لقد كسبت البلدان العربية في حال التزامها بمقررات اعلان بكين سلامها وحيادها واستقرارها، ولكن خسرت تل أبيب فرصتها في تشكيل تحالف إقليمي معادي لطهران، كما خسرت طهران قوة ردعها العسكرية القائمة على التهديد بالحرب الشاملة، واصبحتا لأول مرة وجها لوجه امام بعضهما البعض، وعليهما اتخاذ القرار لتحديد مسارات الصراع المستقبلي بينهما، وتحمل مسؤولية ما ستقررانه
يعتقد المحلل الروسي السيد ألكسندر نازاروف ان الاتفاق السعودي-الإيراني بعودة العلاقات بين الطرفين يمثل "زلزال سياسي كبير"، لكونه يشكل "إعادة توجيه استراتيجي" في علاقات دول الخليج العربية مع الولايات المتحدة الامريكية باتجاه الصين، رابطا ما حصل بتداعيات الانقسام الدولي بين القوى الكبرى الرئيسة في العالم، والذي تسارعت خطواته بعد الحرب الروسية-الأوكرانية.
ويذهب السيد نازاروف الى أن واشنطن لن تقبل بما حصل، وكلما مر وقت أطول على الاتفاق، كلما ابتعدت دول الخليج العربية أكثر عن الولايات المتحدة واقتربت من "المعسكر الصيني"، مما يعني خسارة استراتيجية كبيرة لها، ويخلص من ذلك الى القول: سوف تحاول كل من واشنطن وتل ابيب استغلال قضية الملف النووي الإيراني، لتقوما بـ"استفزاز عسكري" هدفه التأثير على دول الخليج العربية ودفعها للمشاركة الى جانبهما في أي عمل عسكري، من أجل افراغ الاتفاق الشامل للسلام بين الرياض وطهران من محتواه، وهذا يجعل الحرب مع ايران واقعة لا محالة، بل أنها اليوم "أصبحت أقرب الى حد بعيد".
ولكن على الرغم من النجاح الصيني في تسوية الخلاف الإيراني-السعودي، الا ان ما يقود الى الحرب ليس اعتقاد السيد نازاروف باقتراب الرياض وبقية بلدان الخليج العربية من المعسكر الصيني على حساب المعسكر الأمريكي، فهذا تهويل مبالغ فيه لما جرى قد يعود الى التأثر بالصراع الروسي الاوكراني، وهو تقليل مبالغ فيه-أيضا-لحجم المصالح والعلاقات التي تربط بين هذه البلدان والولايات المتحدة خصوصا، والغرب عموما، لاسيما ان واشنطن كانت من بين الدول التي رحبت باتفاق بكين، وان كان ذلك على حذر.
وعليه، إذا لم تحدث الحرب نتيجة الأسباب أعلاه لوحدها، فلماذا ستحدث؟
ليس غريبا قطعا ان تكون تل ابيب غير سعيدة بالتقارب السعودي-الإيراني، فهو كما وصفته بعض وسائل الاعلام العبرية بصقة سعودية في وجه السياسات الإسرائيلية في المنطقة، لا سيما السياسات المتعلقة بالتطبيع مع العرب، واتفاقات ابراهام وغيرها، ولكن ذلك وحده لا يبرر الحرب مع طهران، تلك الحرب التي ستحصل متى ما اعتقدت إسرائيل ان طهران أوشكت على امتلاك سلاحها النووي، وهذا الأمر تعده تهديدا وجوديا لها لا يمكن القبول به أو التعايش معه، لذا هي مستعدة –عند الضرورة- الى العمل المنفرد بعيدا عن واشنطن، كما صرح بذلك المسؤولون الاسرائيليون اكثر من مرة.
وقد انشغلت الحكومة الإسرائيلية كثيرا خلال السنوات الأخيرة بخلق تحالف ردع إقليمي مناوئ لطهران، من اجل اضعافها وتقييد تمددها في المنطقة، وقد آتت هذه السياسة اكلها من خلال التطبيع مع بعض البلدان العربية، ولكن مع زيادة شبكة تحالفاتها الإقليمية كانت احتمالات الحرب تضعف اكثر واكثر، لأن طهران كانت تصرح دائما بأن أي شكل من أشكال العدوان عليها، يعني الذهاب الى "حرب شاملة" تشمل واشنطن وتل ابيب وحلفائهما في المنطقة، وهو تهديد واقعي، والخشية منه مبررة لقرب البلدان العربية من الجمهورية الإسلامية، مما يجعل استهداف مناطقها الحيوية من قبل القوة المسلحة الإيرانية أن تطال مناطقها أمرا يتم في غاية السهولة، فضلا على وجود وكلاء أقوياء لها داخل عدد من هذه البلدان يمكن تحريكهم لتحقيق أهدافها العسكرية عند الحاجة، وهذا اعطى الجمهورية الإسلامية الإيرانية شكلا فاعلا من اشكال الردع يعقد الحرب ويحول دون وقوعها.
أما بعد اعلان بكين، وربطه عودة العلاقات بين الرياض وطهران باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية والامتناع عن كل ما يهدد أمنها واستقرارها، فأن البلدان العربية في حال ايفائها بالتزاماتها الواردة في الاتفاق، واتباعها لسياسة ذكية قائمة على الانشغال بتطوير مقومات الأمن والاستقرار الداخلي، والحياد التام وعدم التورط في أي عمل عدائي مرتبط بموضوع الصراع بين طهران وتل أبيب، فإنها تكون قد سلبت ايران مبررها في اعلان الحرب الشاملة عليها، ولا يكون أمامها الا الرد على مصدر العدوان لوحده وهو تل أبيب أو واشنطن في حال تدخلها الى جانب الأخيرة، لأن أي اعتداء على الدول العربية سيعني خرق طهران لالتزاماتها الواردة في اعلان بكين.
لقد أصبحت قوة الردع العسكري الإيرانية في ظل الواقع الجديد أكثر صعوبة مما كان قبل الاتفاق الاخير، فهي لا تمتلك حدودا جغرافية مع إسرائيل، ولا يمكنها إلزام الدول الأخرى بجعل أراضيها منصة انطلاق لضربها، وفي الوقت نفسه ستجد اسرائيل نفسها أكثر حرية في التحرك عسكريا عند الضرورة ضد طهران مع غياب أي ضغط عربي متردد وخائف من الرد الايراني، وهذا الوضع عند ربطه بصورة الوضع الدولي الشائك والمعقد سيعني أن تسارع عداد الساعة باتجاه الحرب بين الطرفين أمرا حتميا لا يمكن انكاره.
حرب شاملة ام محدودة
ما لم يتورط الجوار العربي في الصراع مع او ضد كل من طهران أو تل أبيب، لن نتوقع حصول حرب شاملة، فما يشغل اهتمام الحكومة الإسرائيلية هو برنامج ايران النووي، وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وقد حاولت بإصرار تعطيلهما من خلال الحرب السيبرانية وعمليات الاغتيال للعلماء الإيرانيين، والتخريب المتعمد الداخلي، ونجحت حتى الان في ذلك، ولكن لم يمنع ذلك كلا البرنامجين من التطور حتى وصل البرنامج النووي تقريبا الى عتبة القدرة على تصنيع قنبلة نووية خلال أيام أو أسابيع معدودة في حال صدر قرار رسمي بذلك، وبالتأكيد سوف لن تقف تل ابيب مكتوفة اليدين امام ما يحصل، وهي ربما ستفكر بضربة عسكرية مشابهة لما فعلته بمفاعل تموز العراقي في مطلع ثمانينات القرن الماضي، على صعوبة الموضوع وعدم تماثله تماما مع الوضع العراقي، وهي اجرت بالفعل تدريبات عديدة على تنفيذ الضربة الموعودة، وحاولت بشتى السبل تأمين مستلزماتها نجاحها بالتواصل مع حلفائها الغربيين.
ان الضربة العسكرية في حال حصولها، وبصرف النظر عن مدى نجاحها أم فشلها ستدفع طهران بلا شك الى الرد، ولكن ردها سيكون ردا لا يختلف كثيرا عن الفعل الإسرائيلي، فطهران وبعيدا عن تصريحاتها حول اغراق إسرائيل في البحر وتدميرها وما شابه ذلك، لن تتمكن من تسيير الجيوش نحو فلسطين عبر بلدان عربية محايدة وغير راغبة بالتورط في حرب شاملة مدمرة، ولذا لن يكون أمامها الا الرد عبر رشقات من الصواريخ الباليستية او عبر ما قد تمتلكه من قدرات جوية، لاسيما طائراتها المسيرة، وربما ستحاول بحذر استثمار بعض وكلائها القريبين من فلسطين للقيام بتحرك ما، الا أنه سيكون تحركا محدودة وتحت السيطرة.
اذن ستكون الحرب محدودة، وستحاول واشنطن والقوى الكبرى تقليل مخاطرها بشكل أم آخر حفاظا على مصالحها في المنطقة والعالم، ولكن تداعياتها الداخلية على إيران وإسرائيل ستكون غير معروفة اطلاقا، بل قد تكون أكبر من تداعياتها العسكرية نفسها، فكل من الطرفين يرسم صورته أمام شعبه على انه لا يقهر وغير قابل للكسر، وانهيار هذه الصورة سيترك بلا شك عواقب وخيمة للغاية لا يمكن التنبؤ بها.
لقد كسبت البلدان العربية في حال التزامها بمقررات اعلان بكين سلامها وحيادها واستقرارها، ولكن خسرت تل أبيب فرصتها في تشكيل تحالف إقليمي معادي لطهران، كما خسرت طهران قوة ردعها العسكرية القائمة على التهديد بالحرب الشاملة، واصبحتا لأول مرة وجها لوجه امام بعضهما البعض، وعليهما اتخاذ القرار لتحديد مسارات الصراع المستقبلي بينهما، وتحمل مسؤولية ما ستقررانه.
اضافةتعليق