في تمام الساعة العاشرة بتوقيت العراق من صباح الخميس الموافق 15 تموز الجاري، ظهر زعيم التيار الصدري، السيد مقتدى الصدر، أمام الكاميرات، وأعلن انسحابه من المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة، واهم ما جاء في كلمته: بأنه أعلن سحب يده من كل المنتمين لهذه الحكومة الحالية واللاحقة، وتبعها بساعات قليلة، قرار حل الهيئة السياسية للتيار الصدري، وتعيين الدكتور نصار الربيعي والشيخ محمد الموصلي مستشارين له. وهذه ليست المرة الأولى التي يُعلن فيها السيد الصدر انسحابه من العمل السياسي، أو العملية السياسية العراقية. إذ تمَّيز السيد مقتدى الصدر خلال مسيرته السياسية –منذ عام 2003 وحتى الأن – بالتقلب الشديد. فلا يمنعه إعلان دعمه لأية حكومة، ومشاركة وزرائه فيها، من سحب دعمه لها والتهديد باللجوء إلى الشارع. فقد سعى الصدر "بشكل دائم" إلى تبني خط سياسي ملتزم بمطالب المتظاهرين؛ لذلك نراه قد طالب باستقالة حكومة عادل عبد المهدي، بعد أزمة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت في تشرين/ اكتوبر 2019، وصياغة قانون جديد للانتخابات، وإصلاح القضاء، ومحاربة الفساد، ومحاكمة المسؤولين عن قتل المتظاهرين، قبل أن تنتكس علاقته بالمتظاهرين بعد حادثة اغتيال سليماني والمهندس. كذلك تظاهر وانصاره على حكومة السيد العبادي واعتصم بنفسه في الخضراء في عام 2016، وقبل ذلك أحتج كثيراً على حكومتي السيد المالكي وأعلن انسحابه من العمل السياسي. وهاجمه في مراتٍ عدة، ووصفه بأنه "ديكتاتور وطاغية"، وقال إن العراقيين علقوا آمالا على الحكام الحاليين لتخليصهم من "دكتاتورية النظام السابق"، لكنه تبين أنهم "أسوء منه". وتعليقاً على الاحتجاجات الشعبية التي حدثت في المحافظات الغربية عام 2013 وما رافقها من تداعيات سياسية وأمنية، انتقد الصدر في خطاب متلفز تم بثه يوم الثلاثاء 18 فبراير/شباط 2014، الحكومة العراقية أنذاك بشكل عام، وقال فيه: "إن الحكومة تتهم كل من يعارضها شيعياً كان أو سنياً أو كردياً بالإرهاب، وإنها تستغل في ذلك (القضاء المسيس والإعلام) لنشر صور مشوهة بعيدة عن الواقع". وذلك بعد أن أعلن اعتزاله الحياة السياسية وحل كتلة الأحرار التي تمثل تشكيله النيابي في 16 شباط/فبراير. فضلاً عن ذلك. فقد كانت مشاركة زعيم التيار الصدري في العملية السياسية العراقية بعد عام 2003 عملية معقدة، شهدت خلالها أكثر من حرب مع القوات الأمريكية، والحكومة العراقية الموقتة برئاسة السيد اياد علاوي وما تخللها من مقاطعة للانتخابات التشريعية الاولى والاستفتاء على الدستور، ومواجهات مسلحة بين أنصاره من جهة والقوات الحكومية والأمريكية من جهة أخرى، قبل أن يشارك في الانتخابات التشريعية الثانية التي أُجريت عام 2010. إلا أن مشاركته السياسية، ظلت محل جدل وشك كبيرين، وبين المشاركة والمقاطعة والانسحاب، أو بين المشاركة والتهديد بالانسحاب، لأسباب معروفة للجميع.
وتأتي عملية انسحاب التيار الصدري من العملية السياسية واعتزال العمل السياسي في الوقت الحالي، كنتيجة تراكمية للأزمات السياسية الاخيرة، التي لحقت بالعملية السياسية بعد انتفاضة تشرين 2019، والحوادث الأمنية، التي وقعت بشكل متكرر، سواء في مستشفى الخطيب في بغداد، أو في مستشفى الحسين التعليمي في محافظة ذي قار، التي راح ضحيتها المئات من الناس، وما خلفته من تداعيات على المستوى العام، والانتقادات التي لحقت بالتيار الصدري وزعيمه جراء هذه الحوادث (سياسياً وشعبياً) فضلاً عن أزمة الكهرباء، والأزمة السياسية وحالة الانسداد التي وصلت لها العملية السياسية في السنتين الاخيرتين. ويبدو أن جميع هذا الأزمات والحوادث والاتهامات، قد تركت انطباعاً سلبياً لدى السيد الصدر، ولاسيما أنه متابع جيد لـ(السوشيل ميديا) ومواقع التواصل الاجتماعي، ويتأثر بما يدور بها من انتقادات وسب وقذف له ولعائلته وتحميله جزء كبير من الفساد المستشري في البلد.
إنًّ انسحاب الصدر من الانتخابات المقبلة، له دلالات كثيرة، فهي ربما تكون مناورة سياسية لأضعاف خصومه ومن يتهمه بالفساد، ولاسيما القوى السياسية الشيعية، التي تمتلك أذرع عسكرية ولها ارتباطات إقليمية، كالمناورة التي اتخذها في عام 2014 لأضعاف المالكي، إلا أن المستهدف هذه المرة ليس رئيس الوزراء، بقدر ما هو استهداف للقوى المناوئة له. وهي بنفس الوقت رسالة قوية غير مباشرة "من قبل زعيم أكبر تيار سياسي في العراق" بأن العملية السياسية في العراق وصلت إلى طريق مسدود، وعلى القوى السياسية تقديم تنازلات لصالح المجتمع والدولة، إذا ما ارادت الحفاظ عليها ومكاسبها السياسية. ويبدو بأن هناك دلالة واضحة، يريد الصدر من خلالها أن ينأى بنفسه عن السخط الشعبي من حرائق المستشفيات، وانقطاع الكهرباء والمياه، والإدارة البشعة للمسؤولين العراقيين؛ لذلك، فأن قراره بعدم المشاركة بالانتخابات أو دعم أي كيان سياسي، قد تكون خطوة للانسحاب إلى الخلف تكتيكياً واستراتيجياً، وإعادة ترتيب الاوراق وتنظيم صفوفه، ولاسيما بعد موجة الانتقادات التي طالت حاشيته ووزراءه واتهامهم بالفساد والابتزاز. فضلاً عن ذلك، "يعتقد بعض المتخصصين"، بأن تأجيل الانتخابات، وعدم أجراءها في تشرين المقبل قد يكون احدى الدلالات الرئيسة لقرار الصدر بالانسحاب من الانتخابات المقبلة.
بموازاة ذلك، هناك تداعيات خطيرة، ستترتب على انسحاب الصدر من الانتخابات المقبلة، سواء ما يتعلق منها بالنتائج المترتبة على العملية السياسية والنظام السياسي بشكل عام، او ما يترتب على طبيعة التحالفات السياسية ونفوذ القوى السياسية الشيعية داخل قبة مجلس النواب، أو في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة؛ لذلك ربما يصبح خيار تأجيل الانتخابات أو إلغائها خياراً سياسياً مطروحاً بقوة، إذا ما أصر السيد الصدر على عدم المشاركة فيها. فضلاً عن ذلك، فأن عزوف انصار التيار الصدري عن المشاركة السياسية في الانتخابات القادمة، سيضع نتائجها في زاوية حرجة، على الرغم من أنه لا يؤثر في شرعيتها، ولاسيما أن الدستور والقانون العراقي، لم يحدد نسبة معينة لتحدد شرعية الاستحقاق من عدم شرعيته، إلا أنها من المؤكد ستضع عليها الكثير من المؤاخذات، وستتًّسبب بأزمة سياسية، ولاسيما في ظل الثقل السياسي الكبير للتيار الصدري وجمهوره، الذي من شأنه أن ينعكس على مستوى الحكومة المقبلة والمعادلة السياسية القادمة وخارطة التوازنات الداخلية والخارجية في البيئتين (الشيعية والعراقية).
بالمجمل، هناك دلالات واضحة في رسالة انسحاب السيد الصدر وعدم مشاركته في الانتخابات المقبلة، وهناك أيضاً تداعيات ستترتب على عملية الانسحاب، إلا أن هناك الكثير من الأمور والحوادث والاستنتاجات، التي يمكن ان نستشفها من خطاب وخطوة الصدر الأخيرة. فربما يكون الانسحاب، هو انسحاب شخصي تكتيكي للسيد الصدر، أي بمعنى، أن التيار الصدري سيشارك في الانتخابات المقبلة، لكن بعيداً عن الواجهة الإعلامية للسيد الصدر؛ من أجل ابعاد المشككين والمنتقدين له شخصياً، أو قد يؤدي ضغط القوى السياسية إلى العدول عن قراره بعدم المشاركة، وبالتالي، هي رسالة استنهاض همم لجماهيره، أكثر مما هي رسالة مقاطعة، ولاسيما اذا ما اخذنا حجم التداعيات التي ستترتب على عدم مشاركة التيار الصدري في الانتخابات المقبلة على مستوى التوازنات (السياسية والمذهبية) في السلطتين (التشريعية والتنفيذية)، التي من المؤكد بأنها لم تغيب عن حسابات السيد الصدر والقوى السياسية الشيعية، والاخيرة ربما سترضخ وتنصاع لما يريده الصدر في الانتخابات المقبلة.