الأبعاد السياسية لاتفاقية الإطار الإستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية

بعد رحلة مضنية قطعها العراق في خضم العقوبات الدولية التي فرضت عليه أثر دخوله للكويت عام 1991، وبعد فوضى مدمرة عصفت به منذ دخول القوات الأمريكية إلى بغداد عام 2003، استرخت دوامة التطورات والصراعات فيه، ودخلت علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية منعطفاً مهماً وجديداً تمثل في التوقيع على اتفاقيتي (انسحاب القوات والإطار الاستراتيجي) نهاية عام 2008 واللتان وعدتا بإنهاء ذلك الفصل القاتم من العقوبات الدولية والوصاية الأممية، واسترجاع كامل سيادته ومكانته الدولية، كما وعدتا بحفظ أمنه وصيانة سلامته بوجه التهديدات الداخلية والخارجية. ومنذ التوقيع على الاتفاقيتين معاً حضيت الاتفاقية الأمنية باهتمام رسمي وإعلامي فاق إلى حد كبير الاهتمام الذي حضيت به اتفاقية الإطار الإستراتيجي، وذلك يتأتى من أرجحية المتغير الأمني وخطورة تداعياته على سيادة العراق ومستقبله على حساب غيره من المتغيرات لاسيما بعد الأوضاع العصيبة التي عاشها بلدنا منذ عام 2003. غير إن التحليل لاتفاقية الإطار الإستراتيجي يقودنا إلى التشبث بأهميتها انطلاقاً من رؤية مفادها إن دعائم الأمن لا تثبت إلا بعد توافر البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية المناسبة لها، فما الأمن إلا حلقة من بين حلقات أخرى تتفاعل فيما بينها لتدعيم أركان الدولة وحفظها في عالم تتداخل فيه المتغيرات وتتبادل التأثير. وعلى الجملة فإن هذه الاتفاقية تضع الإطار التفصيلي لمسار العلاقة والتعاون المستقبلي بين الحكومة العراقية والحكومة الأمريكية في شتى الميادين بما يفترض انه سيسهم في تعزيز وتنمية التجربة الديمقراطية في العراق على أساس الاحترام المتبادل والمعايير المعترف بها للقانون الدولي، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، كما جاء في الفقرة الأولى من القسم الأول لاتفاقية الإطار الإستراتيجي. ولعل مراجعة سريعة لديباجة اتفاقية الإطار الاستراتيجي والمادة الأولى منها ستفضي بنا إلى رسم صورة واضحة عن دواعي وأهداف عقد هذه الاتفاقية واستجلاء أهميتها في ترسيم أفق العلاقات المستقبلية بين البلدين في سياق الرغبة المشتركة لإقامة علاقة طويلة الأمد، وتلبية الحاجة لتوفير الدعم اللازم لإنجاح العملية السياسية في العراق، وتعزيز المصالحة الوطنية فيه، وتعزيز قدرته على تحمل كامل المسؤولية عن أمنه، وعن سلامة شعبه. مع تحري الوسائل والظروف اللازمة لبناء اقتصاد عراقي متنوع ومتطور يضمن اندماجه في المجتمع الدولي بما يسهم مستقبلاً في تعزيز وتنمية الديمقراطية فيه. وبعيداً عن النصوص المكتوبة تتسع مساحة الأهداف والغايات التي يرنو إليها طرفا الاتفاقية على أرض الواقع، فمن جانب الحكومة العراقية تعد هذه الاتفاقية قناة مهمة لتجديد فاعلية النظام وشرعيته عبر تعزيز قدرته على الانجاز، لأن تفعيل النصوص الدستورية وإنفاذ حكم القانون وبناء المؤسسات السياسية الفاعلة مع توسيع قاعدة المشاركة لا توفر وحدها الحصانة الكافية في وجه تنامي ضواغط المطالب الشعبية وعجز النظام على الاستجابة لها، الأمر الذي سيسهم في تصدع شرعية هذا النظام وانفراطها. من جانب آخر فقد أمدت هذه الاتفاقية الحكومة العراقية بهامش الدعم اللازم لتطوير دور وتحقيق عمق استراتيجي إقليمي من خلال توظيف الزخم الاستراتيجي الأمريكي عبر تفعيل بنود الاتفاقية لتهيئة ظروف الانخراط العراقي الفاعل في البيئة الإقليمية. وليس الشعب العراقي ببعيد عن دائرة تحصيل المغانم المترتبة على عقد مثل هذه الاتفاقية، طالما مثل الغاية التي تنشدها أيه حكومة ديمقراطية تسعى إلى البقاء على سدة الحكم بالاستناد إلى شرعية صناديق الاقتراع. وأما من جانب الحكومة الأمريكية فإن مثل هذه الاتفاقية تعد بمثابة سلاح الرمق الأخير الذي سيحفظ ماء وجه الإدارة الجمهورية عند لحظة الوداع أمام الزحف الديمقراطي في المنافسة الانتخابية بوصفها الإعلان المشرف عن إنهاء الحرب في العراق وتصفية تركتها وجني ثمارها وبلورة الإناء الشرعي لحفظ لمصالح الإستراتيجية الأمريكية في العراق بعد كل تلك الجهود والخسائر الكبيرة. ولم يبتعد السعي الأمريكي لإبرام هذه الاتفاقية عن الرغبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأنموذج الذي تهالكت الإدارة الأمريكية على استزراعه وإشاعته في منطقة الشرق الأوسط الجديد عبر توفير الأرضية الخصبة والإطار القانوني لإنجاحه مستقبلاً. وفي هذا السياق، استثمرت الولايات المتحدة تجربتها التاريخية في ألمانيا واليابان لإعادة الارتباط والتوازن بين حلقات الأمن والتنمية لتحريك القاطرة السياسية بقصد توفير الحاضنة الآمنة لمصالحها الحيوية في هذه الرقعة الساخنة من العالم (العراق). وقبل أن يخطف أبصارنا بريق الوعود والإغراءات التي غذتها بنود اتفاقية الإطار الاستراتيجي، يجدر بنا التريث والتنبيه من مغبة ما يتوارى خلف النصوص من تناقضات ومحاذير ونوايا مبيتة، وما ينطوي عليه الواقع من إمكانات فعلية لتحقيق تلك الوعود. وعند هذه المفازة يرد التناقض الأول عندما تتحدث الاتفاقية في المادة الأولى منها عن استنادها إلى مبادئ الاحترام المتبادل والمعايير المعترف بها في القانون الدولي، فأية صداقة تنبني بعد اللجوء إلى استخدام القوة لاحتلال البلدان بما يتناقض تماماً مع القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة وبالضد من إدارة المجتمع الدولي. ويرد التناقض الثاني عندما تؤكد حرص الطرفين في المادة ذاتها على التقيد بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، في الوقت الذي تؤكد فيه في قسمها الثاني على إن الولايات المتحدة ستبذل أقصى جهودها لدعم وتعزيز الديمقراطية ومؤسساتها في العراق، والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد: كيف يكون ذلك من غير التدخل في الشؤون الداخلية؟!. من ناحية أخرى أظهرت الاتفاقية حرص أطرافها على مواصلة التعاون فيما يتعلق بالترتيبات الأمنية لتعزيز قدرة العراق لا على ردع التهديدات الموجهة ضد سيادته وأمنه. غير إن الواقع الذي لا مهرب منه يؤكد إن حدود الدعم الأمريكي للقوات العراقية في هذا المجال (بناء القدرة العسكرية العراقية) لا تتجاوز حيز التدريب والتجهيز بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة والمعدات اللوجستية، وهذا ما لا يبشر بإمكانية قيام قدرة عسكرية عراقية قادرة على ردع التهديدات المختلفة مستقبلاً. ولا تتكامل حلقات الأمن ما لم تسفر العملية السياسية في العراق عن بيئة ديمقراطية رصينة تستوعب ضمن إطار مؤسسي قانوني كل صيغ التفاعل الإيجابي بين القوى السياسية بعيداً عن لغة العنف والرؤى والولاءات الحزبية والطائفية الضيقة، بما يرسخ جذور الثقافة الديمقراطية الوطنية ويعمق امتداداتها الشعبية التي تتوسع عبرها حدود المشاركة السياسية الفاعلة. بيد إن ما وعدت به اتفاقية الإطار الاستراتيجي من المساعدة في تعزيز وحماية المؤسسات السياسية والديمقراطية في العراق يتقاطع مع الحرص على إنضاج الظروف الذاتية (الخاصة) القادرة على استيعاب هذه التجربة السياسية الجديدة بعيداً عن التدخلات الخارجية، لأن الأخيرة ستضفي –ضمن حدودها الدنيا- إلى افتعال بيئة مصطنعة لفرض التغيير بمعزل عن محيطه الاجتماعي وبنيته الشعبية القاعدية، فتكون النتيجة حينذاك المزيد من الجمود والانفصام بين بنية السلطة وقاعدتها الجماهيرية مما يعني اغتراب هذه التجربة وبالتالي فشلها المحقق مع تهاوي دعائم شرعيتها. ولن يفسر التدخل ضمن حدوده العليا إلا في سياق الطموح الأمريكي للتحكم بدفة ومفاصل التغيير في العملية السياسية تحت لواء الحرص على المصالح الإستراتيجية الأمريكية، لأن الأخيرة باتت لا تقتنع بدور الحليف المتفرج بعد ما بذلته، وبالتالي لن تكون الاتفاقية –من هذا المنظور- إلا معبراً لوأد التطلعات والتغييرات السياسية التي تتقاطع وتلك المصالح في العراق الديمقراطي الجديد. وبالمقابل لا يمكن تجاوز حجم المنافع المنتظرة من مد جسور التعاون المتعدد الأبعاد مع الولايات المتحدة، حيث فتحت هذه الاتفاقية للعراق وشعبه آفاقاً واسعة للتطور والتفاعل مع معطيات الحضارة المعاصرة بعد سنوات عجاف من القطيعة مع العالم الخارجي، وذلك يمكن أن يحرك عجلة التنمية في العراق، ويسهم كذلك في تعزيز البناء الديمقراطي فيه من خلال تطوير الظروف المادية والمعنوية اللازمة لتفعيل شروط المواطنة الفعالة وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية ذلك، إن تطوير القاعدة الفكرية والمادية للمجتمع العراقي وفق ما وعدت به بنود الاتفاقية سيفضي بالنتيجة التي توفر ما تتطلبه المشاركة السياسية من ارتفاع مستوى الثقافة والتعليم والدخل والحراك الوظيفي بما يعزز من شعور المواطن بأهمية السعي نحو التأثير في عملية صنع القرار السياسي. ومن هذا المنطلق يمكن الاتفاق مع الرأي القائل بأن إدارة دفة الإصلاحيات الاقتصادية والاجتماعية لتحريك عجلة التنمية في أية دولة تشكل المطلب الأول للسير في طريق الديمقراطية، إذ لا قيمة لهذه الأخيرة ولا أمل لها بالاستقرار والوجود إلا بقدرتها على تهيئة مناخ التطور في الشروط والظروف الاقتصادية والاجتماعية. وهكذا فإن هذه الاتفاقية ستهيء الأرضية الخصبة لراب الصدع بين البناء الفوقي للتجربة الديمقراطية المتمثل بالمؤسسات والبناء القاعدي لها من خلال توفير المستلزمات الثقافية والمادية لخلق شروط المواطنة الفاعلة. وهذا الأمر بطبيعة الحال مرهون –كما أسلفنا- بمدى جدية وقدرة الطرفين على الترجمة الفعلية لنصوص الاتفاقية مع غض النظر عن النوايا السلبية المبيتة أو الأغراض الجانبية التي تنشأ عن الإخفاق في تفهم واقع المجتمع العراقي وخصوصيته. وهذا الأخير يمثل تحدٍ واجهته كل التجارب الديمقراطية في العالم وليس العراق بمعزل عن الانزلاق إلى منحى التقاطع بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي في تحديد ملامح تجربته الديمقراطية وفرز خصوصيتها. وفي هذا السياق ينبغي التحذير من مغبة التبعية وانعكاساتها على النظام والمجتمع العراقي، ففي علاقة بين طرفين أحدهما بحجم الولايات المتحدة الأمريكية والآخر بحجم العراق، لابد أن تميل كفة التبعية والتأثير لصالح الطرف الأول على حساب الطرف الثاني، فتصبح سياسات العراق رهن بإرادة الولايات المتحدة لاسيما في الجوانب التي تنظمها هذه الاتفاقية وحيثما ترد الحاجة. وقد لا يقع من ما تقدم شيء في اتون الانفتاح على السوق العالمي الذي هندست فضاءه هذه الاتفاقية في ضوء مرامي القسمين الخامس والسادس منها، عندما يطالعنا نص التعاون بين البلدين من أجل (دمج العراق في الاقتصاد العالمي ومؤسساته) أو (دعم المزيد من اندماج العراق في الدوائر والمؤسسات المالية والاقتصادية الدولية) –كما جاء في القسم الخامس/ الفقرة الرابعة – وكذلك ما جاء في الفقرتين الثانية والثالثة من القسم السابع للاتفاقية اللتان أكدتا على دعم تبادل المعلومات والآراء لتحرير أسواق تكنلوجيا المعلومات في العراق. مع غياب عنصر الاستقلالية وخضوع السياسة الوطنية لتأثير المتغير الدولي قبل المتغير الداخلي والمصلحة الذاتية، تتأكل حدود السيادة الوطنية، وتتعرض بنى الدولة العراقية الجديدة بصورة غير محسوبة لتقلبات ومتطلبات ذلك السوق العالمي المتماهي الأبعاد والحدود، الأمر الذي سيؤدي إلى حدوث تشوهات وتصدعات خطيرة في الهوية الوطنية والثقافية والبنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع العراقي وهذا ليس إلا ثمناً بخساً سيدفعه العراق من جراء فتح أبوابه على محيط العولمة المتلاطم عبر نافذة الاتفاقية ومتطلباتها، كما حصل ويحصل مع الكثير من المجتمعات التي لحقت مؤخراً بركب العولمة. ومثلما تقطع هذه الاتفاقية خطى واعدة على صعيد التنمية، فإنها تنذر كذلك بتحديات ستواجهها الحكومة في حماية مجتمعها ومواطنيها من مخاطر الاندماج في ملكوت العولمة والتفاعل مع إرهاصاتها، هذا إلى جانب صعوبة الموازنة الحرجة والدقيقة التي ينبغي أن تقيمها بين الحرص على استقلال العراق وأمنه وازدهاره وبين الحرص على تجنب التعرض للمصالح الأمريكية في سياق معادلة يحرص أقوى طرفيها على إظهار الاحترام وإخفاء النزوع الجامح لفرض هيمنته وسيطرته على الطرف الأخر.
التعليقات