أن الانتخابات القادمة قد تكون مختلفة عن سابقاتها بحدثين مهمين: الأول، هو أن الانتخابات يمكن اعتبارها مبكرة، كمطلب مهم ورئيس من مطالب انتفاضة تشرين. أما الحدث الثاني، فيتمثل بالقوى أو الحركات السياسية – التي تصنَّف بأنها تشرينية أو ممثلة عن حركات الاحتجاج، التي ستشارك في الانتخابات القادمة، وما يمكن أن تضيفه هذه الحركات على مخرجات العملية الانتخابية على المستوى التشريعي والتنفيذي
لعل عنوان المقال يتشابه كثيراً أو مستوحى من عنوان الكتاب الذي اشتركت في تأليفه "مع نخبة من الباحثين والأكاديميين العراقيين" العام الماضي عن حركة الاحتجاجات العراقية 2019، الذي صدر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث في دولة الإمارات، والتساؤل الذي طرحه عن مستقبل الدولة المدنية في العراق. ولعل من المفارقات المهمة، أن تأتي الانتخابات التشريعية العراقية القادمة بنفس الشهر الذي انطلقت فيه احتجاجات تشرين قبل عامين؛ لذلك تم انتقاء عنوان المقال ليطرح نفس التساؤل تقريباً، أو ما يمكن أن يطرحه من تساؤلات حول مخرجات هذه الانتخابات في رسم أو فرض ملامح وقيَّم الدولة العراقية بمختلف مسمياتها (المدنية، القومية، الحديثة) أو ما يمكن أن نصطلح عليها دولة المواطن أو دولة القانون؟
بالتأكيد هناك شبه اتفاق على فشل مخرجات كل الدورات الانتخابية العراقية السابقة على المستوى التشريعي والتنفيذي والرقابي، وانعكاسه على القطاعات الخدمية والتعليمية الاخرى، ولاسيما ما يمس حياة المواطن العراقي بشكل عام. إذ خلقت تلك الدورات قناعة وانطباع سلبي عند الناخب العراقي بين مقاطع ومُشكك، وحتى الناخبون الذين يمارسون حقهم الانتخابي ويدلون بأصواتهم، يمكن تصنيفهم إلى صنفين: بين من يأمل أن تسهم مشاركته الانتخابية في تغيير واقع العملية السياسية المرير، وبين من يهدف إلى الحفاظ على المكاسب المتحققة، بغية تحقيق مكاسب أكثر، لكنهم –وبشكل عام – لا تختلف ثقتهم بمخرجات العملية الانتخابية عن عامة الشعب العراقي. إلا أن الانتخابات القادمة قد تكون مختلفة عن سابقاتها بحدثين مهمين: الأول، هو أن الانتخابات يمكن اعتبارها مبكرة، كمطلب مهم ورئيس من مطالب انتفاضة تشرين. أما الحدث الثاني، فيتمثل بالقوى أو الحركات السياسية – التي تصنَّف بأنها تشرينية أو ممثلة عن حركات الاحتجاج، التي ستشارك في الانتخابات القادمة، وما يمكن أن تضيفه هذه الحركات على مخرجات العملية الانتخابية على المستوى التشريعي والتنفيذي؟
لا يمكننا أن نستبق الاحداث السياسية أو أن نجزم بفشل مخرجات العملية الانتخابية، أو أن نقارنها بمن سبَّقها، لكن يمكن أن نستقرأ تلك المخرجات بطبيعة التحالفات والقوى السياسية المشاركة، وطبيعة البيئة السياسية والأمنية ومدى قدرة الحكومة العراقية في السيطرة على الدعاية الانتخابية وحماية الانتخابات والمرشحين. فبعض المحللين والمتخصصين يعتقدون بأن نتائج الانتخابات القادمة لا تختلف كثيراً عن نتائج انتخابات عام 2018 على المستويين التشريعي والتنفيذي، سواء في التكتلات أو التحالفات السياسية الضيقة الموجودة داخل مجلس النواب العراقي، أو في طبيعة سيطرة الأحزاب السياسية المشاركة في تقاسم الحكومة بطريقة المحاصصة الزبائنية (السياسية، الطائفية، الحزبية، القومية)، فضلاً عن المساومات وعمليات بيع الوزارات والدرجات الخاصة... وغيرها. وربما الفارق في هذا الاعتقاد يكمن بمنصب رئيس الوزراء، الذي يرجح أن يحتفظ فيه السيد الكاظمي لولاية ثانية، بدعم بعض القوى السياسية، ولاسيما كتلة التيار الصدري وزعيمها السيد مقتدى الصدر، الذي تجمعه علاقة وطيدة مع السيد الكاظمي، فضلاً عن الغزل السياسي الذي حدث بينهما في الفترة الماضية. وهذا الاعتقاد يكاد تتشارك فيه اغلب طبقات المجتمع العراقي من مثقفين متخصصين وعامة الناس، بالنظر إلى تجارب الدورات الانتخابية السابقة، بغض النظر عن الطبيعة السياسية والتكوينية للانتخابات القادمة. أما الرهان حول دور حركات الاحتجاج وجماهيرها، وقدرتهما في تغيير مسار نتائج الانتخابات ومخرجاتها، فيبقى التأثير نسبي جداً، ولاسيما مع حالة التشريد والتخوين والاغتيالات، التي تعرض لها اغلب وجهاء وناشطي انتفاضة تشرين، فضلاً عن الاتهام والتهجير والملاحقة القانونية التي يتعرض لها الكثير من جماهيرهم، وانسحاب بعض الحركات السياسية، احتجاجاً على اغتيال الناشط المدني ورئيس تنسيقية كربلاء ايهاب الوزني قبل شهرين تقريباً، وهذا من شأنه أن يضع دائرة المنافسة أو يحصرها بين اقطاب العملية السياسية الرئيسة بشكل كبير. فالانتخابات القادمة لا يمكنها أن "تحدث تغييرا جذريا ولا استنساخا تاما للتجارب السابقة"، على حد تعبير الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط حارث حسن؛ لذلك فأن "مخرجات الانتخابات القادمة، من المؤكد أنها لن تكون منسجمة تمام مع مطالب المحتجين، أو أن تأتي بدماء جديدة". وسيبقى فرص القوى الجديدة التي أفرزتها الحركة الاحتجاجية، محدود جداً ولا يمكنها أن تحدث اختراقا كبيراً.
ربما الفارق يكمن في طبيعة التحالفات السياسية ما بعد الانتخابات، ولاسيما أن بعض القوى السياسية نشطت في الفترة الأخيرة من أجل تغيير طبيعة تحالفاتها، وهناك تحركات سياسية توحي إلى ذلك. كالتحركات المكوكية لزعيم تيار الحكمة السيد عمار الحكيم إلى محافظة الموصل وبعض المحافظات العراقية، كذلك التقارب بين التيار الصدري وزعيم الحزب الديموقراطي الكردستاني مسعود بارزاني وبعض القوى السنية. فضلاً عن ذلك، فهناك تحركات سياسية بين تحالف الفتح الذي يتزعمه هادي العامري، وبين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والاتحاد وقوى سنية أيضا. هذه التحالفات أذا ما حدثت، فأنها قد تكون تحالفات شكلية (قديمة جديدة)، لا يمكنها أن تُحدث تغيير إيجابي لمصلحة (الدولة والمجتمع)، شأنها بذلك شأن التحالفات السابقة بين التحالف الوطني العراقي السابق والقوى الكردستانية، او التحالف (الشيعي الكردي)، حتى وأن تضَمَّن بعض القوى السنية، كما حدث في انتخابات عام 2018 كتحالف (الإصلاح والبناء). بموازاة ذلك، علينا أن نسَّلم بنقطة مهمة، بأن القوى السياسية الموجود في العملية السياسية، أو الاقطاب الرئيسة للعملية السياسية، رسخَت وجودها في كل مؤسسات الدولة، وتقاسمت مواقع النفوذ ومؤسسات الدولة، ولديها تجربة وخبرة في الاحتيال على إرادة القانون والمواطن، ولا يمكن لأي قوى سياسية ناشئة منافستها على المستوى السياسي في المدى القريب – ليس بعدد جماهيرها أو بقوة قواعدها الاجتماعية – وإنما للأسباب أعلاه، وأخرى معروفة للجميع. ظاهرة تشرين وجماهيرها والحركات السياسية التي انبثقت منها، ربما تفوقها كثيراً بقواعدها الشعبية والجماهيرية، لكنها تفتقر إلى التنظيم والأرضية السياسية والإعلام والدعم السياسي والمالي، التي تمَّكنها من منافستها سياسياً؛ لذلك اغلب المؤشرات توحي إلى أن الدورة الانتخابية القادمة لا تختلف كثيراً عن مخرجات الدورات الانتخابية السابقة على كافة المستويات. وربما في أحسن الاحوال، تكون هناك دماء جديدة تنعش عمل السلطة التشريعية وطريقة إدارتها واداءها التشريعي والرقابي، لكنها بالمجمل، لا يمكنها التأثير بشكل كبير في طريقة إدارة الدولة والحكم والعمل التنفيذي، أو أن ينعكس عملها على فرض مقومات وقيّم الدولة القومية الحديثة، او مشروع الدولة الديموقراطية في العراق على المدى القريب أو المتوسط، لكن من الممكن أن تلتقي الدماء الجديدة – اذا ما حافظت على استقلاليتها ومشاريعها السياسية الوطنية- على المدى المتوسط والدورات الانتخابية القادمة، مع دماء شبابية ومشاريع أخرى، هدفها الصالح العام ومشروع الدولة المدنية؛ الأمر الذي سيجعلها مؤثرة بشكل أكبر على المستويين (الشعبي والسياسي). سواء في فرض قيَّم الدولة الحديثة أو في تلبيتها لاحتياجات المواطن العراقي على المستويات (الخدمية والصحية والأمنية)، أو منافستها لأقطاب العملية السياسية الرئيسة. لكن بالرغم من ذلك، فأن التغيير من طبيعة المعادلة السياسية ومخرجات العملية الانتخابية – على المدى القريب – مرهون بإصرار القوى السياسية الحالية في الانقلاب على منظومة التوافقات التي انتجت الحكومات السابقة، ومدى قوة أو ضعف التدخلات الخارجية، التي كانت لا تسمح بقيام أي تحالفات جديدة قادرة على انشاء حكومة قوية في قبال معارضة قوية، أو في تغيير المعادلة السياسة في العراق لصالح الدولة وقيمها والمجتمع ومتطلباته في العيش الكريم.
اضافةتعليق