مارست اغلب القوى السياسية في الانتخابات وما بعدها قدرا من الخداع لإرادة الناخبين وتحريف اصواتهم المحدودة تجلى بصور عدة بعثت برسائل سلبية للجمهور ولجمت الضوء في نهاية النفق في امكانية تحقيق التغيير والاصلاح بعد أكثر من عقد ونيف من التدمير.
كثيرة هي الاشكاليات السياسية التي رافقت بناء النظام السياسي في العراق في إطار التحول الى النظام السياسي الديموقراطي بعد 2003. ذلك الهدف الكبير الذي تبنته الادارة الاميركية بعد ان عمدت الى تغيير النظام باستخدام القوة العسكرية وبذلك أسست لأولى الاشكاليات السياسية وكرستها أكثر بعد ان عملت على حل القوى الامنية وبتأييد الحركات والتيارات السياسية التي دخلت البلاد مع الغزو الاميركي. الامر الذي أدخل البلاد في نفق انهيار الامن والسلم المجتمعي، وعدم الاستقرار الذي يسود الى الوقت الحاضر، والذي اسهم في تأسيس نمط فوضوي غير علمي وغير موضوعي للقيام بمتطلبات بناء الدولة واعادة بناء مؤسساتها ويدلل على تصارع ارادات سياسية لحركات وتيارات سياسية منعدمة الثقة ببعضها البعض ومنعدمة المشروع الوطني لبناء الدولة. لذا لجأت ولا زالت الى اسلوب رد الفعل لمواجهة وليس الفعل الوقائي المخطط له وفق سياسات عامة في القطاعات المختلفة.
لم تستطع الحكومات ومجلس النواب في دوراته السابقة من تحقيق مواجهة جريئة لإصلاح النظام السياسي وتجاوز إشكالياته المعقدة، لابل عززت التيارات والحركات السياسية من اساليب المحاصصة والمحسوبية وتقاسم النفوذ لأنها لا تملك أدنى رؤية لبناء الدولة ولم تبلور مشروع وطني يلبي طموح الجماهير ويحقق رغباتهم ويعوض معاناتهم مع النظام الدكتاتوري قبل 2003 مع نظام سياسي عادل يعتمد المواطنة وتساوي الحقوق والواجبات ويضمن دورهم في ادارة بلدهم بالطرق الديموقراطية.
ومع كل خيبة الامل التي مُنيت بها الجماهير العراقية لكن اصرارها على المشاركة في الانتخابات ونجاحها عند كل انتخابات يعبر عن تمسكها (اي الجماهير) بضرورة تحقيق التغيير الجريء والحقيقي الذي يحقق معالجة موضوعية لكل مكامن ثنائية التدمير (الفساد، والارهاب). ولهذا كانت الانتخابات التشريعية في ايار 2018 – مع محدودية وعدم دقة نسبة المشاركة فيها – تعبير شعبي عن هذه الضرورة، وان الجماهير لازالت متمسكة بالوسائل الديمقراطية لتعزيز وترسيخ قيم النظام الديموقراطي ومظاهره في مرحلة التحول، وفي مرحلة نجح العراق في التغلب على أكبر تهديد ارهابي وتجاوز أزمة مالية هي نتاج لاختلال هيكلي رافق الاقتصاد العراقي وتعمق أكثر بفعل تهديد الارهاب وانخفاض اسعار النفط، ولكن بماذا جوبهت تلك الارادة الجماهيرية الوطنية؟
جوبهت بالآتي: الامر الاول، ان بعض القوى والتحالفات الانتخابية (والنيابية فيما بعد) مارست قدرا من خداع لإرادة الناخبين وتحريف لأصواتهم (مع قلتها) تجلى بصور عدة بعثت برسائل سلبية للجمهور ولجمت الضوء في نهاية النفق في امكانية تحقيق التغيير والاصلاح بعد أكثر من عقد ونيف من التدمير والتخريب الممنهج الخادم لمصالح حزبية وشخصية ضيقة.
الامر الثاني، قبل التئام مجلس النواب، لم يستطع كل من تحالف الاصلاح والاعمار (سائرون والاصلاح وبعض القوى السنية) وتحالف البناء (الفتح، دولة القانون، وتحالف القرار وقوى أخرى) من حل التنازع حول تسمية الكتلة النيابية الاكثر عددا لترشح المكلف بتشكيل الحكومة. الامر الذي سار باتجاه ايجاد مرشح توافقي من خارج التحالفين وغير مُنتخب لتشكيل الحكومة وهو السيد عادل عبد المهدي. وهو الامر الذي يحصل للمرة الاولى بعد ثلاث دورات انتخابية. وهو ما قاد الى تحريف الارادة الجماهيرية عن مسارها والى تشويه مسار النظام الديمقراطي الهش.
فتصويت الجماهير لقائمة او لتحالف ما كان على اساس التأييد لبرنامجه الانتخابي، ولكن مع عدم امكانية تحديد الكتلة النيابية الاكثر عددا، لم يعد لنتائج الانتخابات ذلك التأثير الكبير وأصبح الحكم هو التوافق السياسي بين الفائزين الكبار وتجاوز على النص الدستوري (المادة 76 / اولا). وهذا ما انعكس في صورة خلافات واضحة حول تشكيل الحكومة وأصبح رئيس الوزراء هو الطرف الاضعف في المعادلة وأصبح منصاعا للقوى النيابية الكبيرة ليضمن وجود جبهة برلمانية تساند توجهاته او على الاقل تبقيه بمنصبه لغاية 2022. كما سينعكس سلبا على نسب المشاركة في الانتخابات القادمة.
في المحصلة تم تعقيد إشكاليات النظام السياسي نتيجة عدم امكانية تحديد الكتلة النيابية الاكثر عددا وتجاوز النص الدستوري وهي إشكالية اخرى ستنعكس على الاداء الحكومي والتشريعي والقضائي بعد عدم تمكن رئيس الوزراء المتوافق عليه من اختيار الشخصيات المناسبة والمتخصصة، وخضوعه لسطوة القوائم والتحالفات الانتخابية الكبيرة ولم يخرج من دائرة المحاصصة العرقية والحزبية في تشكيل حكومته، ولم يؤسس لمرحلة تجاوز تلك الاشكاليات السياسية التي علت النظام السياسي.
عليه، مشاكل حكومة السيد عادل عبد المهدي لن تكون مشابهة لتلك التي واجهتها الحكومات السابقة بل أكثر تعقيدا. يواجه رئيس مجلس الوزراء انعدام قدرته على اختيار الشخصيات المناسبة لتولي الوزارات الشاغرة ولاسيما الدفاع والداخلية بعد ان فرضت عليه شخصيات غير متخصصة في الوزارات التي مُرِرت في مجلس النواب وهذه بداية حكومة الازمة. اذ سيبقى السيد عبد المهدي حبيس ارادة القوى التي تنازعت على مسألة الكتلة الاكثر عددا وتوافقت على اختياره لتشكيل الحكومة وما يدلل على ذلك انصياعه الى صوت من خارج مجلس النواب في التوقف عن استعراض ما تبقى من اعضاء حكومته بعد ان تم التصويت على 14 وزير مكلف.
هذه المؤشرات تبعث على قلق كبير بشأن ما تريد الحكومة تحقيقه وفق ما توعدت به في برنامجها الحكومي من قضايا حساسة ومعقدة مثل نزع السلاح وحصره بيد الدولة، ووحدة القرار العسكري والامني، وإجراءات مواجهة الفساد والفاسدين وغيرها. فحكومة حبيسة القوى السياسية النيابية الكبرى لن تتمكن من تحقيق اهدافها المرسومة وستبقى ضحية امواج متلاطمة لمصالح تلك القوى السياسية، كما ستبقى موضع ابتزاز تلك القوى في قضايا عده منها – وبشكل مباشر -قضية حسم المناصب بالوكالة. فضلا عن ذلك لن تكون المدد المحددة في البرنامج الحكومي كافية لحسم الملفات الرئيسة والحساسة الواردة في البرنامج الحكومي الطموح. وبالتالي ستكون الازمة حاضرة ومؤطرة لكل ما يُراد تحقيقه.