لا يمكن توقع عودة التضخم إلى الهدف المُحدد من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي والبالغ (2٪) قريبا، لكن يمكن توقع كبح جماح التضخم وابقائه ضمن الخانة الواحدة
للمرة الخامسة خلال عام 2022، رفع مجلس الاحتياطي الاتحادي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة بنسبة (0.75%) لتصل الى نطاق (3.25-3%)، وهو أعلى معدل فائدة في الولايات المتحدة منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. جاء ذلك نتيجة اختلالات العرض والطلب الناجمة عن تداعيات تفشي كورونا، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، وضغوط الحرب الروسية في أوكرانيا التي خلفت تداعيات خطيرة على الاسواق العالمية. ويمثل قرار رفع أسعار الفائدة الخطوة الأكثر صرامة في سياسة بنك الاحتياطي الفيدرالي في حربه ضد التضخم منذ الثمانينيات، في محاولة لكبح جماح التضخم في الولايات المتحدة بعدما تجاوز حاجز (8%) وهو المعدل الاعلى خلال اربعين عام في الولايات المتحدة.
العوامل المولدة للتضخم في الولايات المتحدة
يثير استمرار الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة والعالم القلق نتيجة عدم قدرة ادوات السياسة النقدية في السيطرة على ارتفاع الاسعار رغم قيام البنك الاحتياطي الفيدرالي برفع اسعار الفائدة لخمس مرات في عام واحد، مما يوحي بتنوع وتداخل الاسباب المولدة للتضخم عالميا، والتي يمكن حصر ابرزها فيما يلي (1):
أولا: اختناقات سلاسل التوريد
كان لجائحة (COVID-19) تأثيران مختلفان على سلاسل التوريد العالمية، ففي المرحلة الأولى، أدت تدابير الإغلاق الكبير والقيود على حرية الحركة إلى انقطاعات حادة في مختلف سلاسل التوريد، مما تسبب في نقص الإمدادات على المدى القصير. وتلاشى الكثير من هذه الانقطاعات، وإن كان الارتفاع الأخير في أعداد الإصابات بسلالة أوميكرون في الصين وغيرها قد أدى إلى تجدد الضغوط على بعض سلاسل التوريد. أما في المرحلة الأخيرة من الجائحة، فقد شهدت مختلف سلاسل التوريد اختناقات جديدة. وبحسب دراسات حديثة يتوقع ان تستمر ضغوط اختناقات سلاسل التوريد لمدة اطول قبل ان تعود لمستويات ما قبل الجائحة.
ثانيا: تحول الطلب من الخدمات إلى السلع
أدت جائحة (COVID-19) إلى تحول حاد في طبيعة المشتريات الاستهلاكية، حيث سجل الإنفاق على السلع ارتفاعا كبيرا على حساب الانفاق على الخدمات. وبالتالي فإن جزءا كبيرا من الزيادة الأولية في معدلات التضخم يعزى إلى تضخم السلع المعمرة (مثل السيارات المستعملة)، بينما سجل تضخم الخدمات ارتفاعا طفيفا. ورغم أن التحول تجاه السلع المعمرة كان ظاهرة عالمية، فإن تأثيره ربما كان ملحوظا بدرجة أكبر في بعض البلدان (بفضل انتعاش سوق السيارات المستعملة في الولايات المتحدة على سبيل المثال).
ثالثا: حزم التحفيز الاقتصادي
تم الإعلان عالميا عن تدابير مالية بقيمة (16.9) تريليون دولار أمريكي لمكافحة الجائحة، وكان الدعم المقدم أكبر نسبيا في الاقتصادات المتقدمة. ففي الولايات المتحدة وحدها، تم تطبيق مجموعة من تدابير التنشيط المالي بقيمة (1.9) تريليون دولار أمريكي في اطار خطة الإنقاذ الأمريكية. وقد حذر عدد من الخبراء من مخاطر التدابير التنشيطية الضخمة المقترنة بتيسير الأوضاع النقدية لما قد يسببه هذا المزيج من ارتفاع مزمن في معدلات التضخم. وقد فاقم الامر استغلال الأسر للمدخرات التي قامت بمراكمتها في بداية الجائحة (بما في ذلك التدابير التنشيطية والتحويلات)، مما أدى إلى زيادة مفاجئة في الطلب الكلي وتعاف اقتصادي أقوى من المتوقع.
رابعا: صدمة عرض العمالة
لا تزال الانقطاعات في أسواق العمل نتيجة جائحة (COVID-19) مستمرة حتى بعد مرور عامين على بدايتها. فلا تزال نسب المشاركة في القوة العاملة دون مستويات ما قبل الجائحة في عدد من البلدان. وفي الاقتصادات المتقدمة، شهدت الولايات المتحدة تأثيرا أكبر نسبيا، حيث تراجعت نسب المشاركة بحوالي (1.5%) عن مستويات ما قبل الجائحة فقد انخفض عدد العمالة بحوالي (4) ملايين تقريبا. وتشير بعض الدراسات إلى أن الجزء الأكبر من عجز العمالة سيستمر على الأرجح خلال الفترة المقبلة حتى وإن جاءت النتائج متفائلة في أعقاب جائحة (COVID-19)، وسيكون لهذا العامل دورا كبيرا في الضغوط التضخمية التي ستشهدها الولايات المتحدة لفترة قادمة.
خامسا: صدمات إمدادات الطاقة والغذاء
أدى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، مما ساهم في زيادة معدلات التضخم عالميا. وتعد روسيا وأوكرانيا من مصدري السلع الأولية الرئيسية، وقد أدت الانقطاعات الناتجة عن الحرب والعقوبات إلى ارتفاع حاد في الأسعار العالمية، ولا سيما قطاع النفط والغاز الطبيعي. وسجلت أسعار الغذاء ارتفاعا مفاجئا أيضا، فقد ارتفعت أسعار القمح إلى مستويات غير مسبوقة، وتمثل أوكرانيا وروسيا قرابة (30%) من صادرات القمح العالمية. وقد تؤدي هذه التداعيات إلى استمرار التضخم لفترة أطول من المتوقع. وسيكون التأثير أكبر على الأرجح في البلدان منخفضة الدخل واقتصادات الأسواق الصاعدة حيث تمثل الأغذية والطاقة النسبة الأكبر من الاستهلاك والتي تصل في إفريقيا على سبيل المثال الى قرابة (50%).
توقع اتجاهات الاسعار
بالعودة الى عنوان المقال هل يمكن السيطرة على التضخم في الولايات المتحدة؟ اشرنا سابقا الى تنوع العوامل المؤثرة في توليد التضخم في الولايات المتحدة. فيما يخص عوامل اثارة الطلب يُتوقع أن يؤدي التشديد النقدي والمالي الجاري إلى تخفيف الطلب على كل من الطاقة والسلع في الولايات المتحدة، وخاصة في الفئات الحساسة لأسعار الفائدة مثل السلع الاستهلاكية المعمرة. ومن شأن هذا أن يؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع بوتيرة أبطأ أو حتى إلى هبوطها، وقد يدفع أيضا بأسعار الطاقة إلى مستويات أدنى ما لم تطرأ اضطرابات أخرى في أسواق السلع الأولية. اما بخصوص عوامل العرض فهي خارج سيطرة مجلس الاحتياطي الفيدرالي، ومع ذلك، فإن الاقتصاد الأمريكي في وضع يسمح له بالتغلب على هذا النوع من التضخم، نظرًا لاستقلاله النسبي في مجال الطاقة والغذاء، ووفرة العمالة، والقدرة الإنتاجية العالية. ويُتوقع أن تقل الضغوط على جانب العرض مع انحسار جائحة (COVID-19) وانخفاض معدل الإغلاقات العامة في الصين.
واخيرا، لا يمكن توقع عودة التضخم إلى الهدف المُحدد من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي والبالغ (2٪) قريبا، لكن يمكن توقع كبح جماح التضخم وابقائه ضمن الخانة الواحدة. وبشكل عام تتوقف شدة واستمرارية الضغوط التضخمية في الولايات المتحدة والعالم على عاملين:
الاول: استمرار اختناقات سلاسل التوريد وضيق أسواق العمل واستجابة البنوك المركزية.
الثاني: استمرار الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على أسعار الطاقة والغذاء والنمو العالمي.
المصادر:
1- روشير أغاروال ومايلز كيمبول ، هل يظل التضخم مرتفعا، مجلة التمويل والتنمية، صندوق النقد الدولي،عدد حزيران 2022، ص24.
اضافةتعليق