين مدى مسايرة الناتج لمسيرة الموازنة.

المصدر: من إعداد الباحث بالاعتماد على بيانات البنك المركزي العراقي

هذه المسايرة تعطي دلالة واضحة على العلاقة الطردية بين الناتج والموازنة، أي كلما يرتفع حجم الموازنة يرتفع الناتج، وهذا ما لا ينسجم والتوجه الجديد الذي اتخذه العراق بعد 2003 كما اتضح أعلاه.

بمعنى ان الدولة لازالت تلعب الدور الرئيس في الاقتصاد، في حين لازال القطاع الخاص يلعب الدور الثانوي.

التجارب الدولية( الولايات المتحدة والصين)

لأجل الحكم ولو بشكل تقريبي من الضروري النظر للتجارب الدولية بهذا الخصوص، الولايات المتحدة الامريكية باعتبارها معقل الرأسمالية واقتصاد السوق، والصين باعتبار انها اتجهت نحو اقتصاد السوق منذ سبعينيات القرن الماضي عند تطبيقها سياسات الاصلاح والانفتاح في الشأن الاقتصادي.

حيث يتضح ان النفقات النهائية للاستهلاك العام كنسبة لأجمالي الناتج المحلي في كلا البلدين منخفضة، مما تعطي دلالة واضحة على فاعلية اقتصاد السوق دوره في تلبية الحاجات، في حين لازال ضعيفاً في العراق، وكما واضح في الشكل أدناه من 2006 – 2022.

المصدر: من أعداد الباحث بالاعتماد على بيانات البنك الدولي.

وإذا ما أخذنا نسبة الموازنة الى الناتج المحلي الاجمالي بالاعتماد على بيانات البنك المركزي العراقي سنجد أن النسبة مرتفعة جداً وكما موضحة في الشكل أدناه.

المصدر: من اعداد الباحث بالاعتماد على بيانات البنك المركزي العراقي.

هذه الشكل يوضح نسبة الموازنة الى الناتج المحلي الاجمالي، بمعنى ان الموازنة تتحكم بشكل مباشر بقرابة 50% في الاقتصاد وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار الحلقات الاقتصادية المرتبطة بالموازنة(تحكم غير مباشر) قد تصل نسبة تأثير الموازنة في الاقتصاد إلى 80% وهذا عكس ما هو مطلوب تماماً.

بمعنى يُفترض أن لا يزيد حجم الموازنة عن 20% من الناتج المحلي الاجمالي( كما هو حال التجارب الدولية) في أسوء الاحتمال في بلد اتجه وتبنى السوق اقتصادياً.

الاسباب 

هناك أسباب عديدة تقف خلف هذا التناقض بين الموازنة ونظام اقتصاد السوق في العراق يمكن الاشارة لبعضها كما يلي:

اولاً: عدم وجود مشروع سياسي وطني، قادر على تعبئة المجتمع وتفجير طاقاته باتجاه البناء والاعمار والازدهار.

ثانياً: انعدام الرؤية الاقتصادية، حيث لم تكن هناك رؤية اقتصادية واضحة المعالم في مسيرة الاقتصاد من البداية وحتى النهاية.

ثالثاً: حل مؤسسات الدولة، حيث لم يتم الاقتصار على انهاء الاستبداد وحسب بل حل جميع مؤسسات الدولة بما فيها الجيش والشرطة.

رابعاً: انسحاب الدولة من النشاط الاقتصادي بشكل سريع دون أن يسبقه أي إعداد مسبق سواء للقطاع الخاص او البنية التحتية.

خامساً: تفاقم الفساد وتردي بيئة الاعمال، مما اسهم في احجام القطاع الخاص عن الاستثمار وعدم فاعليته في الاقتصاد .

سادساً: ضخامة جرعة التحول، حيث تم اجراء التحول السياسي والاقتصادي في آن واحد في مجتمع تربى على الدولة سياسياً واقتصادياً، فلم يتحمل تلك الجرعة فتعثر التحول وبالخصوص الاقتصادي.

التوصيات

ولأجل العمل على اعادة الامور الى نصابها يتطلب الامر العمل على:

اولاً: بناء مشروع سياسي قادر على تعبئة المجتمع وتوظيف طاقاته باتجاه البناء والاعمار.

ثانياً: ايجاد رؤية اقتصادية واضحة المعالم ليتفاعل الجميع معها والعمل على تحقيقها.

ثالثاً: الاهتمام بالمؤسسات، لتكون مؤسسات قوية وقادرة على تحقيق أهدافها بشكل حيادي دون أي تدخلات.

رابعاً: اتباع الدور التنموي، أي أن تأخذ الدولة الدور التنموي في الاقتصاد لا الدور الحيادي ولا الدور الانتاجي على الأقل في المراحل الاولى.

خامساً: محاربة الفساد ومكافحته وبناء بيئة أعمال سهلة خفيفة محفزة ومشجعة للاستثمارات الداخلية والخارجية.

سادساً: الاهتمام بآثار ضخامة جرعة التحول، أي العمل على معالجة الشرائح الاجتماعية التي تضررت بشكل كبير من ذلك التحول.

الخلاصة، ان دور الموازنة لم ينسجم والتوجه الجديد، بحكم الاسباب الموضحة أعلاه، مما يتطلب معالجتها، كما اتضح أعلاه؛ لأجل أعادة الانسجام بين الموازنة ونظام السوق.

التعليقات