إن تداعيات الأزمات والأوبئة ذات البعد السياسي هي من أخطر الأزمات التي تعّرض الدولة إلى التفتيت والانهيار وتهدد بقائها وتعرضه للخطر؛ وذلك بسبب حساسية وضعها وشمولية تأثيرها والارتباط بالإبعاد المحلية والإقليمية والدولية
إن تداعيات الأزمات والأوبئة ذات البعد السياسي هي من أخطر الأزمات التي تعّرض الدولة إلى التفتيت والانهيار وتهدد بقائها وتعرضه للخطر؛ وذلك بسبب حساسية وضعها وشمولية تأثيرها والارتباط بالإبعاد المحلية والإقليمية والدولية، وتظهر فجأة وتتأثر به المصالح الوطنية وتبرز جماعات المعارضة وتنشط الحركات والعناصر الانفعالية، كما تخلق نوعاً من عدم الاستقرار والتوازن السياسي بين القوى السياسية الوطنية، يؤدي إلى حالة من الاحتقان بين شرائح المجتمع يدفعها إلى الاحتجاجات والمظاهرات والعصيان المدني، واذا استمرت هذه الأزمة وتطورت أصبحت تولد أزمات مصاحبة يصعب مواجهتها وحلها، وتؤثر تأثيراً كبيراً في شرائح المجتمع، وقد تدفعهم إلى الشغب أو العصيان المدني، مما يهدد النظام أو مفاصل القرار السياسي فيه. ولعل ما يعيشه العالم اليوم نتيجة تفشي وباء كوفيد 19 على المستوى العالمي، دليل واضح على ذلك، فالكثير من دول العالم والمنطقة، ولاسيما بعض الانظمة السياسية الشرق اوسطية، اصبحت يراودها الشك في مستقبل انظمتها السياسية، فيما لو استمر هذا الوباء لسنوات قادمة، إذ يواجه الكثير من قادة الدول في مختلف أنحاء العالم "وقتا حرجا" مماثلاً، في ظل تفشي وباء كورونا المستجد كوفيد 19، الذي يهدد أرواح الملايين بشكل فعلي، وتعد إيران من أكثر دول المنطقة تضرراً بهذا الوباء بالنسبة لأعداد الاصابات والوفيات، مقارنة بدول المنطقة، على الرغم من بنيتها التحتية ونظامها الصحي المتطور "نوعاً ما" بالقياس إلى دول المنطقة. إذ تعتمد إيران في تعاملها مع الأزمات والأوبئة وغيرها من القضايا الطارئة على مجموعة محددات، منها ما هو سياسي، يتراوح ما بين التفاوض والتقاطع، والتعاطي بين الاثنين، ومنها ما هو عسكري، يتراوح بين القوة والتهديد بالقوة، والحرب بالوكالة وغيرها من المفردات العسكرية والأمنية، ومنها ما يتعلق بأمور اخرى كتلك الوسائل التي دائماً ما تحاول الإدارة الإيرانية تطبيقها في قضاياها الخارجية، سواء تلك الوسائل التي تتعلق بأدواتها الناعمة أو غيرها من الوسائل التي تتعلق بطبيعتها الثقافية والتاريخية، وهذا الوسائل ربما تشترك فيها إيران مع اغلب دول العالم، إلا أن هناك بعض القضايا التي تنفرد بها في طبيعة تعاطيها مع الأزمات والأوبئة والكوارث، وهذا التعامل نابع من طبيعة نظامها السياسي، إذ تمتلك إيران، حسب تعبير الباحث محمد الأمين، "نظامًا سياسيًا هجينًا -إن صحّ التعبير- يبتكر مفهوم “الديمقراطية الدينية” باعتباره نموذجًا فريدًا من نوعه، يصلح أن يكون مصدرًا من مصادر القوة الناعمة الإيرانية لما يقدمه من جديد في هذا الموضوع، وكونه بديلاً عن النظم التقليدية المعروفة في العالم"، وتعد إيران إنموجاً حياً في توظيف القوة الناعمة وعناصرها في إدارة الأزمة، وهذا ما شاهدناه ولاحظناه من خلال أزمة ملفها النووي مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية. إذ حاولت الإدارة الإيرانية بمؤسساتها السياسية والدينية مجتمعةً، أن توظف جميع تلك العناصر مع كل أزمة، ولاسيما تلك العناصر التي تقوم على الفرضيات الدينية والمذهبية. وهذا ما نلاحظه أيضاً في طريقة تعاطي الإدارة السياسية والمؤسسة الدينية الإيرانيتين مع أزمة كوفيد 19 على المستويين الرسمي وغير الرسمي.
فقد ذهبت النخبة الدينية والسياسية الحاكمة في إيران وعلى رأسها المرشد الأعلى السيد على الخامنئي في تصريح نقلته "وكالة مهر للأنباء" إلى أنّ كوفيد 19 أو كورونا فيروس قد تمّ تخليقه بيولوجياً من قوى الاستكبار العالمي؛ وذلك من أجل استهداف إيران والثورة الإسلامية. هذا التصريح حملته بعض القنوات والمحطات الإعلامية على محمل الجد، باعتبارها فرضية غير قابلة للشك؛ لكونها صدرت من أعلى مؤسسة دينية في البلاد، وهي مؤسسة جامعة للأمور السياسية والروحية، على غرار المؤسسات الدينية التي حكمت اغلب الإمبراطوريات في العصور الوسطى، التي كان حكامها يستمدون مواقفهم وشرعيتهم من الله (سبحانه وتعالى). وبدأت تلك القنوات والمحطات الإعلامية بتسويق خطاب المرشد، إعلامياً وسياسياً بين اوساط النخب والمجتمع الإيراني، وبدأ تسويقه إقليمياً وعالمياً أيضاً. وعلى أثر ذلك، أمر رئيس السلطة القضائية في البلاد بتعزير قدرات إيران البيولوجية في 16 مارس 2020، وبدأت الأوساط الدينية والسياسية بتكرار فرضية المرشد، إذ اتهم آية الله خاتمي، الأمريكيون باختلاق هذا الفيروس، كذلك الحال بالنسبة لآية الله حيدري، الذي وضع نظريتين لتفشي الفيروس، الأولى طبيعية، والثانية بيولوجية، وقد رجح النظرية الثانية على الأولى؛ متهماً الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بمحاولة ضرب الثورة الإسلامية، وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الكثير من الإيرانيين على المستويين (الرسمي وغير الرسمي)، وعلى الرغم من أن هذه الفرضيات تفتقد إلى أدلة عميقة وحقيقية، إلا أنها خلقت إدراكاً وقناعة تامة عند اغلب أو بعض طبقات المجتمع الإيراني، ولاسيما في ظل العقوبات الاقتصادية القاسية التي فرضتها الإدارة الأمريكية على طهران، والمخاوف من انهيار النظام السياسي أو تفشي حالة اللاستقرار في البلاد. ففي الوقت الذي أُتهمت فيه الصين من أغلب دول العالم عن مسؤوليتها في تفشي الوباء بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، نرى بأن الإيرانيين عمدوا إلى طريقة أخرى في توظيف أزمة تفشي الوباء، بطريقة تتناسب مع معطيات الفكر السياسي الإيراني والنظرية السياسية الحاكمة في إيران، والعقل السياسي الإيراني، وطبيعة الأزمة والتحديات الراهنة، ولاسيما مع حالة الصراع التي تعيشه إيران مع الولايات المتحدة وبعض دول المنطقة وإسرائيل. وهذا ما يعزز كثيراً من شرعية النظام السياسي، ولاسيما وأن من الصعوبة بمكان التفريق بين الخطابين (السياسي والديني) في منظومة الحكم الإيرانية أو فلسفة الدولة الإيرانية. إذ ذهب بعض رجال الدين إلى أن مدينة قم، هي المستهدف من هذا الوباء، في ظل تعالي الأصوات في الداخل الإيراني بعزل هذه المدينة عن المدن الأخرى؛ لتفشي الوباء فيها، وهذا ما اعتبره البعض، بأنه استهداف ممنهج للمدينة؛ بسبب قدسيتها وعاصمتها للثورة الإسلامية.
إن استعمال بعض المفاهيم الدينية من قبل المؤسسات الإيرانية (الرسمية وغير الرسمية) وخلطها بالواقع ومجريات الأمور العامة على الصعيدين (الداخلي والخارجي) اصبحت فلسفة خاصة يتميز بها النظام السياسي الإيراني، وأن ادلجتها بمفاهيم عابرة للطائفيات والقوميات والحدود القومية، أصبح خطاب عام، لايمكن فصله بأي شكل من الأشكال عن شكل الدولة وطبيعتها ونظامها السياسي. وهذا الخطاب كثيراً ما استحضرته القيادة الإيرانية مع تفشي وباء كوفيد 19، فقد استعمل رجال الدين مصطلحاتٍ دينية ومذهبية خالصة، لمخاطبة الجماهير إبان أزمة كورونا، باعتبارها ابتلاءً من الله، ومحنة ينبغي الصبر عليها، لتحويلها إلى منحة، وباعتبارها تارةً أُخرى، عاملاً من عوامل تهيئة الأرض لظهور المعصوم، وايذاناً بتأسيس الحكومة العالمية. وهذه المقاربة كثيراً ما تقترب من خطاب الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، الذي كثيراً ما استخدم تلك المقاربة أبان فترة رئاسته، إذ يعتقد احمدي نجاد، ومن خلال إيمانه بنظرية ولاية الفقيه العامة المطلقة، التي طرحها السيد الخميني، وضّمنها في نظرية سياسية بعد عام 1979، أن الوظيفة الوحيدة للجمهورية الإيرانية هي التمهيد لإقامة الحكومة العالمية بقيادة الإمام المهدي المنتظر. ففي عام 2005 القى الرئيس احمدي نجاد خطاب امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبعد عودته إلى إيران، روى الرئيس إلى المرجع آية الله جواد آملي، أن أحد الحاضرين هناك أخبره، بانه كان محاطاً بهالة نورانية طوال فترة إلقاء الخطاب. وخلال زيارته لمحافظة مشهد في السادس من أيار 2008، القى الرئيس خطاباً أيضاً أمام أساتذة الحوزة العلمية وطلبتها، قال فيه: "إن الإمام المهدي يدعم أداءه الرئاسي ويدير برامجه الحكومية"؛ مما عرضه إلى انتقادات واسعة من قبل التيار الإصلاحي والتيار المحافظ، وقد تكللت تلك الخطابات بإصدار كتاب (أحمدي نجاد والثورة العالمية المقبلة) لصاحبه شادي الفقيه. هذا الخطاب وقت الأزمات، دائماً ما يمثل الدعامة الأساسية للنظام السياسي الإيراني من خلال تسويق خطابه السياسي بهذه الطريقة؛ لذلك نرى بأن طريقة التعاطي مع أزمة كوفيد 19 من قبل المؤسستين (السياسية والدينية)، كانت تمثل الدرع الحصين للنظام السياسي، ولاسيما في ظل تفشي الوباء والمخاوف من انهيار النظام السياسي؛ بسبب العقوبات الأمريكية، وركود الاقتصاد العالمي، واغلاق الحدود وتوقف السياحة، وانخفاض اسعار النفط... وغيرها من العوامل.
بشكل عام هذا الخطاب الذي يتميز به الفكر السياسي الإيراني، عادة ما يكون حاضراً في كل أزمة يتعرض لها النظام السياسي الإيراني، ومع كل أزمة يبادر الإيرانيون إلى تصدير خطابهم الديني، واستمالة شعور الناس، بخطاب لا يختلف كثيراً عن خطاب الأمريكيين القوميين أو خطاب الاباء المؤسسين للولايات المتحدة الأمريكية او خطاب القوميين اليهود أو الأوروبيون، القائم على استحضار الايديولوجية الدينية والتاريخ، واستحضار فكرة المهدي المنتظر او المنقذ المخلص للبشرية؛ لذلك الكثير من النخب الدينية الإيرانية، اعتبرت أن أزمة كورونا، هي تمهيد لظهور المعصوم، وهناك بعض رجال الدين الولائيين أخذوا بالحديث عن علاقة المهدي بجائحة كورونا، باعتبارها مؤشر من مؤشرات أو علامة من علامات قرب ظهوره، ولاسيما في ظل تصاعد فرضية أو فرضيات انهيار النظام الدولي والنموذج الغربي، واحلال نموذج الإسلام الإيراني. وحقيقة الأمر هذا التوظيف فيه الكثير من الإيجابيات والسلبيات أيضاً، وتكمن إيجابياته في الحفاظ على بنية الدولة الإيرانية ونظامها السياسي وتماسكها الاجتماعي بوجه الازمات والكوارث الطبيعة والمفتعلة؛ ولاسيما الازمات الخارجية، إلا أن هذا التوظيف ربما يكون له ارتدادات داخلية وخارجية في المستقبل القريب او البعيد، وقد يُضعف فرضية الإمام المهدي المنتظر والأطروحة العالمية، ويزيد من حالة السخط الشعبي أو المذهبي ضد النظام السياسي، لكن بالمجمل "وعلى ما يبدو" بأن هذا التوظيف ناجح لحد الآن، وهذا النجاح ربما تتوفر له حتى الآن عناصر أخرى "عناصر مغطاة" أو عناصر ضمنية، ربما قد تتلاشى تلك العناصر تدريجياً، أو قد تتأكل شرعيتها مع كثرة الأزمات وتعدد أطرافها (الداخلية، الإقليمية، الدولية)، ولاسيما في ظل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يعيشها المجتمع الإيراني اليوم، والتحديات الإقليمية، وتمدد إيران السياسي والعسكري في بعض دول المنطقة؛ الأمر الذي يعود عليها سلباً، فضلاً عن مشاكلها العالمية سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو إسرائيل أو غيرها من دول العالم والمنطقة. فضلاً عن ذلك، فأن مزاعم السلطة الدينية "انفة الذكر" لم تخفي بعض عيوب النظام السياسي الإيراني وضعف تماسكه الداخلي وتمدده الإقليمي وتطلعاته الخارجية، التي تتكشف مع كل أزمة، لكنها قد تكون منضبطة وتحت السيطرة، بقوة المؤسسة الأمنية والعسكرية، والتحالف بين المؤسستين (السياسية والدينية).
اضافةتعليق