ما زالت الاحزاب الإسلامية أو الإسلام السياسي غير قادر على التعاطي معها سواء فيما يتعلق بالديمقراطية كنظام أو الديمقراطية كسلوك إنساني على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، على الرغم من اعترافهم بالديمقراطية كنظام انتخابي واسلوب لإدارة الدولة
منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي وبالتحديد بعد الإطاحة بالأيديولوجية الشيوعية، أخذت مسألة الديمقراطية تطرح بوتيرة عالية في الساحة الفكرية الإسلامية، وجرى التعاطي معها بأنماط مختلفة من قبل المدارس الإسلامية والمفكرين الإسلاميين، يتناول بعضها الابعاد التاريخية التي ربطت الديمقراطية بالفكر الغربي في حين تناولها البعض من الناحية الفلسفية والسياسية والاجتماعية وطبيعة موائمتها مع الفلسفة الإسلامية سواء فيما يتعلق بمسألة الحكم أو في طبيعتها الاجتماعية والثقافية. ومنذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الحاضر (أي ما يقارب الثلاث عقود) وما زالت الديمقراطية محل جدال واسع في الساحة السياسية والفكرية الإسلامية، وما تزال الأسئلة التي طرحت أنذاك، تطرح إلى يومنا هذا، ومن تلك الأسئلة: هل الاسلام يتعارض مع الديمقراطية، وهل هناك ديمقراطية إسلامية معارضة للديمقراطية الغربية، وهل يمكن اعتبار الشورى في الفكر الإسلامي مرادفة لفكرة الديمقراطية في الفكر الغربي؟ وغيرها من الأسئلة التي ما تزال لحد هذه اللحظة تغلف الساحة الفكرية الإسلامية.
بالتأكيد اعتادت الساحة الفكرية الإسلامية على الانقسام الفكري حول المفاهيم الغربية، فلا يمكن أن نجد هناك موقف إسلامي محدد اتجاه القضايا الغربية الوافدة إلى الساحة الإسلامية، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة والمواطنة وغيرها من المفاهيم التي زاحمت الثقافة الإسلامية على المستوى السياسي والثقافي والاجتماعي. وإن الموقف من الديمقراطية لا يمكن الخروج به من تلك الفرضيات التي زينت الساحة الإسلامية في العقود الأخيرة، فهناك من يقف ضد الديمقراطية بشكل كامل، وهناك من يأخذها بكل تفاصيلها ويرى بأنها لا تتناقض مع الفكر الإسلامي، وهناك من زاوج بين الديمقراطية والشورى واصطلح عليها بـ (الشورقراطية)، وهذا بالفعل عيب كبير يصيب المنظومة الفكرية الإسلامية. وعلى الرغم من اتفاق المفكرين الإسلاميين حول أصل الديمقراطية كمفهوم غربي بدون أدنى شك، إلا أن موقفهم يختلف من مفكر إلى آخر، فكيف تناول الإسلاميين الديمقراطية، وكيف تعاطوا معها في كتاباتهم الفكرية الإسلامية؟
• الاعمال الفكرية التي حاولت أن تظهر ديمقراطية الإسلام مقابل ديمقراطية الغرب، وحاولت تلك الاعمال أن تتجاوز العلاقة الجدلية أو التعارض بين الديمقراطية والإسلام، ويرى البعض بأنها ديمقراطية خاصة تختلف عن الديمقراطيات الغربية في نشأتها وغايتها، وتتسع بأصول الحكم حتى تخرج بها من الصبغة المحلية إلى الصبغة الإنسانية الكونية. ومن أبرز الأعمال التي تصنف على هذا النمط كتاب الأديب محمود عباس العقاد (الديمقراطية في الإسلام) وكتب محمد جلال شرف في كتابه (نشأة الفكر السياسي وتطوره في الإسلام) وكتاب مالك بن نبي (حول الديمقراطية في الإسلام). وغيرها من الكتب.
• الاعمال التي حاولت أن تظهر مفهوم الشورى في الإسلام مقابل مفهوم الديمقراطية في الغرب، وهذا الأمر اعتاد عليه الكثير من المحدثين والمفكرين وحتى عامة المسلمين حين يناقشون فكرة الديمقراطية، أي أن الإسلام جاء بفكرة الشورى بناء على طبيعته الفكرية بوصفها مذهباً ومنهجاً إسلامياً يختلف عن الديمقراطية بوصفها مذهباً ومنهجاً في الثقافة الغربية. مثل كتابات حسن الترابي (نظرات في الفقه السياسي) وعبد الحميد الانصاري (الشورى وأثرها في الديمقراطية)
• الاعمال التي حاولت التشكيك وتوجيه النقد والهجوم على ديمقراطية الغرب، وهذه الاعمال مدفوعة بالدفاع عن الذات نتيجة الاستعمار الغربي الذي استباح الدول الإسلامية بإسم الديمقراطية، أي بدوافع أن الغرب لم يلتزم بالمبادئ الديمقراطية في علاقته مع الشعوب والحضارات الأخرى ولم يحترم معالمها وحقوق مواطنيها. وهناك الكثير من الكتابات الإسلامية التي وجهت النقد إلى الديمقراطيات الغربية مثل كتاب خالد محمد خالد (الديمقراطية ابدا).
• الكتابات الإسلامية التي اظهرت الديمقراطية على أنها مفهوم غربي (خاص بالغرب) لا يمت الإسلام بصلة ولا يلتقي مع الإسلام بشيء. ومثلت هذه الكتابات تيار عريض داخل الفكر الإسلامي، ومنها ردود فعل الجماعات الإسلامية السلفية وكتاباتهم وطروحاتهم الراديكالية، وتصنف على هذا النمط كتابات حزب التحرير الإسلامي، وكتاب السيد كاظم الحائري (أساس الحكومة الإسلامية).
وعلى الرغم من أن هذه الكتابات خرجت نوعاً ما من دائرة المواقف الرائجة في الساحة الفكرية الإسلامية التي تراوحت بين (رافض ومعارض ومزاوج بين الأثنين)، إلا أنها لم تعطي موقف إسلامي واضح وصريح اتجاه الديمقراطيات الغربية، وظلت الساحة الفكرية الإسلامية تدفع ضريبة ذلك التدافع وعدم الوضوح حتى يومنا الحاضر، لاسيما إذا ما علمنا بأن الموقف الإسلامي العام من الديمقراطية تحركه الحساسية الإسلامية من (أصل المفهوم والبيئة التي نشأ فيها) أكثر من مضمون المفهوم بحد ذاته، وهناك من يدخله بنظرية المؤامرة على الإسلام، أي بمعنى أن الديمقراطية هي جزء من المشروع الغربي في الهيمنة على شعوب العالم بشكل عام والمسلمين بشكل خاص. ولتجاوز الحرج الذي يكنف الساحة الفكرية الإسلامي هناك من دعا إلى استخدام المفاهيم الغربية بموازاة المفاهيم الغربية أو بديلاً عنا، وفي هذا الشأن جاء استخدام مفهوم الشورى بديلاً لمفهوم الديمقراطية ومفهوم البيعة بدلاً من مفهوم العقد الاجتماعي ومفهوم الإجماع بدلاً من مفهوم الرأي العام، إلا أن ذلك، لم يخرج الدائرة الإسلامية من الحرج أيضاً؛ وذلك بسبب الصعوبة العملية أو التطبيقية لهذه المفاهيم في الساحة الإسلامية المعاصرة، فضلاً عن ذلك، فأن الديمقراطية اصبحت الطريقة الأسهل في إدارة الأنظمة السياسية على الرغم من العيوب التي تكتنفها، وأن الأخذ بها سيترتب عليه حرج كبير، لاسيما وأن الديمقراطية تعتبر الشعب مصدر السلطات على العكس من الشورى التي ترى بأن الله هو مصدر السلطات، وهي ترتكز على فلسفة فردية في أصل الدولة، وتحجم دور الدولة مقابل الحريات الفردية السياسية والاقتصادية، وهناك من يرى بأن الديمقراطية تساوي بين الإيمان والإلحاد في مجال الفكر وأن بعض معطياتها على الصعيد الاجتماعي والثقافي لا تتناسب مع طبيعة الإسلام واهدافه السامية؛ ولذلك نرى بأن الكتابات الإسلامية اختلفت في التعاطي مع مفهوم الديمقراطية، فهناك من يرفضها من الناحية الفلسفية بوصفها (مذهباً فلسفياً وفكرياً) ينتمي إلى الثقافة الغربية، وهناك من يرفضها بوصفها مذهباً اجتماعياً، وهناك من يتوافق معها توافقاً نسبياً كالشيخ (محمد الغزالي)، وهناك من اعتبرها نظاماً حيادياً، يمكن تفكيكه وتصويبه واخذ جوانبه الإيجابية في مسألة إدارة الحكم والتعامل معها بانتقائية، وهناك من يتوافق مع الديمقراطية ويفاضلها على النظام الدكتاتوري، إذا ما كنا مجبرين على خيار احدهما، وهذا الرأي يأخذ به السيد محمد حسين فضل الله، ويبرره بأن الإسلاميين يستطيعون ممارسة حريتهم في الدعوة إلى الإسلام في ظل النظام الديمقراطي، بينما يفتقدون ذلك على صعيد النظام الديكتاتوري. فضلاً عن ذلك، هناك من يرى بأن الاعمال الفكرية الإسلامية التي تناولت الديمقراطية لم تعطي تصور إسلامي واضح وعام حول موضوعة الديمقراطية، أي بمعنى آخر أن الاعمال الإسلامية لم تكن تمثل رؤية الإسلام كنظام بقدر ما كانت تمثل تيارات واشخاص أو اتجاهات معينة داخل الساحة الإسلامية.
هذه الرؤية الإسلامية ما تزال تزين الساحة الفكرية الإسلامية، وما زالت الاحزاب الإسلامية أو الإسلام السياسي غير قادر على التعاطي معها سواء فيما يتعلق بالديمقراطية كنظام أو الديمقراطية كسلوك إنساني على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، على الرغم من اعترافهم بالديمقراطية كنظام انتخابي واسلوب لإدارة الدولة. ولهذا اعتقد بأن مشكلة الإسلام والإسلاميين مع الديمقراطية مشكلة بنيوية مترسخة في العقل الإسلامي بشكل عام، وعليه ربما يكون التعاطي الإسلامي مع الديمقراطية بشكل نسبي (الطريقة المثلى)، أي بمعنى ألا نأخذ بالديمقراطية كمفهوم غربي، وإنما يمكن الأخذ به كمفهوم سياسي واجتماعي وثقافي مقنن (بمقاسات إسلامية) بما يتناسب مع الثقافة الإسلامية بجوانبها المختلفة. ولهذا على الساحة الفكرية الإسلامية أن تتعاطى مع الديمقراطية على أنها النموذج الأفضل لإدارة الدولة على كافة المستويات بعيداً عن الحساسيات المفرطة من المفهوم.
اضافةتعليق