محددات النشاط الاقتصادي العالمي وافاق النمو

في تقريره الاحدث عن افاق الاقتصاد العالمي، والصادر في يناير 2016، خفض صندوق النقد الدولي من توقعاته حيال معدلات النمو الاقتصادي في مختلف بلدان العالم. ويناقش التقرير بحذر ابرز التحديات المتوقعة لمسار الاقتصاد العالمي خلال العام الجاري والقادم، مع ابراز مختلف الاسباب الكامنة خلف انحسار الزخم التنموي الذي تقوده الاقتصادات الصاعدة. الاقتصاد العالمي والنمو المستعصي. اتسم النشاط الاقتصادي العالمي بالانحسار خلال العام الماضي بفعل تراجع معدلات النمو في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية للعام الخامس على التوالي، بينما لا يزال التعافي في الاقتصادات المتقدمة محدودا نظرا لاستمرار مضاعفات الازمة المالية العالمية عام 2008. وبشكل عام تسهم ثلاثة تحولات رئيسة في تقليص آفاق النمو الاقتصادي العالمي: 1- ضعف الاقتصاد الصيني. خيم تباطؤ النشاط الاقتصادي في الصين واستعادته للتوازن بالتدريج مع تحوله نحو الاستهلاك والخدمات بعيدا عن الاستثمار والصناعات التحويلية على المشهد المالي والاقتصادي العالمي. ويشهد النمو الكلي في الصين انحسارا بفعل تباطؤ حركة الواردات والصادرات بوتيرة أسرع من المتوقعة، وهو ما يرجع في جانب منه إلى ضعف نشاط الاستثمار والصناعة التحويلية. وتنتشر تداعيات هذه التطورات، إلى جانب مخاوف السوق بشأن أداء اقتصاد الصين في المستقبل، نحو اقتصادات أخرى من خلال قنوات التجارة وضعف أسعار السلع الأولية، وكذلك من خلال تراجع الثقة وتزايد التقلب في الأسواق المالية. 2- انخفاض أسعار الطاقة والسلع الأولية. يفرض انخفاض أسعار النفط ضغوطا على مراكز المالية العامة في البلدان المصدرة للنفط الخام ويلقي بأعبائه على آفاق النمو فيها، بينما يدعم الطلب في القطاع العائلي ويخفض تكاليف الطاقة على قطاع الأعمال في البلدان المستوردة للنفط الخام، خاصة في الاقتصادات المتقدمة، حيث ينتقل انخفاض الأسعار بالكامل إلى المستخدم النهائي. ورغم أن انخفاض أسعار النفط المدفوع بزيادة المعروض النفطي قد يدعم الطلب العالمي نظرا، لزيادة الميل إلى الإنفاق في البلدان المستوردة للنفط مقارنة بالبلدان المصدرة للنفط، فقد أدت عدة عوامل في ظل الظروف الراهنة إلى إضعاف التأثير الإيجابي لانخفاض أسعار النفط. فأولا: تمارس التحديات المالية في كثير من البلدان المصدرة للنفط دورا سلبيا على الموازنة والاقتصاد، يحد من قدرة هذه البلدان في استيعاب صدمة الاسعار، مما يستلزم تخفيض الطلب المحلي لديها بشكل كبير. وثانيا : كان لانخفاض أسعار النفط تأثير ملحوظ على الاستثمار في قطاع النفط والغاز، مما قلل كذلك من معدلات الطلب الكلي على مستوى العالم. وأخيرا، ظل تحسن مستويات الاستهلاك في البلدان المستوردة للنفط ضعيفاً مقارنة بفترات انخفاض أسعار النفط السابقة، وقد يكون ذلك نتيجة لاستمرار خفض التمويل بالديون في بعض هذه الاقتصادات. او بسبب محدودية انتقال آثار الانخفاض في الأسعار إلى المستهلكين. وهو ما يشكل عامل رئيس في اضعاف مستويات التحسن في العديد من اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. 3- تشديد السياسة النقدية في الولايات المتحدة. رفع اسعار الفائدة في الولايات المتحدة بالتدريج في ظل صلابة تعافي الاقتصاد الأمريكي خيم على افاق النمو الاقتصادي العالمي، خصوصا مع ما خلفه ذلك من زيادة في قيمة الدولار الامريكي وهو ما يهدد معدلات نمو الاقتصاد العالمي المتواضعة نظرا لموقع الدولار في ميزان التبادل التجاري العالمي. في المقابل، تواصل البنوك المركزية في العديد من الاقتصادات المتقدمة اعتماد سياسة التسهيل الكمي( تيسير السياسة النقدية)، اذ تمضي سياسة التيسير النقدي في منطقة اليورو واليابان على نطاق واسع كما كان متوقعا. وبوجه عام، لا تزال الأوضاع النقدية داخل الاقتصادات المتقدمة تيسيرية للغاية توخيا لمزيد من التحفيز الاقتصادي والمالي خلال العام الجاري. التنبؤات المحَدَّثة لصندوق النقد الدولي. افصحت توقعات صندوق النقد الدولي مؤخراً عن تباين واضح في خارطة النمو الاقتصادي العالمي، ورغم تعثر العديد من الاقتصادات القائدة للنشاط الاقتصادي، الان ان المشهد التنموي سيكون متباينا بشكل واضح. 1- الاقتصادات المتقدمة توقع صندوق النقد الدولي ارتفاع معدلات النمو في الاقتصادات المتقدمة بمقدار 0.2 نقطة مئوية في عام 2016 ليصل إلى2.1%، وأن يستمر بصورة مطردة في عام 2017. ويبقى النشاط الكلي محتفظا بصلابته في الولايات المتحدة، تدعمه الأوضاع المالية التي لا تزال ميسرة وأوضاع أسواق المساكن والعمل الآخذة في التحسن، غير أن قوة الدولار في الاسواق العالمية قد تلقي بأعبائها على نشاط الصناعة التحويلية، كما سيحد انخفاض أسعار النفط من الاستثمار في الهياكل والمعدات المستخدمة في قطاع التعدين. وفي منطقة اليورو، قد يرتفع الاستهلاك الخاص بدعم من انخفاض أسعار النفط ويُسْر الأوضاع المالية، مما يعوض الانخفاض في صافي الصادرات. ومن المتوقع أيضا أن يتعزز النمو في اليابان في عام 2016، استنادا إلى دعم المالية العامة، وانخفاض أسعار النفط، والأوضاع المالية التيسيرية المعتمدة من لدن البنك المركزي الياباني وتصاعد مستويات الدخول. 2-اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. يُتوقع ارتفاع معدلات النمو في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية من 4% في عام 2015 - وهو أدنى معدل منذ الأزمة المالية عام 2008- الى 4.3% و4.7% خلال عامي 2016 و2017 . وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي فان هذا التباطؤ في معدلات الزيادة في النمو ناجم عن: أ- انحسار معدلات النمو الاقتصادي في الصين إلى 6.3% في العام الحالي و6% عام 2017، نتيجة لضعف معدلات نمو الاستثمار، حيث يستمر الاقتصاد الصيني في استعادة توازنه ببطء. وتشير التوقعات عموما بشأن الهند وبقية بلدان آسيا الصاعدة إلى أنها ستواصل النمو بمعدلات قوية، وان كانت هناك بعض البلدان التي ستواجه تأثيرات معاكسة ناجمة عن التحول البنيوي في الاقتصاد الصيني وضعف الصناعة التحويلية في العالم. ب- تشير التوقعات الحالية بشأن أمريكا اللاتينية إلى انكماش إجمالي الناتج المحلي الكلي في العام الحالي، وان كان بمعدل أقل مما كان عليه في عام 2015 رغم النمو الإيجابي في معظم بلدان المنطقة. ويعود ذلك إلى الركود الاقتصادي الذي انتاب البرازيل وعدد من البلدان التي تمر بضائقة اقتصادية. جـ- رغم توقعات الصندوق بارتفاع معدلات النمو الاقتصادي عموما في الشرق الأوسط، الا ان تدهور أسعار النفط واستمرارها بالتذبذب، إلى جانب التوترات الجيوسياسية والصراعات الداخلية في بعض البلدان، ستشكل عاملا سلبا على آفاق النمو والاستقرار الاقتصادي والمالي المستقبلي في المنطقة. د- من المتوقع أن تحقق أوروبا الصاعدة نموا مطردا على نطاق واسع، وان سجلت بعض التباطؤ في العام الحالي، اذ تشير توقعات الصندوق إلى بقاء الاقتصاد الروسي تحت وطأة الركود خلال العام الحالي بسبب تواصل التكيف روسيا مع انخفاض أسعار النفط والعقوبات التي يفرضها الغرب. أما الاقتصادات الأخرى في كومنولث الدول المستقلة فيجرفها كذلك تيار الركود والتوترات الجيوسياسية في روسيا، وتتأثر في بعض الحالات بمسارات الضعف الهيكلي الداخلية وأسعار النفط المنخفضة؛ ومن المتوقع أن تحقق توسعا طفيفا في النمو خلال العام الحالي وأن تسرع الخُطى في العام القادم. هـ- قد تشهد معظم بلدان إفريقيا انتعاشا تدريجيا في معدلات النمو الاقتصادي، ولكن لن يتجاوز ذلك معدلات النمو المحققة خلال العقد الماضي، في ظل انخفاض أسعار السلع الأولية. ويرجع هذا الأمر في الأساس إلى التكيف المتواصل مع انخفاض أسعار النفط وارتفاع تكاليف الاقتراض، مما يلقي بعبء ثقيل على بعض أكبر الاقتصادات في المنطقة )أنغولا ونيجيريا وجنوب إفريقيا(، وكذلك على عدد من البلدان الأصغر حجما والمصدرة للسلع الأولية بشكل رئيس. ماذا تعني توقعات الصندوق للبلدان النفطية؟ لا تفصح بيانات الصندوق عن تحسن ملموس لمعدلات النمو الاقتصادي، وهو ما يقلص من فرص تزايد معدلات الطلب العالمي على النفط الخام خلال العام الحالي، مما يلزم البلدان المصدرة للنفط الخام (من داخل وخارج اوبك) الى توجيه البوصلة من جديد نحو الحصص الانتاجية عبر اتفاقات جديدة لمعدلات الانتاج وضبط ايقاع الامدادات النفطية وتقليص تخمة المعروض النفطي لإعادة اسعار النفط الى مستوياتها التوازنية. خصوصا وان هبوط اسعار النفط خلال الاعوام السابقة لم ينعكس في تعافي الاقتصاد العالمي بالشكل المتوقع. كما يتحتم على البلدان النفطية بذل المزيد من جهود التكيف مع شحة الايرادات النفطية وتنفيذ حزمة من الاصلاحات المالية والاقتصادية لاستيعاب زخم الصدمة النفطية والاستعداد لمزيد من التذبذبات والتحولات الهيكلية في سوق الطاقة العالمي. فضلا على اعادة التنظيم المالي والانسلاخ عن أنموذج الانفاق العام في تحقيق النمو والاستقرار الاقتصادي لصالح اشراك القطاع الخاص في عملية التنمية والتوظيف.
التعليقات