لم تكن أيام الجُّمع في أواخر العام 2015 وبداية هذا العام كبقية أيام الجُّمع في الأعوام السابقة, بل أصبحت أياما رمزية يعبر فيه العراقيون عن إرادتهم في إصلاح مسار الدولة العراقية, من خلال إصرارهم على التظاهرات وطلب الإصلاح, الذي أصبح مطلباً ضروريا, ولاسيما أن الأزمة الاقتصادية قد رافقت الأزمتين المتلاصقتين للدولة العراقية منذ العام 2003, (السياسية والأمنية), وتزايد السخط الشعبي الذي اعتاد على الخروج إلى الشارع أسبوعياً بتظاهرات الإصلاح تعبيراً عن رفضه لواقع الدولة المتردي. ففي يوم الجمعة الماضية 11/3/2016, وبعد مخاضٍ عسير, كشف المكتب الإعلامي لرئيس الوزراء حيدر العبادي عن نص وثيقة الإصلاحات الشاملة والتعديل الوزاري التي أرسلت إلى الكتل السياسية، وقد شملت الوثيقة خارطة طريق تفصيلية للمرحلة المقبلة ومعايير اختيار مجلس وزراء "تكنوقراط" وتقييم أداء الوزارات ومكافحة الفساد وتبسيط الإجراءات والبرنامج الحكومي وحزم الإصلاحات في مختلف القطاعات وغيرها. وشملت الوثيقة أيضاً خارطة طريق تفصيلية للمرحلة المقبلة في جميع جوانب العمل "التنفيذي والأمني والإداري والاقتصادي والرقابي والتشريعي".
وحددت الوثيقة منهج عمل الحكومة وتنفيذ برنامجها واستكمال ما بقي من بنود الاتفاق السياسي وفقا لخطة زمنية دقيقة. كما تضمنت حزم الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية التي قدمها رئيس الوزراء وأقرها المجلس، وتشتمل الوثيقة خطة عمل لتنشيط القطاع الصناعي والزراعي بشكل خاص والقطاعات الاقتصادية الأخرى. وأشارت الوثيقة كذلك إلى نظام المتابعة الذي تتبناه الأمانة العامة لمجلس الوزراء في إخضاع الوزارات للتقويم الشفاف وبشكل دوري, وإلى مسألة التوقيتات الزمنية في إنجاز المهام الخاصة بكل وزارة في ضوء خطة العمل لتنفيذ البرنامج الحكومي. هذا فيما يتعلق بالمحور السياسي ومضمون الوثيقة بشكل عام. وفيما يتعلق بالمحور الأمني, فقد نصت الوثيقة على تحرير الأراضي من عصابات "داعش" الإرهابية، وجهود بسط سيطرة الدولة والقانون وحصر السلاح بيدها, وبناء منظومة أمنية مهنية متطورة، والعمل على إعادة الاستقرار والإعمار في المناطق المحررة وفق رؤية فاعلة، وتنشيط دور المصالحة الوطنية لإعادة النازحين، واستنهاض كل الجهود الوطنية والدولية الممكنة.
أما فيما يخص محور الإيرادات وتفعيل الدور الرقابي, فقد نصت الوثيقة على أن العمل التنفيذي يبين الالتزام بالبرنامج الحكومي، وتنفيذ حزم الإصلاحات، وصياغة عمل لأداء الوزارة في ظل الظروف المالية، ووضع خطة حكومية لضمان زيادة الإيرادات غير النفطية تكفل مضاعفة ذلك خلال عام 2016و2017، قائمة على برنامج واقعي, فضلاً عن تفعيل الجهود لبناء منظومة عمل الحكومة الالكترونية الكاملة قبل نهاية عام 2018، مشيراً إلى أن "محور الشفافية والنزاهة يشمل تفعيل دور المجلس الأعلى لمكافحة الفساد برئاسة رئيس الوزراء، وإعادة هيكلة منظومة الرقابة والأداء، وتفعيل دور الأجهزة الرقابية الأخرى, والعمل على تفعيل برنامج متابعة دقيق وعملي يقدم كشفا دوريا وشفافا لمستوى الأداء، ودعم منظمات المجتمع المدني والصحافيين والإعلاميين وحمايتهم، وتفعيل دور السلطة الرابعة في مراقبة ومتابعة الأداء، وعمل تنسيق مع مجلس النواب لضمان إقرار القوانين والتشريعات التي هي تحت القراءة, وإجراء مراجعة شاملة للقوانين التي لم تشرع حتى الآن وإعادة رفعها لمجلس النواب، والعمل على رفع تشريعات وقوانين في ضوء الحاجة إلى تطوير أو إلغاء أو تشريع قوانين معينة.
أما عن المحور الاقتصادي ومحور استكمال اختيار الإدارات وتعيين الموظفين, فستتم - وفق دراسة - إعادة هيكلة الوزارات في ضوء المراجعة الشاملة التي تمت من قبل الأمانة العامة لمجلس الوزراء وبالتنسيق مع الوزارات، ومتابعة الالتزام التام لقرار رئيس مجلس الوزراء رقم (1) لسنة 2016, بأن تتم التعيينات ضمن المعايير التي حددها القرار وفي مقدمتها الإعلان عن ذلك, وإتاحة الفرصة للتقديم الكترونيا، وحسم ملف تشكيل مجلس الخدمة الاتحادي بالتعاون مع مجلس النواب. وفي الجانب الاقتصادي أيضاً ودعم المشاريع, يأتي محور تفعيل القروض للمشاريع الصناعية والزراعية والسكنية، وضمان تأمين إدارات مصرفية كفوءة ومهنية لإنجاح سياسة القروض، وتفعيل دور اللجنة العليا المشرفة على برنامج الإقراض من حيث دراسات الجدوى أو متابعة التنفيذ وتأكيد منهج الإجراءات السريعة وتقديم التسهيلات اللازمة لبدء تنفيذ المشاريع وحسم تبني مجموعة المشاريع المرشحة للإقراض (التوزيع المكاني والقطاعي) المعدة من قبل وزارة التخطيط.
تبدو الوثيقة في إطارها النظري أنها خارطة طريق واضحة وشاملة لكل قطاعات الدولة وجميع جوانب العمل (التنفيذية والتشريعية والرقابية, فضلاً عن العمل الأمني والإداري والاقتصادي), إلا أنها بحاجة إلى عمل ومساندة حقيقية وجهود حثيثة لكي تخرج من إطارها النظري إلى واقعها العملي, وبما يتناسب مع حجم التحديات وخطورة المرحلة الراهنة. ففي المحور الأمني جُعل تحرير الأراضي القابعة تحت سيطرة تنظيم "داعش" الهدف الأول للدولة العراقية في المرحلة المقبلة في مؤسساتها الأمنية. وهذا يتطلب استراتيجية أمنية وعسكرية متطورة ومدروسة, ومساندة حقيقة من الولايات المتحدة الأمريكية, وتتطلب أيضاً صرامة في محاسبة المقصرين, وإبعاد المؤسسة العسكرية من كل أشكال التسييس وضبط عناصرها, وتفعيل قانون الخدمة الإلزامية, وتأطير قوات الحشد الشعبي ضمن قانون المؤسسة العسكرية وقانون قوى الأمن الداخلي والعسكري, وإبعاد العناصر غير المنضبطة ومحاسبتهم, ومنع المظاهر المسلحة والزي العسكري في المدن الآمنة من غير العناصر الأمنية؛ لفرض هيبة الدولة والقانون وخلق الروح الوطنية والمهنية للجندي العراقي. كذلك تحتاج إلى استراتيجية واضحة لمرحلة مابعد "داعش" (مابعد التحرير). وفيما يتعلق بتنفيذ ماتبقى من بنود الاتفاق السياسي, فقد تحفظت عليه بعض الكتل ولاسيما الكتل السنية. وهذا قد يؤشر إلى إخضاع الوثيقة للمزايدات والقبول والرفض, خاصة وأن الكتل السياسية متمسكة بمواقفها الشخصية من الإصلاح, فالكتل الكردستانية تطالب بنسبة تمثيلها في الكابينة الوزارية بما يتناسب مع تمثيلها في البرلمان, أما الكتل السنية, فالبعض من مطالبها ربما يصطدم بالقانون والدستور, والبعض الآخر بإرادة الكتل الأخرى ولاسيما في التحالف الوطني, هذا فضلاً عن موقف التحالف الوطني من الإصلاح بشكل عام والوثيقة بشكل خاص, وبخاصة موقف أعضاء الحزب الحاكم الذي يبدو عليه الغموض نوعاً ما. وهذا ربما يكون عائقا أمام تنفيذ الاتفاق السياسي والإصلاح بشكل عام. أما بخصوص تعدد مصادر الدخل, وعلى مايبدو أن واحدة من مردودات الأزمة المالية وانخفاض أسعار النفط على العقل السياسي العراقي أنها خلقت قناعات قاطعة لدى صانع القرار العراقي بأنه لايمكن للدولة العراقية والاقتصاد العراقي أن يعتمد على جانب اقتصادي واحد, ولابد من تعدد مصادر الدخل وتفعيل دور القطاعات الأخرى (الزراعية والصناعية واستثمار الغاز الطبيعي المصاحب للنفط ودعم الصناعة الوطنية وحماية المنتج الوطني). وقد يكون الدور الرقابي والشفافية والنزاهة وتفعيل دور المجلس الأعلى لمكافحة الفساد هو الضابط الحقيقي لعمل الدولة العراقية وفق هذه الوثيقة إذا ما أريد لها النجاح الفعلي وتطبيقها على أرض الواقع, وهو ما يستلزم فتح ملفات فساد كبيرة في السنوات الماضية، ومحاسبة المفسدين والمتسببين في إهدار المال العام, والتي تسببت في تهالك البنية التحتية عبر المشاريع الوهمية. وعليه، يعد هذا المحور هو الضابط الأساس لعمل الحكومة والسلطات المختصة. وهذا يتطلب بالفعل تقديم الدعم لمنظمات المجتمع المدني، وتنشيط دور الإعلام المحايد لكشف الفساد ومحاسبة المفسدين.
وقد يكون للدستور وتفعيله دور كبير في دفع عجلة التقدم والمضي في الإصلاح, عن طريق تفعيل القوانين المعطلة, وتعديل بعضها بلجانٍ تشكل لهذا الغرض, وإعادة النظر ببعض القوانين في بنود الدستور والقوانين التي شرعت, وجعل الدستور المحرك الأساس للدولة العراقية وعدم تجميده وفق المزاجات السياسية. لكن هناك تساؤلا يُثار: كيف يمكن أن تمرر بعض القوانين أو تعدل أو تلغى إذا ما تعارضت مع رؤى بعض القوى السياسية الغاضبة من الإصلاحات ولاسيما أن الرؤية الوطنية والإرادة الجمعية حول الإصلاحات لم تتبلور بعد، وأن أغلب الأحزاب السياسية ما زالت متكتلة طائفياً وحزبياً داخل مجلس النواب؟.
أما فيما يخص مسألة التعينات والشفافية, فإنها تعد من المسائل المهمة التي تسببت بانهيار مؤسسات الدولة العراقية ولاسيما في المؤسسات العسكرية والقضائية والتعليمية؛ بسبب التسييس وتوزيع الوظائف بين الأحزاب السياسية. فتقاسم الحصص بين القوى السياسية قضت على المهنية والكفاءة والتخصص والخبرة في كل المجالات ولاسيما في الجوانب الأمنية والاقتصادية. وعليه، يعد تفعيل مجلس الخدمة الاتحادي واحدا من وسائل الشفافية, وكذلك الحال بالنسبة للتفعيل الالكتروني للتعيينات, التي تعد خطوة مهمة.
إذاً، تمثل هذه الوثيقة بالمجمل الفرصة الأخيرة والامتحان الحقيقي للحكومة العراقية والقوى السياسية أمام الشعب بعد أن سقطت كل الفرص. فالمماطلة في الإصلاح وعدم تنفيذ الوثيقة على أرض الواقع سيجهض الحكومة ويسقط كل الأحزاب والقوى من الخارطة السياسية, ولاسيما وأن زعيم التيار الصدري أصدر توجيهات لأنصاره في الاعتصام على أبواب المنطقة الخضراء في الأيام القادمة, وحينها ستكون الخيارات للشعب وليس للسلطة, وقد يترتب على هذا الإجهاض والاعتصام سيناريوهات خطيرة, ستؤدي إلى تعطيل الحياة وإشاعة الفوضى وربما قد تفضي إلى ولادة نظام جديد, بعد مرحلة الفوضى. وهذا ربما يمكن تداركه من خلال دعم الإصلاح، وتنفيذ الوثيقة بمشروع وطني من قبل القوى السياسية بعيداً عن ثقافة المحاصصة، واعتماد المواطنة والمهنية والخبرة والكفاءة، وجعلها الأساس الذي تقوم عليه الدولة العراقية. لكن مع كل هذا هناك تساؤلات تثار, وعلى أصحاب الشأن الإجابة عنها: هل إن القوى السياسية ما زالت تراهن على رؤيتها الضيقة في الإصلاح، أم إنها أدركت الأمر الواقع وستبادر إلى دعم الوثيقة والإصلاح والحفاظ على حظوظها وفرصتها الأخيرة أمام الشعب؟، ما هو السقف الزمني لهذا الوثيقة؟, وما هو البديل في حال فشلت هذه الوثيقة في تحقيق الإصلاح والبرنامج الحكومي؟، كيف ستتعامل الحكومة وصانع القرار مع الاعتصامات المنتظرة ولاسيما من قبل أنصار التيار الصدري؟.