في كل دولة من دول العالم هنالك قوتان تتحكمان: قوة الحكم وقوة المجتمع ، والأصل أن تتوحد القوتان لان قوة الحكم تنبثق عن قناعات وأفكار وقيم المجتمع وعندما لا ينبثق الحكم عن قناعة الناس يحصل الشرخ بين المجتمع والحكم ويكون كيان الدولة كيانا مفككا يسهل على أي عدو ضرب قوة حكم هذا الكيان . أما قوة المجتمع فهي تتمثل بتطوير أفكاره وقناعته وقيمه وجعلها مواكبة لتطورات الحياة وضروراتها وهي بدورها تنعكس إيجابا على نوع وممارسة وأسلوب الحكم، وهذا ما عليه معظم دول العالم خاصة الدول النامية ومنها العراق . فالعراق ضرب مثلا جليا في عدم التوافق والتناسق بين قوة الحكم وقوة المجتمع والتي اتضحت أثارها بعد عملية التغيير في 9/ نيسان / 2003م والتي شابها الكثير من الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية ومنها الأزمة الأخيرة في الموصل التي هزت كيان الدولة والتجربة السياسية الحديثة وكشفت ذلك الشرخ العميق بين القوة السياسية الحاكمة وأسلوب إدارتها والتي أدت إلى هذا الانهيار الأمني وخروج ثاني اكبر المدن العراقية من سيطرة الحكومة المركزية في بغداد لصالح الجماعات المسلحة .
ومن جملة الأسباب السياسية التي أدت إلى سقوط الموصل بيد الجماعات المسلحة والتكفيرية هي :-
1- مفهوم إدارة الدولة من قبل النخبة الحاكمة .
أكثر ما تميزت به النخبة الحاكمة التي اعتلت مقاليد المشهد السياسي بعد التغيير في العراق عام 2003 هي العشوائية والانتقائية في الإدارة والقيادة والتي انعكست واتضحت أثارها في كل مفصل من مفاصل بناء النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي للدولة والتي تجلت أخيرا في الانهيار الأمني الذي حدث في مدينة الموصل وغيرها من المناطق المحاذية لها ، فيما يرى الكثير من الباحثين والدارسين إن معظم هذه القوى برزت وتصدت للمشهد السياسي ولم تستطيع طيلة الفترة المنصرمة أن تعرف عن نفسها وما يدور بداخلها من أهداف ومبادئ للمهمة التي أنيط وأتمن عليها وعن طبيعة مشروعها وبرامجها لإدارة وقيادة البلد مثلا تحول الشخصية السياسية العراقية طيلة هذه الفترة إلى أكثر من توجه سياسي مع التناقض والاختلاف في هذه التوجهات وهي (إسلامي/ ديمقراطي/ وطني / طائفي ) وبالتالي أفرزت هذه الثقافة غياب برنامج قيادي وأداري موحد يضع الحلول والخطط للنهوض بالواقع الاقتصادي والثقافي والعسكري وغيرها من مقومات نجاح وازدهار البلد ، وأدى غياب هذا البرنامج إلى الكثير من الأزمات ومنها الأزمة الأخيرة في مدينة الموصل .
2- عدم الثقة بين القوى السياسية الفاعلة في المشهد السياسي .
أدت الإحداث والوقائع التاريخية في العراق الى تمحور الطيف السياسي العراقي تحت ثلاث مسميات رئيسية هي انعكاس لتركيبة المجتمع العراقي في بنيته الدينية والقومية وهي ( العرب الشيعة / العرب السنة / الأكراد ). وبالرغم من تبني البلد النظام الدستوري الديمقراطي بعد التغير الذي حصل والذي يقيد مفاهيم الإدارة والقيادة فيه وفق ما تفرزه صناديق الاقتراع ألا أن هذه الوقائع بقيت تعلو على علوية الدستور وما تضمن من أعراف ومبادئ ديمقراطية ،واتضح أيضا إن هذه القوى لا تستطيع أن تنكر وتتخوف من قضايا ترى إن الدستور والتحول الديمقراطي لا يكفيان لضمانها ، منها تخوف الطيف السياسي الكردي من عودة الماضي ، وتخوف الطيف السياسي العربي السني من المستقبل ، وكذلك الطيف السياسي الشيعي من الماضي ومراراته والمستقبل بضبابيته . كل هذه الاعتقادات بنيت عليها عقيدة سياسية للنخبة الحاكمة والكل أ خذ يغذي جمهوره باستخدامها كوسيلة دعائية لوصول شخصياته السياسية إلى سدة السلطة التنفيذية والتمثيل النيابي ، هذه الثقافة والعقيدة نتج عنها تمحور وتخندق طائفي وبالتالي انعكس كل هذا على المؤسسات الرسمية في إدارة الدولة فالمكون السني بدأ ينظر إلى المؤسسة الأمنية مؤسسة شيعية وبالتالي غير مرحبة في جغرافية وجوده ، والكردي يرى أيضا هذه المؤسسة مؤسسة عربية غير مرحبة في مناطقه، وبالتالي الشد الطائفي والقومي وما تشهده المنطقة من إحداث متشابه لما يحدث في مناطق مجاورة للعراق أسهم في خلق الأزمة الأمنية الخطيرة مؤخرا .
3- أخطاء سلطة الائتلاف المدني بعد تغيير النظام السابق المتمثلة بالحاكم المدني الأمريكي بول بريمر القاضي بحل الجيش العراقي السابق.
اقترف نظام الحكم المدني الأمريكي للعراق بعد عملية التغيير عام 2003 أخطاء إستراتيجية عميقة منها تسريح الكثير من الضباط ومنهم ضباط مدينة الموصل ، وما زاد المشكلة هو لم تستطيع الحكومات التي تشكلت فيما بعد تدارك واحتواء هذه الأخطاء فلم يكن طوال الفترة المنصرمة هناك برنامج عمل مركزي ومخطط لمعالجة واحتواء الضباط والمراتب العسكرية في الموصل وغيرها من المناطق الغربية سواء في ضم البعض منهم لصفوف الجيش الحديث أو تحويل الآخرين إلى المؤسسات المدنية الأخرى ، حل هذه المؤسسة وترك الكثير من أصحابها وقياداتها بدون عمل وخصوصا إذا عرفنا مدينة الموصل تعتبر من أكثر المدن العراقية في عدد الضباط والقيادات العسكرية السابقين ، جعل من تلك المراتب بيئة مناسبة وحاضنة للعلميات المسلحة والاضطرابات الأمنية في مناطقها ضد التواجد الحكومي والأمني فقد شعرت بتهميشها وإبعادها عاما بعد أخر مما جعل نشاطها في التمرد واحتضان الاضطرابات وتوجيهها وقياداتها ضد الحكومة امرأ بديهي وفي تزايد مستمر .
4- الارتجال وعدم الخبرة في إدارة مؤسسات ومرافق الدولة .
يشير الكثير من الخبراء والمتخصصين في العمل السياسي إن العمل القيادي والإداري الذي مورس بعد عام 2003 تؤشر عليه الكثير من الملاحظات منها ، شغل الكثير من المناصب العليا في إدارة الدولة من قبل أشخاص لم يكن لهم خبرة ولم يمارسوا مواقع قيادية وإدارية سابقة وبالتالي حدثت الصدمة في القرارات الارتجالية والغير مدروسة ، كذلك تم شغل الكثير من المناصب وفق حسابات حزبيه وبالتالي غلبت الحزبية الضيقة على إدارة المؤسسات أكثر من الخبرة والكفاءة وأكثر من هذا بروز العائلية في إدارة هذه المؤسسات مثلا عشيرة البرزانيين وعشيرة الزيباريين استحوذت على أكثر المرافق والمؤسسات في شمال العراق وكذلك حصة الإقليم في مواقع الحكومة الاتحادية ، وأخيرا إدارة المؤسسات والمرافق العامة والعليا في الدول وفق هذا المنظور والثقافة خضعت اغلب المفاصل الإدارية والسياسية والعسكرية للفساد الإداري وبالتالي لم تكن هناك حسابات سياسية وأمنية مدروسة من حيث التخطيط المعد لمواجهة ما يحدث من ثغرات سياسية في بنية العملية السياسية والأمنية واتسعت هذه الثغرات لتصل إلى مرحلة خروج مدن شاسعة عن السيطرة الحكومية .
5- استحواذ المكون الكردي على امتيازات ومواقع في أدارة الدولة أكبر من استحقاقه السكاني.
استحوذ المكون الكردي على مواقع أدارية وسياسية في الحكومة الاتحادية إضافة إلى إدارته للإقليم الخاص به لا تنسجم قياسا بالمكون السني الذي قاطع التجربة السياسية الديمقراطية الحديثة بعد عملية التغير ،واستغلال ذلك من قبل الجماعات التكفيرية المسلحة ذات البعد الطائفي والمخابراتي الخارجي وبتحريك من الدول الإقليمية لتتدخل بحجة حماية والدفاع عن حقوق المكون السني وتخليصه من التهميش والإقصاء ، فأزمة المظاهرات سابقا وما تبعها من سقوط مدينة الفلوجة وأخيرا سقوط مدينة الموصل هو مؤشر على هذه الأخطاء التي حصلت في بنية النظام السياسي بعد عام 2003 والتي كان المكون السني السبب الرئيسي فيها.
نستنتج مما تقدم ذكره إن هناك أخطاء سياسية وإدارية وأمنية حدثت في البلاد وحذر منها في الكثير من المحافل الشعبية والوطنية والدينية وحتى الدولية لكن النخب الحاكمة لم تأخذها في نظر الحسبان للحيلولة دون تكرارها في المستقبل ، فالعراق كبلد لا يمكن أن يدار حاضره ومستقبله وفق معايير الحزبية الضيقة وبعيدا عن الكفاءة والخبرة ووفق الولاءات العائلية والمناطقية ، وان الأسلوب والممارسة الديمقراطية الصحيحة هي الفيصل في إدارة البلاد وإنقاذه من محنته لا أسلوب الضغط والاتكاء على قوى خارجية أو مجاميع مسلحة تكفيرية لفرض ساسة الأمر الواقع ولوي ذراع الخصوم.
اضافةتعليق