قراءة في مستقبل العراق على ضوء التحولات الدولية

شارك الموضوع :

كما كان متوقعا فقد تفجر الصراع السياسي الذي كان مؤجلا منذ الانتخابات التشريعية العراقية في اذار 2010 بين ائتلاف دولة القانون والقائمة العراقية، وآيا كانت الأسباب او الحجة التي أظهرت النار التي مافتئت تحت الرماد فان الأغلب يجمع بان العلاقة المتوترة وغير المستقرة بين رئيسيي الائتلافين منذ تشكيل الحكومة ولحد الآن كانت الأرضية التي أسست لهذا الصراع. الجنرالات الأمريكية التي كانت متواجدة بصورة مباشرة على الأراضي العراقية يبدو إنها كانت طرفا مهما في فرض هدوء سياسي مؤقت، هذا الهدوء لم يدم طويلا حين أتت عاصفة مذكرة إلقاء القبض بحق نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي لتفتح الباب على معركة ( فتح الملفات) التي يهدد كل طرف بتحريكها ضد الآخر من المسؤولين العراقيين، ورغم إن الأغلب غير متفائل بالمؤتمر الوطني الذي يجتهد رئيس الجمهورية جلال الطالباني في التحضير حيث تتكرر المشاكل القديمة الحديثة، لكن الامور تبدو انها سوف تجد طريقها للخفوت والتلاشي بشكل تدريجي والأمور ستكون أكثر وضوحا بمرور الوقت. ورغم الوضع الضبابي الحالي والتداخل الكبير للأزمات إلا إن قراءة الوضع الإقليمي والعالمي بصورة شمولية للمنطقة ككل تعطي وضوحا أكثر وتظهر بان الوضع العراقي المستقبلي يتجه نحو هدوء و توافق سياسي و(عقلنة) بعد انتهاء مرحلة (المراهقة السياسية) التي يعيشها اليوم وهو شيء طبيعي لأي دولة تتحول من نظام شمولي الى آخر تعددي وبهذا التنوع المذهبي والقومي، خصوصا مع تراكم المشاكل السياسية التي عاشها داخليا او مع دول الجوار والمنطقة عموما. هذا التصور المتفائل الذي يرى في الصورة المستقبلية للعراق استشرافا ايجابيا وتطورا نوعيا في اغلب ميادينه يعتمد في ذلك على عدة محاور منها: أولا: الوضع العالمي الجديد فالاتجاه العام لأغلب دول العالم عموما هو ضرب الأنظمة الشمولية والانظمة الاستبدادية التي يسيطر عليها (الحرس القديم)، واستبدالها بأنظمة تعددية وتداول سلمي للسلطة، وقد تكون القضية ليست بالصورة الوردية كما نعتقد ولكنها ستكون ضمن هذه الأطر بصورة عامة مع ضمان مصالح الدول الكبرى في مجمل هذه التحولات، وعلى ما يبدو إن استبدال تلك الأنظمة بالأنظمة الحديثة إنما هي طريقة مبتكرة لمعايشة الواقع الجديد وضمان مساحات اكبر لنمو الاقتصاد العالمي والغربي وذلك بوجود مساحات استهلاكية اكبر في الدول المتحولة حديثا للديمقراطية في كل الميادين، والعراق كان أول تجربة تعد ناجحة في سياق التحول من الشمولية الى التعددية وهو الآن في الحظيرة الدولية يعد من الدول التي خرجت من (محور الشر) وبدأت تتعافى من تاريخها السابق لتنمو نموا طبيعيا وهو مساحة جيدة للسوق العالمي للتنافس فيه، وتحرص الدول العالمية خصوصا التي شاركت في تغيير النظام السياسي فيه بإنجاح تجربتها التي وعدت شعوب المنطقة بها كنموذج ديمقراطي تعددي. ثانيا: الوضع الإقليمي ودول الجوار 1- المحور المعارض (السلبي): مما لاشك فيه إن التأثير الإقليمي والتدخل السلبي لأغلب دول الجوار كانا سببا رئيسا لزعزعة الداخل العراقي لمابعد2003، هذه الدول التي ساهمت بشكل او بأخر بتشنج الوضع السياسي العراقي، وتنقسم الى نوعين، النوع الأول حيث شهد قسم منها حالة من الربيع التغييري لحكوماتها و بدأت شعوبها بقطف ثمار التغيير فيما لا يزال الآخر يسير في بداية الطريق، وفي كلا الحالتين فان هذه الدول ستنشغل بنفسها والمشاكل التي ستواجهها في بناء أنظمتها الجديدة لفترات ليست بالقليلة يكون العراق قد استغلها لترتيب بيته الداخلي. النوع الثاني من الدول التي وقفت بالضد من التغيير السياسي في العراق، هي دول بدأت بمرحلة (الهرم والشيخوخة) السياسية حيث إن اغلب حكومات هذه الدول تعد من النوع الملكي التوارثي، والذي بدأ يُرفض بشكل او بآخر عالميا وشعبيا، كونه يعد من أوسع الأنظمة الممولة للفساد والإرهاب والتطرف الذي يهدد السلم والأمان العالميان، لذا فان بقاءها في سدة الحكم لن يدوم طويلا ليشمله ربيع التغيير الذي ما يزال طوفانه يسير بشكل تتابعي في دول المنطقة. 2- المحور الداعم للتغير(الايجابي او المعتدل): هذا المحور من الدول سواء الإقليمية او المجاورة للعراق واتخذت موقف الحياد او الترقب من التغيير السياسي فهي في اغلب الأحوال رحبت بهذا التغيير كون النظام السابق سبب لها مشاكل كبيرة وكانت ترى في العراق مصدرا للتهديد او الإزعاج على اقل تقدير فيما ترى اليوم ان هذا البلد يعد أرضية خصبة لبدء علاقات متينة للمنفعة المتبادلة، في اغلب الميادين كونه يضم في قطاعاته المتنوعة سواء الصناعية والزراعية والتنموية موارد ضخمة لم تتم الاستفادة منها بشكل سليم في العقود السابقة إضافة الى نوعية تلك الموارد التي تعد من أفضل دول المنطقة. ثالثا: الوضع الداخلي 1- المستوى السياسي: بعد تسعة أعوام على التغيير السياسي تجاوز العراق اليوم اغلب المشاكل التي كانت تهدده والتي كان اكثرها قسوة مرحلة الاقتتال الطائفي ومحاولات البعض تأجيجه، ورغم المناكفات والمشاكسات السياسية فانه يعيش مرحلة (النقاهة) للهزات الأمنية والسياسية التي مر بها لما بعد 2003، ومرحلة النقاهة هذه لن تخلو من (وعكات) سياسية وحتى أمنية ولفترات ليست بالقصيرة ولكنها عموما ستكون بحدود المعقول والمقبول. غير انه يجب على الكتل السياسية العراقية إن تعي أن (الشغب السياسي) في هذه المرحلة يعتبر هدرا للوقت و بات يؤثر سلبا على النمو المؤسساتي للدولة العراقية بنمطها الحديث وخصوصا بوجود تراجع كبير في نوع الخدمات المقدمة للمواطن الذي يعد الأساس والمؤشر الأول لبيان نجاح الدولة من عدمه، فيما يبقى التنافس السياسي للأحزاب والكتل حقا مشروعا ما لم يخرج عن أطره القانونية وبما لا يضر بالمصلحة العليا للبلد وان يكون هدف الجميع هو بناء دول المؤسسات المدنية وتبقى لكل جهة رأيها في آلية العمل. 2- المستوى الاجتماعي (العام): يكاد يجمع أغلب المحللين السياسيين والمختصين في الشأن العراقي بوجود نمو وتطور نوعي بطريقة التعامل الاجتماعي مع النظام السياسي الجديد، وهو يقفز قفزات مهمة باتجاه دولة تعددية حديثة ولو بالمنظور البسيط، فيما بقي النسيج الاجتماعي العراقي بكل طوائفه متفقا ضمنا على التهدئة ونبذ العنف و التطرف والميل نحو الهدوء وتثبيت الأمن، هذا النسيج بقي متناغما في حل اغلب الإشكالات ومتلاحما في أقسى الظروف. خلال ذلك تحاول العقلية الاجتماعية العراقية أن تتسع لمفاهيم جديدة وفق النمط الديمقراطي مع الاحتفاظ بهويتها التاريخية وثوابتها الإسلامية والعقائدية والأخلاقية، مع توقع بظهور (لجماعات الضغط) التي تعد من العناصر المؤثرة والمهمة في بناء دولة المؤسسات والحفاظ على سلمية تداول السلطة، وتكون نقطة توازن سواء باتجاه تثقيف الشارع او بنقد الحكومة وتنبيهها الى نقاط الخلل فيها وهي في جميعها روافد تصب باتجاه بناء ثقافة اجتماعية واعية لدولة مؤسساتية يكون الإنسان فيها القيمة العليا والهدف الأساس. وخلاصة لما تقدم فان الأغلب يتوقع للعراق مستقبلا هادئا ونموا مؤسساتيا واقتصاديا جيدا وتوسع في مساحات الاستثمار ورواجا في الأسواق النفطية العالمية، وتراجعا تدريجيا في الإرباك الأمني والسياسي، مع توقع بتغيير خارطة التحالفات السياسية وظهور خطوط وشخصيات سياسية عراقية جديدة يكون لها دور في صنع القرار وإدارة الدولة وهي ظاهرة صحية تساهم في تنضيج الدول الديمقراطية الناشئة.
شارك الموضوع :

اضافةتعليق


جميع الحقوق محفوظة © 2023, مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية