زاد اضطراب اسواق الصرف العراقية منذ اواخر العام الماضي نتيجة تشديد القيود على احتياطي البنك المركزي العراقي وتعزيز رقابة الاحتياطي الفيدرالي ووزارة الخزانة الامريكية على مبيعات الدولار للتحقق من المستفيد النهائي عبر نظام المنصة التدقيقية. وقد أسهم انخفاض مبيعات البنك المركزي الشهرية من قرابة (4 / مليار دولار/ شهر تشرين الاول الماضي) الى اقل من (1.2 مليار دولار / شهر كانون الاول الماضي) الى اتساع الفجوة بين السعر المثبت والسعر الموازي للدولار بأكثر من (15%) نتيجة تفاعل قوى العرض والطلب والتوقعات في اسواق الصرف.
ارتفاع مستويات الاسعار وعدم قدرة البنك المركزي على اعادة استقرار الاسواق قاد الاخير الى اعادة تقييم سعر صرف الدينار مقابل الدولار الى (1300=1$) بدلا من (1450=1$) في محاولة لكسر الاتجاه الصعودي لحركة الدولار وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد والاسواق. مع ذلك، عاودت اسعار صرف الدولار الارتفاع بعيدا عن السعر الجديد، ولم تستجب اسواق السلع ايضا لخفض سعر صرف الدولار نتيجة ابتعاد السعر الموازي للدولار عن سعره المثبت. ويمكن تقييم سياسة خفض سعر صرف الدولار التي اعتمدها البنك المركزي مطلع الشهر الماضي، بإيجاز، بالآتي:
1- خفض سعر صرف العملة المحلية سياسة مألوفة دوليا لتعزيز القدرة التنافسية وتحفيز النمو وتعظيم مصادر تمويل الموازنة العامة، في حين لم تعتاد الدول على رفع سعر صرف العملة المحلية خوفا من خسارة تلك المكاسب، والتسبب في اختلالات تطال الموازنة وميزان المدفوعات والاقتصاد الكلي عموما.
2- لا يتوقع ان يحقق خفض سعر صرف الدولار الاستقرار النقدي المنشود نظرا لاستمرار تفاعل قوى العرض والطلب والتوقعات في توسيع الفجوة بين السعر المثبت (الرسمي) والسعر الموازي (السوقي)، خصوصا مع استمرار قيود المنصة التدقيقية على مبيعات البنك المركزي من الدولار وتقييد عرض الدولار بما يقل كثيرا عن مستويات الطلب السوقية التي تطبع عليها الاقتصاد العراقي منذ سنوات.
3- يربط البعض رفع سعر صرف الدينار مقابل الدولار الى تعافي احتياطي البنك المركزي وتجاوزه حاجز (115) مليار دولار، في حين لا يجب اعتماد الاحتياطي الاجنبي للبنك مؤشرا لتغيير سعر الصرف باي حال من الاحوال، بل يجب ان يكرس لتعويض هبوط ايرادات النفط الدولارية الى دون حاجة الاسواق المحلية كما حدث عام 2020 حين تراجعت ايرادات النفط الى دون الربع عن معدلاتها الشهرية المعتادة.
4- تغيير سعر الصرف يجب ان لا يكون ضمن فترات متقاربة وان حدث ذلك يجب ان يكون لاعتبارات اقتصادية شديدة... في حين كان قرار رفع سعر صرف الدينار معاكسا تماما لسياسات التصحيح الهيكلي وتحفيز الانتاج والتشغيل لاقتصاد احادي مرتبط وثيقا بتقلبات اسعار النفط العالمية.
5- تم التحذير سابقا من ضرورة عدم اضافة قناة نقدية، للقناة المالية المعتادة، لنقل تموجات دورة الاعمال العالمية الى الاقتصاد العراقي... فقد تضرر الاقتصاد كثيرا من قناة الموازنة العامة عند تراجع اسعار النفط. وبعد التغييرات المتكررة لأسعار الصرف باتت القناة النقدية/ قناة سعر الصرف منفذ اخر لتسلل الصدمات الخارجية الى الاقتصاد الوطني.
6- من البساطة الاعتقاد بهبوط مستويات الاسعار الى سابق عهدها بسبب خفض سعر صرف الدولار الى (1300=1$)، نظرا لان جزء من ارتفاعات الاسعار مستورد من الخارج بسبب تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية وغيرها. كما ان الاسعار لزجة نحو الاسفل... اي غير مرنة صوب الانخفاض... فضلا عن تشوه الاسواق وضعف الرقابة وغياب المنافسة، كلها عوامل تقلل من الانخفاض المتوقع في مستويات الاسعار المحلية بسبب تخفيض السعر الرسمي للدولار.
7- لا يتسق اتجاه السياسة النقدية الجديد مع اتساع عجز الموازنة العامة لسنة 2023 نتيجة اضافة مئات الالاف من الموظفين وتوسيع ابواب الصرف لتعزيز البنية التحتية والخدمات، على العكس من ذلك، يضيف تخفيض سعر صرف الدولار أعباء ثقيلة على المالية العامة في العراق تقدر بأكثر من (15) ترليون دينار، تضاف الى العجز الافتراضي الناجم عن توسيع الشق الانفاقي في موازنة العامة.
8- تم اعتماد خفض سعر صرف الدولار كأداة لخفض التضخم... ويعلم الخبراء عدم وجود مثل هذه السياسة في حقيبة ادوات مكافحة التضخم المعتادة، بل يجب ان تستخدم ادوات السياسة النقدية والمالية المتنوعة للسيطرة على مستويات الاسعار. وان يكون تغيير سعر الصرف لأهداف اقتصادية كبرى كتنويع الاقتصاد ومراعاة تعادل القوة الشرائية مع الشركاء التجاريين وغيرها من قضايا التصحيح والاصلاح الاقتصادي.
9- يزيد خفض سعر صرف الدولار من القدرة التنافسية لدول الجوار على حساب انحسار قدرة العراق التنافسية نظرا لرخص الاستيرادات مقارنة بالمنتجات الوطنية، وبالتالي يوفر قرار رفع قيمة الدينار دفعة تحفيزية للشركاء التجاريين على حساب قمع المنتج الوطني، رغم قلته في الاسواق.
10- يحتاج البنك المركزي العراقي دولارات أكثر لشراء نفس الكمية من الدينار من الاسواق المحلية وفقا لسعر الصرف الجديد مما ينذر باستنزاف أسرع للاحتياطي الاجنبي للبنك المركزي إذا ما دافع الاخير عن سعر الصرف الجديد عند مستواه المثبت (1300=1$) بدلا من (1450=1$)، لتحقيق الاستقرار في مستويات الاسعار، خصوصا إذا ما شهدت اسعار النفط تراجعا حادا كما حدث عام 2014 وعام 2020.
11- معلوم ان خفض سعر صرف الدولار يؤدي الى ارتفاع اعباء الدين العام الداخلي (المقدر بأكثر من 70 ترليون دينار) والذي يسدد من ايرادات النفط الدولارية، وبالعملة المحلية، وهو عبء اخر على الاقتصاد الوطني ناتج عن خفض سعر صرف الدولار مقابل الدينار.
12- زيادة اللايقين حول اتجاهات اسعار الصرف يضعف من ثقة الشركات والاستثمار بالاقتصاد الوطني ويزيد من صعوبة حساب التكاليف والعوائد المستقبلية، خصوصا بالنسبة للاستثمار الاجنبي الذي يحول ارباحه للخارج بالعملة الاجنبية.
13- لا يمكن تبرير خفض سعر صرف الدولار بانه دعم لشريحة الفقراء ومحدودي الدخل، إذ يفصح الحساب الاقتصادي البسيط الى ان الاغنياء وتجار المال العام هم المستفيد الاكبر من السعر الجديد للدولار، لان العلاقة طردية بين امتلاك الاموال والاستفادة من الدولار الرخيص في العراق.
14- مرجح ان يعاد قريبا تغيير سعر الصرف إذا ما واجهت الحكومة ازمة تمويل جديدة بسبب تراجع ايرادات النفط في الاسواق العالمية، نظرا لمحدودية خيارات الحكومة في تعويض الفارق ما بين الاقتراض وفرض ضرائب على الموظفين او خفض سعر صرف الدينار لتمويل العجز كما حدث نهاية عام 2020.
15- لا يمكن تبرير سياسة خفض سعر صرف الدولار بانها دعم للدينار العراقي، على العكس من ذلك، حينما يتم تغيير سعر الصرف بشكل عشوائي وخلال مدد متقاربة تفقد العملة نسبيا أحد اهم وظائف النقود كونها مخزن لحفظ القيمة. خصوصا مع ارتباط قيمة الدينار بضغوط السياسة واسعار النفط والوضع المالي الهش للموازنة... وكافة هذه العوامل متأرجحة في العراق.