الموقف الشعبي من علماء الدين، يعكس خللا عميقا في البنية الثقافية لدى العراقي، تدل على عدم نضجه السياسي لاستيعاب المتطلبات القيمية والسلوكية للعيش في دولة حديثة، كما تدل على اتكاليته وتحميله الآخرين مسؤولية أخطائه، أو أخطاء حكامه
في السابع والعشرين من شهر تموز-يوليو 2018 م أعلن الشيخ عبد المهدي الكربلائي في خطبة صلاة الجمعة الثانية من الصحن الحسيني المقدس موقف المرجعية الدينية العليا في النجف الاشرف والتي يمثلها السيد علي السيستاني من العملية السياسية ومارثون تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، في ظل احتجاجات شعبية غاضبة تشهدها مدن وسط وجنوب العراق منذ أسابيع عدة. فحضي الموقف المرجعي بتأييد شعبي واسع، لكونه لامس الكثير من حاجات الناس وتطلعاتهم بعد انتخابات الثاني عشر من أيار من السنة نفسها. لكنه جوبه بفتور نسبي من بعض القيادات السياسية، لكونه يفرض شروطا صعبة تعجز او لا ترغب تلك القيادات في الأخذ بها.
لقد جاء الخطاب شاملا للوضع السياسي، أذ أيدت المرجعية فيه "اتخاذ خطوات حقيقية في سبيل الإصلاح، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية"، ودعت المسؤولين في الحكومة والقوى السياسية الى إدراك "حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم"، للعمل على تحقيق "الرفاه والتقدم لأبناء شعبهم"، وذكرت المواطنين بدعوتها لهم سابقا الى المشاركة الحرة والواسعة في الانتخابات لاختيار الأفضل، في ظل قانون انتخابي عادل، واشراف مفوضية عليا مستقلة لا تحكم عملها المحاصصة السياسية (وهو ما لم يحصل). وبعد الإشارة الى ما يكابده المواطنون في العراق من معاناة، وما نتج عنها من عنف في الاحتجاجات حددت الاليات المطلوبة لمعالجة الوضع السياسي المتأزم بـ: الإسراع بتشكيل الحكومة القادمة من كفاءات فاعلة ونزيهة على رأسها رئيس وزراء حازم وقوي وشجاع في مكافحة الفساد المالي والإداري، واستكمال تشريع القوانين التي يحتاج لها المواطن وإلغاء تلك التي منحت امتيازات هائلة للمسؤولين في السلطات الثلاث ، ووضع ضوابط صارمة عند اختيار شاغلي المناصب العليا في الدولة بما يضمن اختيار الاكفأ، وتفعيل دور المؤسسات الرقابية لاسيما ديوان الرقابة المالية بما يضمن إعادة تدقيق الحسابات الختامية للحكومات السابقة، ومراجعة حسابات المسؤولين والتعاقدات الحكومية لكشف التلاعب والفساد فيها منذ عام 2003، وتقديم المتلاعبين الى العدالة. لينتهي الخطاب بتحذير شديدة اللهجة للنخبة السياسية والسلطات الثلاث في الدولة بان التنصل من أداء ما عليهم سيقود الى مواقف أكثر حدة تم تعبير عنها بالقول: "سيكون للمشهد وجه آخر مختلف عما هو اليوم عليه".
هذا الموقف المرجعي الحاد يدعونا الى طرح تساؤلات عدة تدور حول مدى احترام النخبة السياسية في العراق لتوجيهات ونصائح المرجعية؟، ومدى قدرة الاخيرة على فرض شروطها في مفاوضات تشكيل الحكومة القادمة؟، ومدى استعدادها لتصعيد الموقف في حال عدم الأخذ بها؟، وما موقفها امام قاعدتها الشعبية إذا تم تشكيل الحكومة وفقا لتوجيهاتها ثم عجزت تلك الحكومة عن معالجة أوضاع الشعب الصعبة؟
ان علاقة المرجعية الدينية الشيعية في العراق بالوضع السياسي منذ تغيير نظام البعث في عام 2003 م والى الوقت الحاضر لا يمكن عزلها عن العلاقة الغامضة بين الدين والدولة في هذا البلد، فالعراق بلد طبيعة نظام الحكم فيه وشكله والقوانين النافذة جميعها مدنية علمانية، ولا يبدو ان هناك رغبة رسمية او شعبية للتخلي عن هذا المسار، ولكن من جهة أخرى تجد السيادة والدور الفاعل في الفضاء السياسي لأحزاب دينية تفتقر الى التماسك الأيديولوجي في خطابها وممارساتها، وعاجزة عن تقديم تصور ما لبناء الدولة على أسس دينية مدنية معاصرة، لذا أبقت مكرهة على السياق العلماني للدولة مع تململها الظاهر أو الخفي منه. وقامت بالتحالف مع أحزاب وقوى تخالفها تماما في الفكر والرؤية العامة لبناء الدولة وادارتها، مما يؤشر على وجود خلل اخلاقي كبير لدى الأحزاب والقوى السياسية العراقية، جعل تحالفاتها وسلوكياتها وقراراتها تحكمها دوافع الوصول الى السلطة لا غير.
ومن جانب آخر، تجد أن الشعب العراقي غير راغب في بناء دولة ثيوقراطية يحكمها علماء الدين، ومع ذلك، يحملهم المسؤولية عند فشل السياسيين في تلبية حاجاته وتحقيق طموحاته، غافلا عن حقيقة ان علماء الدين عندما لا يكون طموحهم ورؤيتهم ذاهبة باتجاه مسك السلطة الفعلية لإدارة الدولة (كما هو الحال لدى السيد السيستاني) تقتصر سلطتهم على الجانب المعنوي المرتبط بالوعظ والإرشاد والنصح تاركين للناس الخيار في الاخذ برأيهم من عدمه. هذا الموقف الشعبي من علماء الدين، يعكس خللا عميقا في البنية الثقافية لدى العراقي، تدل على عدم نضجه السياسي لاستيعاب المتطلبات القيمية والسلوكية للعيش في دولة حديثة، كما تدل على اتكاليته وتحميله الآخرين مسؤولية أخطائه، أو أخطاء حكامه، لذا تجد ارتباكا واضحا وعدم فهم للمواقف التي تصدر من علماء الدين المبنية على خياراتهم كمواطنين في الدولة، وبين الاحكام الفقهية الصادرة عنهم كعلماء دين. ان خيارات عالم الدين كمواطن لا تكون معصومة من الخطأ أو سوء التقدير، بل انها طالما تُتخذ في بيئة إنسانية تعصف بها الاهواء والاطماع غالبا ما تكون معرضة لذلك حتما. اما الاحكام الفقهية الصادرة منه كعالم دين، والتي يستنبطها من مصادر التشريع الديني المعمول بها فلها شأن آخر، فهي تتطلب منه (بحكم الاختصاص) مطابقتها التامة قدر الامكان لأحكام الشرع المقدس، كونها صادرة عن اجتهاده الخاص غير الخاضع لمؤثرات خارجية، وأي خطأ فيها غير مستساغ ابدا، لما قد يتركه من نتائج وخيمة جدا ترتبط بالجانب التعبدي في حياة الناس.
هذا الوضع الشائك الذي تتحرك فيه المرجعية الدينية يجعلها في موقف لا تحسد عليه أبدا، فالسياسيون العراقيون منقسمون فيما بينهم في تقدير توجيهاتها بين سياسيين لا يعنيهم كثيرا الخطاب المرجعي، كالسياسيين السنة والاكراد، وبين سياسيين يعلنون ولائهم الظاهر لها كبعض السياسيين الشيعة الا انهم غير مصممين على الاخذ بنصائحها بالكامل عندما تضر مصالحهم في الاستحواذ على السلطة والنفوذ. اما القلة من السياسيين الملتزمين تماما بما تقوله فانهم أضعف كثيرا من ان يتحكموا بمسار العملية السياسية. كذلك الشارع العراقي يمر في مرحلة حرجة من الهيجان وعدم الاستقرار الأيديولوجي يميل زخم الحراك الاجتماعي فيه الى الابتعاد التدريجي عن التدين في ردة فعل سببها الأداء السيء للأحزاب الدينية في السنوات الخمسة عشر الماضية، وهذا الحال يُذكر بما لا يقبل الشك بحالة النفور التي عاشها الشارع العراقي من الفكر القومي بعد خيبات الامل والكوارث التي حلت به تحت حكم الأحزاب القومية. اما على المستوى الخارجي، فان مرجعية النجف الاشرف تتعرض الى ضغط كبير من جانبين: الأول يرتبط بصراع النفوذ الناجم عن التزاحم بينها وبين مرجعية ولاية الفقيه المطلقة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والأخر من القوى الإقليمية والدولية التي لا يعنيها كثيرا شأن المرجعية بقدر ما تعنيها مصالحها في العراق، ومن يكون الطرف العراقي الضامن لهذه المصالح.
إذا، المرجعية ليست مبسوطة اليد تماما لتفرض شروطها داخل العراق وخارجه، ولكن ذلك لن يعفيها من مواجهة التحديات والصعوبات المرتبطة بقضية تشكيل الحكومة العراقية القادمة، وتلبية المطالب الشعبية، كيف؟
إذا لم تتشكل الحكومة القادمة بالشروط التي وضعتها المرجعية، سيكون على الأخيرة التزام أخلاقي واضح امام اتباعها في الانتقال الى مستوى اعلى من التصعيد مع النخبة السياسية، ومواجهة كل ما يمليه ذلك من خيارات القيادة الشعبية، ومواجهة نفوذ القوى السياسية العراقية، وضغط المصالح الدولية. وعدم قيامها بذلك سيضر كثيرا شعبيتها ومركزها الروحي بين العراقيين. اما اذا انصاعت القوى السياسية، بشكل أو آخر، لتوجيهاتها، وتشكلت الحكومة العراقية القادمة كما تريدها، فليس متوقعا ان تتمكن هذه الحكومة من تلبية مطالب الشعب بسرعة، فمشاكل العراق، ترتبط معظمها بتراكم الهدم في الدولة العراقية على مدار عقود طويلة، وإصلاح الهدم في العمران من اليسير معالجته، ولكن الأسوأ هو ان الهدم شمل الانسان، فالعراقي محطم نفسيا، مستفز عاطفيا، فاقد الثقة بكل شيء، يفتقر الى الكثير من المهارات، ومؤسساته التربوية والتعليمية والصحية والوظيفية جميعها لا تدعم معالجة هذا الهدم، وتحتاج الى خطة تنمية شاملة، لا يبدو ان صناع القرار الحاليين وبيئتهم المحيطة تساعد على تبنيها. فضلا عن ارتفاع معدلات: الفساد العام، والنمو السكاني، والفقر، والبطالة، والجريمة، وتعاطي المخدرات، والعسكرة الاجتماعية، وارتباك النظام القانوني للدولة، والتدخلات الخارجية، وانهيار البنية التحتية وغيرها كثير. كل ذلك سيجعل الحكومة القادمة بطيئة في عملها، وهذا سيصطدم بهيجان شعبي متعطش لنتائج سريعة على الأرض، وفي حال عدم لمسه لهذه النتائج سيصب جام غضبه على الحكومة ورموزها، وعلى المرجعية لكون وصفتها لإنقاذ الموقف لم تنجح، حسب اعتقاده.
فعلا انه مأزق محرج للمرجعية لا يمكنها الإفلات منه الا بالإصرار الحازم والقوي على مواقفها المعلنة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة القادمة، وأن تكون مستعدة للانتقال الى المستوى الأعلى من التصعيد عند عدم الاستجابة لها. اما في حال تشكيل الحكومة القادمة وفقا لرؤيتها، فالمطلوب ضغطها الكامل على الحكومة للبدء بالملفات الكبرى المثيرة للشارع العراقي وعلى رأسها ملف محاسبة كبار الفاسدين وزجهم خلف القضبان، وملف الوجود غير القانوني للمليشيات المسلحة خارج سيطرة الدولة، وملف الغاء الامتيازات غير المبررة للمسؤولين، وملف إيجاد فرص العمل للشباب من خلال تنشيط الاستثمار في القطاعين العام والخاص، ولاسيما في مجالي الزراعة والصناعة. فضلا عن ملف تعزيز سلطة انفاذ القانون واستقلالية القضاء، ومعالجة الوضع الإنساني للنازحين والطبقات الافقر من أبناء الشعب، وان يتم كل ذلك في ظل خطة استراتيجية شاملة لإدارة الدولة في العراق.
ان البدء بأكبر الملفات سيُهدأ الشارع الغاضب، وسيشغله لمدة مناسبة بمتابعة مجرياتها، مما يسمح له باستعادة العقلانية في مطالبه، ريثما تصبح نتائج البرنامج الحكومي ملموسة على الارض بشكل يخدم مصالح عموم الناس، وتُسترجع الثقة المهزوزة بين الحكومة والشعب. هذا المسار سيحافظ في النهاية على المكانة الروحية الكبيرة لمرجعية النجف عند الناس. اما الفشل في تحقيق ذلك، فسيكون من السيناريوهات السيئة جدا، اذ ستكون له عواقب وخيمة على عاجل الدور المرجعي وآجله، لا في العراق فحسب، بل ربما على امتداد الطائفة الشيعية في العالم.
اضافةتعليق