من المعروف حقاً ما للمرجعية الدينية من دور مهم في حياة المسلمين، لاسيما من اتباع اهل البيت؛ وذلك من خلال امتلاكها للسلطة المعنوية التي تكون أعلى من السلطة المادية، فهي غالباً ما تربط الإنسان في هذه الحياة بمصيره الآخروي، وتدفع به لبناء حياة يسودها كل ما هو خير والابتعاد عن كل ما هو شر في جميع مجالات الحياة، حتى يُعد بمثابة حجر الأساس للحياة الآخروية ما بعد الموت.
ومن ابرز هذه المجالات هو المجال الاقتصادي، حتى اخذ يُعَبر عنه بـ"عصب الحياة"، وذلك لما له من دور مهم في تسيير الحياة البشرية وإضفاء طابع الرفاهية والسعادة فيها، من خلال استثمار الموارد الطبيعية من قبل الإنسان وبالشكل الأمثل، أي أكثر نفع بأقل التكاليف، لسد حاجات الإنسان المتزايدة، من دون إسراف وتقتير، إذ في حالة عدم الاهتمام بالاقتصاد وشيوع الإسراف أو التقتير، سيفضي إما إلى استنزاف الموارد بشكل أسرع وهذا ما يؤدي إلى عدم تحقق العدالة في الرفاهية بين الأفراد سواء ما بين جيل معين أو الأجيال المتلاحقة . وأما أن يؤدي إلى عدم إشباع حاجات الإنسان من اجل الحفاظ على الموارد، فيترتب عليه سوء الحياة البشرية، لان الإنسان الذي لا يستطيع إشباع حاجاته سيلجأ لطرق غير مشروعة لسد ما يحتاجه.
فالاقتصاد بالموارد ينبغي ألا يكون بالشكل الذي يؤدي إلى تحقيق التقتير والبخل مع عدم إشباع الحاجات، وفي الوقت نفسه لا يكون هو إنفاق كل ما في الجيب مع عدم مراعات حقوق الأجيال الأخرى، ففي ظل سوء إدارة الاقتصاد، سواء من قبل الفرد أو من قبل الدولة، ستزداد مشاكل الحياة من سيء إلى أسوء، من فقر وظلم وسرقة وابتزاز ...إلخ، وبالتأكيد هذه المشاكل في الحياة الدنيا ستترتب عليها مشاكل آخروية، لان الحياة مزرعة الآخرة حسب جميع الديانات السماوية ومن بينها الإسلام.
وما دامت المرجعية تمثل السلطة المعنوية وهي الأداة الموصلة ما بين الدنيا والآخرة، فمن باب أولى أن تسعى لبناء الحياة الدنيا وبالشكل الذي يتلاءم مع ما مخطط له في الآخرة، فالمرجعية لديها القدرة الكبيرة والمؤثرة على تفعيل الاقتصاد بشكل أكبر من السلطة المادية الحكومية، وإذا حصل اندماج ما بين السلطة المادية والمعنوية، عندئذً سيصبح الاقتصاد في أعلى مرتبة له، وهذا ما حصل في التأريخ عند حكومة أمير المومنين علي بن أبي طالب(ع)، حيث تم القضاء على الفقر تماماً.
نعم قد لا تستطيع المرجعية فعل ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام في زمانه، إلا إنها تستطيع أن تصل بالاقتصاد إلى مراتب متقدمة من خلال أمرين:
1- زيادة الثقافة الاقتصادية عند الجماهير وتابعيها وعدم الاقتصار على القضايا الاعتقادية في التاريخ وتقليل الإفراط في الترهيب من العذاب وشدة العقاب مع شحذ همم التابعين لزيادة وعيهم بالاقتصاد وأثره في الدنيا والآخرة.
2- قيادة وتوجيه المجتمع نحو بناء حكومة فعالة، تستطيع القيام بكل ما يزيد من إدارة الاقتصاد بالشكل الأمثل الذي يلبي حاجات المجتمع، وليس بما يوائم المصلحة الشخصية للقابعين على سدة الحكم وحاشيتهم، أي لا بد من قيادة المجتمع وتوجيهيه للضغط على الحكومة عند اتجاهها بشكل لا يمثل الإدارة السليمة والاقتصار على مصالحها الشخصية فقط دون الأخذ بنظر الاعتبار الرعية، وخصوصاً في ظل انتشار مفاهيم "الشعب مصدر السلطات" والمسؤولية والحكم ينبغي أن يكون " تكليف لا تشريف".
إن جميع الأديان السماوية وُجدت لتُحث البشر على العمل ورفض الظلم والوقوف إلى جانب المظلوم، وبما إن المرجعية هي السلطة المعنوية في الوقت الحاضر، لذا ينبغي الوقوف إلى جانب الشعوب والمظلومين لا إلى جانب الحكومات والظالمين، فإذا راجعت التاريخ وألقيت نظرة على مسيرة الظالم والمظلوم ستجد اغلب الظالمين من السلطة الحاكمة واغلب المظلومين من الشعوب، ليس هذا فحسب بل لم نسمع أن هناك حكومة كانت مظلومة ولن نسمع هناك شعباً ظالماً.
والشواهد كثيرة التي تؤكد الدور الكبير للمرجعية في اغلب مجالات الحياة، بما فيها الاقتصاد، وسأقتصر على حادثتين:
الأولى دور المرجعية في ضرب الشركات الاحتكارية، عندما حصلت ثورة التنباك أو ثورة التبغ التي قامت بعد سنة 1890م، حين منح الملك القاجاري، ناصر الدين شاه، حق بيع وشراء التبغ في إيران لصالح شركة بريطانية. وكان نحو 20% من الإيرانيين يعملون في قطاع التبغ، وقد أدت الاتفاقية إلى احتكار البريطانيين لهذا القطاع .لكن الذي ضرب الاحتكار فتوى المرجعية التي صدرت من السيد محمد حسن الشيرازي سنة 1891م حين حَرم فيها التنباك، وجاء فيها ان "استعمال التنباك والتوتون بأي نحو كان بحكم محاربة إمام الزمان عجل الله فرجه" حسب ما أشارت إليه الموسوعة الحرة ويكيبيديا .
الثانية هي فتوى المرجعية بالجهاد ضد الزمر الارهابية، التي أصدرها السيد علي السيستاني في عام 2014، للدفاع عن العراق والمقدسات وتحرير أراضيه من الدواعش، فالمرجعية ومن خلال فتواها أدت إلى تكاتف الجهود والوقوف صفاً واحد بوجه العدو وإبعاده عن البلد. وهناك شواهد كثيرة تثبت دور المرجعية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
اخيرا، لابد من القول انه في حال بقاء المرجعية مكتوفة الأيدي وممتنعة عن الخوض في زيادة وعي الجماهير بالاقتصاد وأهميته، وعدم قيادتها الشعب نحو بناء حكومة واقتصاد قادرين على تحقيق الأمن الاجتماعي والغذائي، فإنها سوف تتعثر في تحقيق ما ترومه في الحياة الدنيا وربما في الحياة الأخرى-ايضا- ولن تؤدي أمانتها بالشكل المطلوب.