الاشكاليات الإسلامية المعاصرة لمفهوم الدولة

إن المفهوم الإسلامي للدولة المعاصرة أو للدولة القومية، يعد من الإشكاليات الكبيرة والمعقدة، وهذه الإشكالية تمتد لمفهوم الدولة بشكل عام وليس بجزئيات معينة، أي بمعنى أن النظرة الإسلامية للدولة لم تتغير بتغير المراحل التاريخية والظروف السياسية والاجتماعية عبر التاريخ، وإنما بقيت حبيسة السلوك والتنظير الإسلامي الأول. فالدولة التي ارادها الرسول لا تزال راسخة في الفكر الإسلامي المعاصر ولم تتبدل أو تتغير بتغير الظروف الاجتماعية والسياسية أو بتغير ظروف الحاجة إلى الدولة. هذه الإشكالية بمجملها العام تعكس العلاقة الجدلية بين الدين والدولة عبر التاريخ، ليس على صعيد الفهم الإسلامي فقط، وإنما على صعيد الأديان الأخرى، فالتنظيرات السياسية لمفهوم الدولة تظهر لنا بشكل كبير تلك العلاقة الجدلية، وإن الأديان جميعها لا تستقيم مع المفهوم الحديث للدولة أو مفهوم الدولة القومية، إلا أن الفارق بين الدين الإسلامي والأديان الأخرى في النظرة إلى الدولة يكمن في طبيعة الفصل بين الدين والدولة، ففي الوقت الذي استطاعت أوروبا والحضارات الأخرى أن تفصل الدين عن الدولة في الممارسة السياسية، لا زال الفهم الإسلامي يركز على ضرورة عدم الفصل بين الدين والدولة، بل ذهب ابعد من ذلك حينما أكد على أن السياسة هي وظيفة دينية للدولة تمارس كل وظائفها تحت هذا العنوان، وهي بطابعها العام (حراسة الدين وسياسة الدنيا)، وأن ضرورة الدولة بالدرجة الأولى هي ضرورة دينية. هذه الرؤية تشكل محور التعارض بين النظرية الإسلامية والنظريات الأخرى في الوقت الحاضر.  فالكيان الاجتماعي الذي أقامه النبّي (ص) في المدينة مروراً بالدول الإسلامية المتعاقبة، كان يناسب المراحل الزمنية التي عاشها المجتمع الإسلامي أنذاك، ولم يكن متوافق مع أركان الدولة المعاصرة، فضلاً عن ذلك، فأن جل التنظيرات السياسية الإسلامية الحديثة والمعاصرة التي اهتمت بدراسة الدولة، كانت بعيدة عن المفهوم المعاصر للدولة أو لم تتناول الدولة كدولة، وإنما اغلب الدراسات الإسلامية كانت تبحث مفهوم الدولة تحت مفهوم الامة، وهذا بحد ذاته يعد من الإشكاليات المعاصرة لمفهوم الدولة. 

لا نريد أن نسرد اشكاليات الدولة بالفكر الإسلامي بشكل عام، ولا نريد أن نشتت فرضية المقال، بقدر ما نريد أن نركز خلاصة المقال على إشكالية كبيرة ومعقدة من إشكاليات الفهم الإسلامي لمفهوم الدولة المعاصرة، إلا وهي إشكالية (الإقليم أو الحدود) مع الدول الأخرى في الفكر الإسلامي، لعلنا نخرج بخلاصة مهمة تسهم في فك الارتباط بين المفاهيم الغامضة والمطاطية وتسهم في بلورة مفهوم الدولة بشكل أوضح في العقل السياسي الإسلامي أو في الفكر السياسي الإسلامي. 

بالتأكيد يشكل الإقليم احد أهم عناصر قيام الدولة المعاصرة وأهم مقومات وجودها ككيان سياسي تمارس من خلاله سلطة الأمر والنهي على رعاياها، فهو يمثل الحدود الفاصلة بين دولة وأخرى، وهو بمثابة العنصر الطبيعي أو الاصطناعي للدولة. ونقصد به بوجه عام ذلك الحيز المكاني من الكرة الأرضية الذي يخضع لسيادة الدولة، وترجع أهمية الاقليم بوجه عام الى أنه لا يمكن تصور دولة معينة دون وجود اقليم محدد وثابت تمارس عليه سلطات سياسية وادارية؛ ولهذا تحرص المواثيق الدولية على ضرورة احترام سلامة أراضي الدولة لدرجة أن مبدأ سلامة أراضي الدولة تعد من المبادئ الجوهرية التي لا يجوز الاتفاق على مخالفتها في القانون الدولي العام. 

ظهرت إشكالية الإقليم في الفكر الإسلامي منذ بدايات الإسلام الأولى وانتشاره في شبه الجزيرة العربية، وطبيعة علاقته مع الاقوام والديانات الأخرى، وتظهر هذه الإشكالية بالوقت الحاضر تحت مفهوم نظرية الحدود المرنة "كما يسميها بعض الفقهاء". ففي الوقت الذي تنشأ الدول الحديثة وفقاً لقواعد القانون الدولي باكتمال العناصر المكونة لها من: إقليم جغرافي ذي حدود واضحة، وأفراد وجماعات يسكنون هذا الإقليم، ونظام سياسي متبلور في حكومة تحكم ومعترف بها من قبل السكان، وبقية المجتمع الدولي، نرى بان الفكر الإسلامي لم يحدد شكل الدولة، بل اخضعها لرأي الأمة طبقاً للظروف (الاجتماعية والسياسية)، وهذه الظروف تتحدد من خلال (الوحدة الإسلامية، والمصلحة الإسلامية، والحدود التي تفصل المجتمع الإسلامي عن المجتمعات الأخرى)، فضلاً عن ذلك، فأن بعض الفقهاء يربطون قضية الإقليم بقضية الدعوة الإسلامية والجهاد الابتدائي. وهذا بحد ذاته يضعنا إمام تحديين كبيرين:

• استحالة قيام دولة إسلامية وفق هذا المنظور حتى وأن تهيأت لها الظروف المناسبة داخل المجتمعات الإسلامية.  

• إن قراءتنا لمفهوم الدولة وفق هذا التنظير، يضعنا بمواجهة الدول الأخرى أو الحضارات الأخرى التي تؤمن بمفهوم الدولة القومية والحدود الثابتة بعيداً عن نظرية الحدود المرنة وعلاقاتها مع الدول الأخرى. ولهذا فأن الطروحات الليبرالية بعد نهاية الحرب الباردة، لاسيما اطروحة صدام الحضارات وتركيزها على الهوية، لا يمكن تجريدها من تلك القراءات، فالكثير منها جاء كرد فعل على النظرية الإسلامية بشكل عام. فالإقليم عنصر مهم من عناصر تكوين الدولة ولا يمكن الدمج بين حدود دولتين أو أكثر وفقاً للتنظير الإسلامي التقليدي في الوقت الحاضر أو في المستقبل البعيد بشكل أو بأخر، إلا بإرادة إلهية. وإن الفكر الإسلامي بهذا التنظير يدخله في دائرة الافكار المثالية أو الطوبائية، فضلاً عن ذلك، فأنه يضع الإسلام في دائرة الاتهام من قبل الحضارات الأخرى.  

وعليه، نحنُ بحاجة إلى تبني قراءات إسلامية لمفهوم الدولة بصياغات واقعية معاصرة، تتناسب مع التغيرات والتطورات الحاصلة في الميدان الدولي وتتوافق مع معطيات الدولة نفسها، تقوم على احترام مفهوم الدولة المعاصرة وسيادتها القومية واحترام حدودها وحقوق مواطنيها بعيداً عن الاساطير الدينية. فالتفسير الإسلامي التقليدي لمفهوم الدولة، ينسف مفهوم الدولة المعاصر، ويجعل المسلمين في حالة تأهب دائمة بمواجهة الحضارات الأخرى، لاسيما وأن اغلب قراءات المسلمين للنظام العالمي قائمة على نظرية المؤامرة والريبة والشك، وهذه القراءة تجعلنا في حالة مواجهة دائمة مع مفهوم الدولة القومية ومع الحضارات أو الديانات الأخرى.    

التعليقات