الاقتصاد العالمي في مشهد متحول: المخاطر والسياسات المطلوبة

يرصد تقرير صندوق النقد الدولي الاحدث " الاقتصاد العالمي في مشهد متحول" مسار النشاط الاقتصادي العالمي في العام 2017 اعتمادا على أبرز الاحداث التي شهدتها الاقتصادات المتقدمة والاقتصاديات الصاعدة والاقتصادات النامية خلال الاعوام الاخيرة (2015 و2016 تحديدا) ويرسم الصندوق تنبؤاته الاقتصادية للاقتصادات المذكورة في العام الجاري عبر مناقشة أبرز المخاطر المحدقة بتعافي النمو الاقتصادي والتطرق لعدد من السياسات اللازمة لإخراج الاقتصاد العالمي من هوة الركود ودفعه باتجاه معدلات نمو واستقرار اقتصادي مستدام. ومع تولي الرئيس الامريكي دونالد ترامب قيادة قاطرة النمو الاقتصادي العالمي يزداد المشهد الاقتصادي تعقيدا نظرا لعدم اليقين بشأن سياسات الإدارة الأمريكية القادمة وتداعياتها العالمية. ومن المنتظر أن تصبح الافتراضات التي تقوم عليها التنبؤات أكثر تحديدا في الشهور القادمة، حيث تصبح السياسات الأمريكية وانعكاساتها على الاقتصاد العالمي أكثر وضوحا. وفي الآونة الاخيرة، شهدت آفاق النمو تراجعا محدودا بالنسبة لاقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، حيث زاد ضيق الأوضاع المالية بوجه عام. ورُفِعَت التوقعات الموضوعة لآفاق النمو قصيرة الأجل بالنسبة للصين، نظرا للدفعة التنشيطية التي يُتوقع أن تقدمها السياسات، ولكنها خُفِّضَت بالنسبة لعدد من الاقتصادات الكبيرة الأخرى – ولا سيما الهند والبرازيل والمكسيك. وترتكز هذه التنبؤات على افتراض تغير مزيج السياسات في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة وما يستتبعها من تداعيات عالمية. وبينما تعتبر كفة الانخفاض هي الأرجح في ميزان المخاطر، يلاحَظ وجود احتمالات أخرى تشير إلى إمكانية تحقيق نمو أعلى من المتوقع على المدى القصير، وعلى وجه التحديد، قد يتسارع النشاط العالمي بقوة أكبر إذا قدمت السياسات دفعة تنشيطية تتجاوز المتوقع حاليا في الولايات المتحدة أو الصين. ومن أبرز المخاطر التي قد تتسبب في هبوط النشاط إمكانية التحول نحو الحمائية والبرامج القائمة على سياسات انغلاقية؛ وضيق الأوضاع المالية العالمية بدرجة أكثر حدة من السيناريو المتوقع مع إمكانية تفاعل هذا الضيق مع أوجه الضعف التي تشوب الميزانيات العمومية في أجزاء من منطقة اليورو وبعض اقتصادات الأسواق الصاعدة؛ واحتدام التوترات الجغرافية-السياسية؛ واشتداد حدة التباطؤ في الصين. المخاطر المحدقة بآفاق النمو والاستقرار تخضع آفاق النمو العالمي لاحتمالات على الجانبين، ولكن التقديرات ترجح كفة الجانب السلبي، ولا سيما على المدى المتوسط، وذلك لجملة من الاسباب اهمها: 1- تسلط التطورات السياسية الأخيرة الضوء على انحسار التوافق بشأن مزايا الاندماج الاقتصادي عبر الحدود. ويمكن أن تزداد حدة الضغوط الحمائية إذا اتسعت الاختلالات العالمية وصاحبتها تحركات حادة في أسعار الصرف نتيجة لتحقق احتمالات التحول الكبير في السياسات. وستؤدي زيادة القيود على التجارة العالمية وحركة الهجرة إلى إلحاق ضرر كبير في الإنتاجية والدخل، وإحداث أثر مباشر على مزاج السوق. 2- في الاقتصادات المتقدمة حيث لا تزال الميزانيات العمومية ضعيفة، يمكن أن ينخفض النمو والتضخم بصورة دائمة إذا طال انخفاض الطلب الخاص والتقدم غير الكافي في تنفيذ الإصلاحات المطلوبة (بما في ذلك معالجة خلل الميزانيات العمومية في البنوك)، وهو ما سيكون له انعكاسات سلبية على ديناميكية الدين. 3- بالإضافة إلى المخاطر المذكورة في القسم السابق، لا تزال هناك مواطن ضعف أساسية في عدد من اقتصادات الأسواق الصاعدة الكبيرة الأخرى. فارتفاع دين الشركات، وتراجع الربحية، وضعف الميزانيات العمومية في البنوك، ومحدودية هوامش الأمان التي تتيحها السياسات، كلها تشير إلى استمرار تعرض هذه الاقتصادات لتداعيات الأوضاع المالية العالمية الأكثر ضيقا، والتحولات في اتجاه التدفقات الرأسمالية، وانعكاسات الانخفاض الحاد في أسعار العملات على الميزانيات العمومية. وفي كثير من الاقتصادات منخفضة الدخل، أدى انخفاض أسعار السلع الأولية (كالنفط الخام) وانتهاج سياسات توسعية إلى تآكل هوامش الأمان المالي ونمو عجوزات الموازنة والدين العام. وارتفاع درجة تعرض هذه البلدان لمزيد من الصدمات الخارجية. 4- لا تزال المخاطر الجيوسياسية ومجموعة من العوامل غير الاقتصادية الأخرى تشكل عبئا على الآفاق المتوقعة في مناطق متنوعة (كالحرب الأهلية والصراع الداخلي في أجزاء من الشرق الأوسط وأفريقيا، ومحنة اللاجئين والمهاجرين المأساوية في البلدان المجاورة وفي أوروبا، وأعمال الإرهاب على مستوى العالم، والآثار المطولة للجفاف في شرق وجنوب إفريقيا، وانتشار فيروس زيكا). واذا ما تفاقمت هذه العوامل، يمكن أن تعمق المعاناة في البلدان التي يقع عليها التأثير المباشر. كذلك يمكن أن تؤدي زيادة التوترات الجيوسياسية والإرهاب إلى التأثير بشدة على مزاج السوق ومستوى الثقة في الاقتصاد على مستوى العالم. سياسات استباق الازمة لا تزال النتائج المخيبة للآمال تشكل تهديدا خطيرا لآفاق النمو والاستقرار الاقتصادي، وهو ما يؤكده الخفض المتكرر لتوقعات النمو في السنوات القليلة الماضية. وعلى هذه الخلفية، ونظرا لاختلاف البلدان من حيث المرحلة الدورية التي تمر بها وحيز الحركة الذي تتيحه سياساتها، تختلف الأولويات والسياسات المطلوبة تبعا لظروف كل اقتصاد، وكما يلي: 1- لاتزال فجوات الناتج في الاقتصادات المتقدمة مولدة لآثار سلبية ويظل استمرار التضخم المنخفض (أو الانكماش في بعض الحالات) من المخاطر القائمة في هذه البلدان. ولذلك يجب أن تظل السياسات النقدية تيسيرية، مع الاعتماد على استراتيجيات غير تقليدية عند الحاجة. ولكن السياسة النقدية التيسيرية لا تستطيع وحدها رفع الطلب بالقدر الكافي، ولذلك لا يزال الدعم المالي – الذي يحدده الحيز المالي المتاح ويوجَّه نحو السياسات التي توفر الحماية لمحدودي الدخل وترفع توقعات النمو على المدى المتوسط – مطلبا ضروريا لتوليد الزخم اللازم. وفي الحالات التي يتعذر فيها تأجيل الضبط المالي، ينبغي ضبط وتيرته ومكوناته للحد من تأثيره على الناتج. 2- اما الاقتصادات المتقدمة التي لا تعاني من فجوات ناتج سلبية إلى حد كبير، ينبغي أن يستهدف أي دعم مالي تقوية شبكات الأمان الاجتماعي (وهو ما يشمل في بعض الحالات مساعدة اللاجئين على الاندماج) وزيادة الناتج الممكن على المدى الأطول من خلال الاستثمارات عالية الجودة في البنية التحتية والإصلاح الضريبي العادل والداعم للعرض. وفي مثل هذه الحالات، من المنتظر أن يسمح التثبيت الجيد للتوقعات التضخمية باعتماد سرعة متدرجة في استعادة السياسة النقدية العادية. 3- وبشكل عام ينبغي أن تقترن السياسات الاقتصادية الكلية التيسيرية بإصلاحات هيكلية قادرة على التصدي لتراجع النمو الممكن وأن تكون داعمة لهذه الإصلاحات – وهو ما يشمل بذل جهود لزيادة المشاركة في القوى العاملة، وتشجيع الاستثمار في المهارات، وتحسين عملية التوفيق بين المهارات والوظائف في أسواق العمل، وفتح الأبواب للانخراط في المهن المغلقة، وتعزيز الديناميكية والابتكار في أسواق المنتجات والخدمات، وتشجيع استثمارات الأعمال، بما في ذلك الاستثمار في البحوث والتطوير. 4- تواجه اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية تفاوتا هائلا بين مراكزها الدورية وتحدياتها الهيكلية. وبوجه عام، يمكن أن يؤدي تعزيز الصلابة المالية إلى الحد من تعرضها لضيق الأوضاع المالية العالمية، والتحركات الحادة في العملات، ومخاطر التحولات في اتجاه التدفقات الرأسمالية. ويجب على الاقتصادات ذات الديون غير المالية الكبيرة والمتزايدة، أو الالتزامات الأجنبية غير المغطاة، أو الاعتماد الكبير على الاقتراض قصير الأجل في تمويل استثمارات طويلة الأجل، أن تعتمد ممارسات أقوى لإدارة المخاطر واحتواء أوجه عدم التوافق في الميزانيات العمومية. 5- شهدت البلدان منخفضة الدخل تناقصا في احتياطياتها المالية على مدار السنوات القليلة الماضية، وتتمثل الأولوية في استعاده هذه الاحتياطيات مع مواصلة الإنفاق بكفاءة على الاحتياجات الرأسمالية والمصروفات الاجتماعية الحيوية، وتعزيز إدارة الدين، وتحسين تعبئة الإيرادات المحلية، وتنفيذ الإصلاحات الهيكلية – بما في ذلك إصلاحات التعليم – التي تمهد السبيل لتنويع الاقتصاد ورفع الإنتاجية. 6- وبالنسبة للبلدان الأشد تضررا من انخفاض أسعار السلع الأولية، يتيح التحسن الذي شهدته الأسواق مؤخرا بعض الانفراج، ولكن التكيف مع هذه الأوضاع لاستعادة الاستقرار الاقتصادي الكلي يعتبر مطلبا عاجلا. وينطوي هذا على السماح لسعر الصرف بالتكيف في البلدان التي لا تعتمد على سعر صرف مربوط، وتشديد السياسة النقدية حيثما دعت الحاجة لمعالجة ارتفاعات التضخم، وضمان أن يكون الضبط المالي المطلوب مؤاتيا للنمو قدر الإمكان. وتشكل النقطة الأخيرة مطلبا مهما في البلدان التي تطبق أسعار صرف مربوطة، حيث لا يتاح استخدام سعر الصرف كأداة لامتصاص الصدمات. وعلى المدى الأطول، ينبغي للبلدان التي تعتمد اعتمادا كبيرا على منتَج واحد أو بضعة منتجات من السلع الأولية أن تعمل على تنويع قواعدها التصديرية. 7- مع ضعف النمو ومحدودية حيز الحركة من خلال السياسات في كثير من البلدان، يتعين استمرار الجهود متعددة الأطراف في عدة مجالات للحد من المخاطر التي تهدد الاستقرار المالي والحفاظ على تحسن مستويات المعيشة على مستوى العالم. ويجب أن تتواصل هذه الجهود على نحو متزامن في عدد من الجبهات. فلكي يقتسم الجميع المنافع طويلة الأجل للاندماج الاقتصادي بوجه عام، يجب أن يتأكد صناع السياسات من وجود مبادرات موجهة بدقة لمساعدة المتضررين من الانفتاح التجاري ودعم قدرتهم على العثور على فرص عمل في قطاعات الاقتصاد المتوسعة. ومن مقتضيات العدالة الاقتصادية أيضا بذل جهود على المستويين الوطني ومتعدد الأطراف لمحاربة التهرب الضريبي ومنع ممارسات التهرب الضريبي ويجب مواصلة الجهود لتعزيز صلابة النظام المالي، بما في ذلك إعادة رسملة المؤسسات وتنقية الميزانيات العمومية حيثما اقتضى الحال، وضمان وجود أطر فعالة لتسوية الأوضاع المصرفية الوطنية والدولية، ومعالجة ما ينشأ من مخاطر بسبب جهات الوساطة غير المصرفية. ويمكن أن تؤدي تقوية شبكة الأمان العالمية إلى حماية الاقتصادات التي ربما تكون معرضة رغم قوة أساسياتها الاقتصادية للعدوى والتداعيات العابرة للحدود. 8- يمكن أن يكون التحفيز الذي تقدمه السياسات في الولايات المتحدة و/أو الصين لدعم النشاط الاقتصادي أكبر مما تشير اليه التنبؤات الحالية، مما يؤدي بدوره إلى انتعاشة أقوى في النشاط الاقتصادي لدى شركائهما التجاريين ما لم تتسبب السياسات التجارية الحمائية في الحد من هذه التداعيات الإيجابية. ومن التطورات التي يحتمل أن تتجاوز المتوقع أيضا زيادة الاستثمارات إذا تعززت الثقة في تعافي الطلب العالمي، وهو ما يبدو من بعض مؤشرات الأسواق المالية. 9- وأخيرا وليس آخرا، يشكل التعاون متعدد الأطراف أمرا لا غنى عنه أيضا لمعالجة التحديات العالمية المهمة على المدى الأطول، مثل تحقيق أهداف التنمية المستدامة لعام ٢٠١٥، وتخفيف آثار تغير المناخ والتكيف معها، ومنع انتشار الأوبئة العالمية.
التعليقات